من السذاجة الزعم أن نشوء العقيدة الأنجليكانية، في بدايات القرن السادس عشر، كان سببه الأوحد، رغبة الملك هنري الثامن بتطليق زوجته الأولى كاثرين أراغون، لعدم إنجابها أبناء ذكوراً، ووقوف بابا روما وقتها، كليمانت السابع، بوجه مسعاه، خصوصاً وأن الملك الجامح كان على علاقة غير شرعية مع آن بولين، الوصيفة الشرفية لزوجته الملكة.
لا شك أن بلاط هنري الثامن قد شهد الكثير من الدسائس والفضائح، والتي ألهمت وليام شكسبير فيما بعد، بكتابة مسرحيته الشهيرة عنه، لكن الجانب الشخصي لقرار التمرد على سلطان روما والانفصال عنها، كان أحد جوانب واعتبارات متعددة، اقتصادية وسياسية واجتماعية، إقليمية ومحلية، أدت في المحصلة لإعلان استقلال "كنيسة إنكلترا"، وتأسيس المذهب الأنجليكاني، الذي انضوت تحت لوائه فيما بعد كنائس محلية أخرى، ويزيد عدد أتباعه اليوم على ثمانين مليوناً، منتشرين في أكثر من مئة وستين دولة، وهو ما يجعله ثالث أكبر المذاهب المسيحية بعد الكاثوليكية والأرثوذوكسية.
كاثوليكية بلا بابا (؟)
واجهت الكنيسة الأنجليكانية منذ بداية تأسيسها وما زالت تواجه أزمة هوية، حتى أطلق البعض عليها "كاثوليكية بلا بابا"، الأمر الذي أتاح لها ربما أن تمتاز عن سواها بنهج متفتح، إذ كانت من أولى الكنائس التي سمحت برسامة النساء، ثم قامت بعض المقاطعات التابعة لها بتعيين أساقفة مثليين، وقبلت بمشاركة المثليين في الصلوات، بل أنها أقرت مباركة زواج المثليين (على أن يتم مدنياً).
كما اعترفت بالارتباط المدني بين الشركاء المغايرين، لكن ثمن تلك الإصلاحات كان فادحاً لدرجة أن وحدة الكنائس الأنجليكانية اليوم توشك على الانهيار، إثر اتساع هوة الخلافات بين الصقور والحمائم فيها، وتشهد معظمها تراجعاً في أعداد المؤمنين، وهو ما دفع البعض الى التنبؤ بانقراض المذهب في المستقبل.
كانت لأزمة الهوية التي واجهتها الكنيسة الأنجليكانية الأثر الأكبر على نهجها المتفتح، فكانت الكنيسة الأولى التي سمحت برسامة النساء وتعيين أساقفة مثليين ومباركة زواج المثليين عبر ارتباط مدني
كان من البديهي عند قدومي الى نيوزلندا، قبل أكثر من عشر سنوات، أن أتعرف على أصدقاء من معتنقي الأنجليكانية، فالبلد، وإن كان علمانياً رسمياً، ما زالت ثقافته مرتبطة الى حد كبير ببريطانيا التي قدم منها المستوطنون الأوائل، وهو عضو في منظومة الكومنولث أيضاً. بمرور الوقت، تعمّقت علاقتي مع أصدقائي الأنجليكان، وامتدّت حواراتنا الى تفاصيل عقيدتهم وتعاليمها، وازدادت معها حيرتي وأسئلتي.
فبالرغم من قراءاتي عن الأديان والطوائف المختلفة، واطلاعي على طقوس بعضها شديدة الغرابة، كان بوسعي دائماً تفهّم دور الغرائز البشرية وراءها (أو ربما أمامها؟) فالعقائد تختلف عن بعضها البعض في التعاليم والطقوس، لكنها جميعها محاولات للإجابة على ذات الأسئلة: من نحن؟ من أين جئنا، وأين سنذهب بعد الموت؟
من هنا كانت دهشتي وأنا أنصت إلى إجابات أصدقائي الأنجليكان على أسئلتي، فعدا عن عدم اكتراثهم بقصة ولادة المسيح من غير أب، أو عذرية والدته التي تُعتبر بدورها شخصية هامشية بالنسبة لهم، وجدتهم غير مهتمين بزيارة الأراضي "المقدسة" وتتبع خطى القديسين أو مشاهدة الآثار واللقى المعروضة عن تلك العهود، كما أنهم لا يؤكدون ولا ينفون وجود خالق متناهي القدرة من الأصل.
