تقدم كتب تراثنا الإسلامي حياة عمار بن ياسر على أنها عامرة بالتضحيات، مليئة بالمُثل ومترجمة لأخلاق الإسلام، ويعتبر شخصية تاريخية، تمثل في جميع ما مرّ بها، أسوة حسنة. فتذكر أنه كان من السباقين إلى الإسلام ومن صحابة النبي هو وأسرته. هاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وشهد مع علي بن أبي طالب موقعة الجمل وصفين، وقتل يوم صفين وله واحد وتسعون عاماً، وقيل أربعة وتسعون. ويعتبر عمار بن ياسر من المسلمين الأوائل، فهو أحد سبعة دخلوا الإسلام في بدايته، في دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كانت تسمى دار الإسلام. فأسلم هو وأبوه ياسر وأمه سمية، أول شهيدة في الإسلام.
ويورد ابن اسحاق أن قريشاً تفننت في إيقاع العذاب بتلك الأسرة المسلمة، فأذاقتها كل ألوان وصنوف العذاب. وكان النبي يمر عليهم ويخفف عنهم بقوله: "صبراً آل ياسر، فإن مثواكم الجنة". وبعد وفاة الرسول وقف عمار إلى جانب علي بن أبي طالب، وكان أحد المقربين منه، قاتل معه في الجمل وصفين وقتل يوم صفين، وتحققت نبوءة النبي لعمار بأنه تقتله "الفئة الباغية"، فهل تم تحديد هذه الفئة، كما توردها المصادر؟
"جلدة بين عيني وأنفي"
حاز عمار على منزلة عظيمة عند النبي وآل البيت، وقد عد من أخلص أصحاب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كما يذكر ابن حجر العسقلاني في كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة". ويرد في كتاب "سيرة ابن هشام" أن عمار عرف بسابقيته إلى الإسلام وشهد بدراً وقتل فيها خمسة من رؤوس الكفر، منهم الحارث بن الحضرمي. كما شهد أحد والخندق وأبلى بلاء حسناً. وكان من السابقين إلى الإسلام، فقد كان من السابقين للوقوف ضد الباطل واللحاق بجهة الحق المتمثلة في علي أبن أبي طالب.
تقدم كتب تراثنا الإسلامي حياة عمار بن ياسر على أنها عامرة بالتضحيات، مليئة بالمُثل ومترجِمة لأخلاق الإسلام، فهو وأسرته من السباقين إلى الإسلام ومن صحابة النبي
ولقد سار عمار على نهج النبي بعد وفاته، كما يذكر الذهبي في كتاب "سير أعلام النبلاء"، وأخذ على عاتقه مسؤولية مواصلة الإسلام على النهج النبوي الذي أوصى به وهو إتباعه وصية علي بن أبي طالب، فبقي وفياً لبيعته، وتذكره قول رسول الله: "ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه فإنه مع الحق والحق معه".
وقول النبي: "يا عمار إنك ستقاتل بعدي على صنفين، الناكثين الناكثين والقاسطين، ثم تقتلك الفئة الباغية". ومن هنا فكان عمار يقول لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر (أي البحرين) لعلمنا إنا على الحق.
ويذكر ابن سعد في كتاب "الطبقات الكبرى"، أن النبي كرمه في حياته بأقوال وأحاديث خالدة لعل من أشهرها: "دم عمار ولحمه وعظمه حرام على النار"، وأيضاً قوله: "من عادى عماراً عاداه الله ومن أبغض عمار أبغضه الله"، وقوله: "إنك لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية ويكون آخر شربة لك في الدنيا من لبن"، أخرجه الترمذي في المناقب، وذكر رسول الله الفتنة، فقيل له: إذا اختلف الناس فبم تأمرنا؟ فقال عليكم بابن سمية، فأنه لن يفارق الحق حتى يموت.