من منظورهم، الطبيعة وحدها مسؤولة عن الكوارث، والإنسان وحده مسؤول عن مسار حياته وصحته وتحصيل رزقه وسائر أفعاله، ولا إيمان هناك بحياة بعد الموت أو وجود جنة أو نار، وعندما كانوا يرون معالم حيرتي، يقولون إن المسيح بالنسبة لهم رفيق درب يستنيرون بدلالات الروايات المنقولة عنه في "العهد الجديد"، حتى فاض بي الكيل ذات مرة، وسألتهم: "فما حاجتي إذن، كإنسان معرّض لشتى أنواع المخاطر، لشبح كئيب يرافقني في حلّي وترحالي، دون أن يملك لي ضراً أو نفعاً؟".
أغرب من ذلك أن أصدقائي الأنجليكان لا يشغلون أنفسهم بالتحقّق مما هو مذكور في نصوصهم، بما في ذلك وجود يسوع فعلياً، صلبه وحتى قيامته التي هي في جوهر عقائد الكنائس الأخرى، وإن كانوا يحتفلون بعيدي الميلاد والفصح. كما تخلو كنائسهم، ذات العمارة شديدة التواضع، من التماثيل والأيقونات التي تمتاز بها الكاتدرائيات الكاثوليكية والأرثوذكسية المهيبة.
مفاهيم العقيدة الأنجليكانية
كل تلك المفارقات جعلتني أفكر في الاتصال بأحد رجال الدين الأنجليكان هنا، عله يوضّح لي ما اختلط من مفاهيم عقيدته، إذ ربما كان حديثي مع أشخاص غير مختصّين ومتأثرين بعلمانية مجتمعهم السبب في اضطرابي. ولذلك قمت بمراسلة القسّين "بروس كيلي" و"دايان ميلر- كيلي"، اللذين تمت رسامتهما معا كزوجين في منتصف السبعينيات، لمحاورتهما، فرحّبا بالفكرة ووافقا على الإجابة على أسئلتي.
- عندما شرعت في الكتابة عن الموضوع، خطر لي أن أعنون نصي "الكنيسة الأنجليكانية: مسيحية بلا دين"، كرجل وسيدة دين، هل كنتما ستستاءان من قراءة ذلك العنوان؟
لو أحاط مزدوجان بكلمة "دين"، فالمقصود بذلك ربما هو انفتاح الكنيسة وتحدّيها للمفهوم المتزمت والدوغمائي للعقيدة، وهو ما نتفق معه، وإن خالفه بعض منتقدي الأنجليكانية الذين يصفونها أحياناً بـ"دين بلا مسيحية"، لكن الكنيسة في العموم طقسية العبادة، ولها كتب صلاة وموسيقى كورال، بالإضافة لوجود نظام كهنوتي تراتبي ذي أردية ومهام محددة.
- هل الأنجليكان مطالبون بالإيمان المطلق بألوهية يسوع وصلبه وقيامته؟ هل وجود شكوك أو حتى إنكار لأي من ذلك يؤدي لإسقاط عضوية الفرد في الكنيسة؟
الكنيسة تتيح لأتباعها مساحة واسعة لفهم اللاهوت، وتستوعب الأفكار الأرثوذوكسية الصارمة، جنباً الى جنب مع الرؤى المشكّكة، لكن "قصة يسوع" وأحداث القرن الميلادي الأول تبقى في مركز العقيدة، بما في ذلك تجسّده البشري وصلبه وقيامته، دون إلغاء لحرية الفكر في التساؤل والشك، وحتى صياغة مفاهيم وترجمات مختلفة للأحداث الواردة في النصوص.
- ما هو منظور الكنيسة عن القديسين، وهل تعترف بقديسي الكنيستين الأرثوذوكسية والكاثوليكية؟
نُجلّ القديسين (الأوائل والمُستجدّين) ونحيي أعياد عدد منهم، لكننا نخالف الأرثوذكسية والكاثوليكية في احتفائنا بشجاعتهم وتقواهم كبشر مثلنا، فلا وجود في كنيستنا لمراسيم التطويب المعتمدة في روما مثلاً، كما أننا لا نسأل القديسين الشفاعة. وفي العموم، كل إنسان يظهر محبة خالصة للرب في حياته هو قديس.
القسّان كيلي لرصيف22: تراجع أتباع الكنيسة الأنجليكانية هو جزء من تراجع المسيحية الغربية بالعموم، ومقابل هذا نرى الاهتمام المتزايد بالروحانية مؤشراً مبشراً، فشيوع الخير هو هدف الكنيسة حتى لو كان ثمنه تقلص أتباعها
- بالرغم من ليبرالية الكنيسة، يبدو أنها تعاني في الحفاظ على استقرار عدد أتباعها، هذا عدا عن صعوبة جذب مريدين جدد. كيف تقرأان مستقبل الأنجليكانية في ظل ذلك؟
المسيحية الغربية في المجمل تعاني من تراجع أعداد التابعين، وقد يكون وراء ذلك تزعزع الثقة في المؤسسات الدينية عموماً، وكذلك انتشار العلمانية وشحّ الموارد، لكن ذلك يقابله اهتمام متزايد بالروحانية، وهو مؤشر مبشّر، فشيوع الخير في العالم هو ما تسعى إليه الكنيسة، حتى لو كان ثمنه تقلّص أعداد المُصلّين فيها.