يراد من هذه الأحاديث أن تثبت بوضوح أن عمار كان مع "فئة الحق"، أي إلى جانب علي أبن أبي طالب ضد "الفئة الباغية"، معاوية ومن تحالف معه، والتدليل أيضاً على منزلة عمار من النبي وآل البيت، خاصةً وأن النبي قال فيه: "عمار جلدة بين عيني و أنفي" كما ورد في سيرة ابن هشام.
موقف عمار من الفتنة
يشير أسامة ابن أحمد سلطان في كتاب "عمار بن ياسر: رجل المحنة وميزان الفتنة"، إلى أن عمار كان ينتظر من الأمة، وقد سلمت بتقديم أميرها وأهليته، أن تدين له بالولاء والطاعة كما دأبت لمن قبله، وأن تتقبل اجتهاداته وتلتزم بها كما تقبلت اجتهادات غيره والتزمت بها، فلقد غدا إماماً شرعياً تجب طاعته في غير معصية الله، وغدت اجتهاداته أمراً لا مناص من التزامه ما دامت لا تخرج عن شرعة الله.
لكن يفاجأ عمار بن ياسر بما لم يكن في الحسبان، فقد خرج طلحة والزبير وعائشة يطالبون بدم عثمان بعد أن استشعروا تقصيراً في نصرته، ولم ير عمار تهاوناً من علي في المطالبة بدم عثمان، وكان المفترض على أولياء الدم الذين تمثلوا في أولاد عثمان أن يطالبوا به. ولأنه أراد السير في ركاب الحق، فقد عزم على نصرة علي وعدم التخلي عنه ما وسعه من جهد، حتى لو كلفه هذا إزهاق روحه.
وعندما رفض معاوية وأهل الشام مبايعة على للمرة الثانية، عزم عمار على مرافقة علي ومساندته ضد أهل الشام ويسير مع جيشه من العراق، يحدوه قول الآية (سورة الحجرات): "فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله". ودار القتال بين الفريقين علي ومعاوية، ما أظهر أن موقف عمار ثابت وواضح، لم تخالطه الأهواء ولم تزعزعه الأجواء.
وأورد العسقلاني أنه كان يهتف بصوته: "من سرّه أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسباً"، وأنه ظل يقاتل مع الرجالة تارة ومع الفرسان تارة أخرى، تملأ هتافاته أرجاء الميدان، وتظل الأمة تنتظر مصرعه لترجح كفة الحق في الميزان، ثم لا تلبث حتى يطرق مسامعها مقتل عمار بن ياسر: قتلته الفئة الباغية.
لقد كان قتل عمار شديداً على جيش علي بن أبي طالب، وأشد على جيش معاوية، لأن الرسول أخبر أن عماراً تقتله الفئة الباغية، وهذا ما أشعل جدالاً بين الفقهاء لتحديد من هي هذه الفئة
وفي هذا السياق نشير إلى أن قتل عمار كان شديداً على جيش علي بن أبي طالب، وأشد على جيش معاوية، لأن الرسول أخبر أن عمار تقتله الفئة الباغية، وها هو يقتل على أيديهم. وهنا يشير الطبري إلى قول عبد الله بن عمرو بن العاص لأبيه: "قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال فيه رسول الله ما قال، قال معاوية: لسنا من قتلنا عماراً، بل قتله من جاء به إلى هنا".
فالفئة الباغية في نظر معاوية هي التي أتت بعمار إلى صفين، وهم مسؤولون عن قتله. وعلى الطرف المقابل يُنظر إلى جيش معاوية على أنه الفئة الباغية التي قتلت عماراً وهو شيخ في التسعين من عمره، وهو "يقف إلى جانب الحق الذي هو مع علي، لأن الرسول قال إن الحق مع علي حيث دار". إذاً كان عمار شاهد عيان على الفئة الباغية، لكن قاتله المفترض شخصية لم يؤكدها المؤرخون ولم يتفق حولها الفقهاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 5 ساعاتأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 11 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com