- لطالما تأرجحت الكنيسة في تعاليمها وطقوسها بين الكاثوليكية والبروتستانتية/الإصلاحية، فهل بلغت الأنجليكانية موضع توازنها، أم أنها ما زالت تتأرجح؟ أين تريانها تقف اليوم؟
تضم الأنجليكانية كنائس مناطقية تتفاوت في معتقداتها وممارساتها، كما أشرنا في البداية، تقارب بعض الكنائس الكاثوليكية أكثر، والبعض الآخر البروتستانتية، لكن الغالبية تتركّز في المنتصف. لذلك، الأنجليكانية ما زالت تتطوّر رغم معاناتها من انقسام بين قراءات ليبرالية للكتاب المقدّس (رسامة النساء، قبول المثليين، تقبّل الأديان الأخرى، الخ...) مقابل ترجمات أخرى أكثر محافظة، وأحياناً حرفية للنصوص.
- ما هو تعريف الأنجليكانية للصلاة أو الدعاء؟ لدي أصدقاء أنجليكان يرفضون التوجه بالدعاء الى الله، لأنهم يعتبرون أن تحقيق الأماني ليس من ضمن مهامه، لكنهم على الجانب الآخر حريصون على طلب البركة قبل كل وجبة، حيث يقرّون بأن الطعام عطية من الخالق. هل لكما أن تفسرا لي ذلك التناقض؟
منظورنا للصلاة أنها استجابتنا لطبيعة الرب المُحِبة، قد تكون لفظية وقد تكون صامتة، جماعية أو فردية، أما الدعاء فيشكّل جزءاً بسيطاً منها، ويحكمه فهم السائل لقدرة الإله ضمن إطار قوانين الطبيعة، بينما تهدف صلاتنا قبل الوجبات إلى إبداء الشكر، وهو أمر أساسي في تعاليم المسيحية، كنقيض للغطرسة والانقياد لسلطة الذات.
- كيف تتناول أدبيات الكنيسة شخصية ودور مؤسسها، هنري الثامن، المثير لكثير من الجدل؟
يكاد يكون هناك تجاهل تام له ولدور نرجسيته في ظهور الأنجليكانية، حتى أن كثيراً من أتباع الكنيسة اليوم لا يعرفون شيئاً عنه وعن زواجاته المتعددة. لقد كان وحشاً بشرياً، وارتكب أفعالاً وجرائم مريعة بدافع من ذات متضخمة، لا يقل حجمها عن ذات دونالد ترامب، لكن الأول تمتّع بسلطة غير محدودة. أما الاستقلال عن روما فكان مسألة وقت، لو لم يفعله هنري الثامن، لقام به سواه.
القسان كيلي لرصيف22: تتجاهل الكنيسة الأنجليكانية دور هنري الثامن في ظهورها بشكل تام، نعتبره وحشاً بشرياً متضخم الأنا، أما الاستقلال عن روما فكان مسألة وقت، لو لم يفعله هنري الثامن، لقام به سواه.
- ما هو مفهوم الكنيسة للآخرة، وما طبيعة السيناريو الذي تعتمده لما يحدث بعد الموت؟
موت وقيامة يسوع يوحيان لنا أن الموت ليس نهاية الرحلة، لكننا لا نتوقف طويلا عند فكرة وجود يوم للحساب تتم فيه مكافأة البعض وتعذيب البعض الآخر. الحقيقة أن إدراكنا محدود جداً للألغاز المحيطة بنا، ومن بينها ما يحدث بعد الموت، ولذلك فنحن نؤمن بأن "الله" و"المحبة" صنوان، ونفكّر في الموت بيقين المطمئنين بأن كل شيء سيكون على ما يرام، ليس فقط بالنسبة لنا، لكن لسائر البشر.
شكرت الزوجين كيلي على الحوار، واحترمت أنهما لم يستغلا الفرصة للتبشير بعقيدتهما على حساب الموضوعية، وإن جاءت بعض إجاباتهما دبلوماسية، وهو أمر مفهوم، لكن حديثهما عن الروحانية التي بدأت بالحلول محل الدين في كثير من المجتمعات الغربية تحديداً، جعلني أتساءل مع نفسي إن كنا سنشهد في المستقبل تراجعاً في أعداد المسلمين أيضاً، وكيف سيؤثر ذلك على المشهد المجتمعي في مدننا العربية والإسلامية. في الوقت الحالي، قد يبدو الأمر مستبعداً جداً، بل ضرباً من الهلوسة، لكن 2020 وما حملته من مفاجئات وتحولات، أفضل (أو أسوأ؟) برهان على أن الخيالات ليست بعيدة عن التحقّق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...