شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مانيفستو الاغتراب... لنصنع وطننا الجميل على واتساب

مانيفستو الاغتراب... لنصنع وطننا الجميل على واتساب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 29 أغسطس 202011:46 ص

إعادة البناء ترتبط حصراً بالفقدان. عندما نفقد عملنا مطرودين نبدأ بإعادة بناء سيرنا الذاتية. عندما يفقد شاب حبيبته لصالح رجل آخر، تبدأ عملية إعادة بناء رجولته...

وعندما نخسر أصدقاءنا والمقرّبين منا بشكل متواتر سريع، وخلال بضعة أشهر، نجد أنفسنا وحيدين مع هاتف وقائمة اتصال جلّ مَن فيها أصبحت خطوطهم خارج الخدمة. نتذكر صديقاً أو صديقة. نتصل به/ ا فتقابلنا الفتاة من مزود الخدمة: عذراً، الرقم المطلوب خارج الخدمة حالياً. عندها سنبدأ أيضاً ببناء حاضر جديد.

نوستالجيا

ملايين الشرق أوسطيين تحوّلوا إلى لاجئين. تشتت شمل الأسر والأصدقاء، وانتشروا في بقاع الأرض يندبون وطناً هجره أهله. أي وطن نندب يا صاح؟ ليس للفقراء وطن. أعتذر من صفية. الوطن هو أن يحدث ذلك كله: الغربة واللجوء، الخدمة الإلزامية وحكم العسكر، التوريث ووهن نفسية الأمة.

هذا هو الوطن الذي عشناه يا صفية. فوضى المطارات ومراكز الخدمة، سوء النظام الصحي والجامعات الباردة. هذا هو الوطن وهو يختلف عمّا تعلمناه في مدارسنا منذ الطفولة. الوطن الذي حدّثونا عنه، الوطن الدافئ المعطاء الذي يحمي أبناءه ويحفظ كرامتهم، اكتشفت أنه مجرد فقرة تعليمية لن أستعملها يوماً في حياتي.

عامان مضيا عليّ في الاغتراب، مع بضع زيارات إلزامية إلى الوطن بحكم قوانين الفيزا. لم أشتق لياسمين دمشق الذي لم أره في حياتي، ولا إلى ساحل اللاذقية المحرّم على أبنائها. اشتقت لصديق بقي في البلاد، وكوكتيلات الفواكه في دمشق.

لم أشعر بالحنين ولا هرعت في لحظة جنون سينمائية إلى الخزانة وبدأت ألقي ملابسي في الحقيبة للعودة والسير في شوارع مدينتي وشم ترابها. طبعاً، مع تجاوز فكرة أني لا أملك ثمن التذكرة، وبعيداً عن أن حقيبتي حطمّها عمّال المطار.

ماذا في وطننا لا نجده في اغترابنا إذا استثنينا العائلة؟ شوارعه المعفّرة بالتراب؟ أو حواجزه البرميلية؟ مواصلاته المهترئة الفوضوية أم سكانه متجهمي الوجوه والراجين يومياً قدراً من السماء، موتاً كان أو سلة مساعدات؟ ماذا غير ذلك نفتقده في الوطن ولا يمكن أن نجده في غربتنا؟ لنتوقف عن الحديث عن ذكرياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية لأنها ليست وطناً.

وطني الجميل على واتساب

في عام واحد، أقمنا أكثر من سبع حفلات وداع. كان عدد الأصدقاء ينقص باضطراد. مرهقة هي الوداعات. صديقي المقيم في السويد حالياً تهرّبت من وداعه. كنت متعباً، وهزائم الخسارة تلطم جسدي. بعد أسبوع، التمّ شملنا على واتساب. كنت خجلاً من هربي. عذرني وتحدثنا عن رحلة قاربه من بودروم إلى اليونان.

وما زلنا على هذه المجموعة منذ خمس سنوات هو وأنا وشتات مجموعتنا القديمة. نتشارك قصصنا وأفراحنا وهمومنا. ونصنع حاضراً جديداً لنبعد ذكريات الزمن القديم. ولكن أي أحمق يظن أن بإمكانه الهروب من ماضيه؟ قمنا بتسمية المجموعة على واتساب باسم المقهى الذي كنا نجتمع فيه. ما زلت أشتم والدة صديقي ولكن افتراضياً. والبارحة قمت بانقلات وأسميت المجموعة الحركة التصحيحية وصرت مديرها.

"لن نستطيع إقناع أصدقائنا الباقين في بلدنا أن ازدحام محطات الباصات أحن وألطف من تكييف المترو. لن نقنع مَن نجوا لتوهم من انفجار النترات، أننا غير سعداء في برلين وأننا يمكن أن نبادل أوروبا وما عليها بقطعة من كعكة الكنافة"

هذه المجموعة على واتساب هي وطن صغير، مفعم بالحياة والضحك والغضب، مليء بالشتائم والحب، مليء بالقصص والحكايات، نثرثر فيها عن يومياتنا، من روسيا إلى كندا، مروراً بالخليج وأوروبا. نتحدث مع بعضنا ونمارس النميمة. أي وطن جميل هو الواتساب! لا حواجز ولا خدمة عسكرية، لا مفخخات ولا براميل. ننام بعمق بدون هموم الكهرباء والغاز ونستمع إلى قصصنا. أردّ ساعة أشاء، وأختفي ساعة أشاء في وحدتي.

هذه المجموعة هي اكتشاف أن ذكرياتنا هي ما يصنع غربتنا، وليس بعدنا عن الوطن بمفهومه الجغرافي. ذكريات لهونا وحزننا وخيبتنا العاطفية الأولى. ذكريات رسوبنا في الجامعة، شعبة التجنيد والقرض العقاري والانتظار عند مدارس الفتيات.

الوطن كلمة فضفاضة، وهم رومانسي لشاعر يبحث عن قافية لبيته. كل خيبة أو ضحكة نستطيع إعادة صنعها بحماقتنا أو بذكائنا، هي لبنة في وطننا الحالي، في البقعة التي نعيش فيها على سطح الكرة الأرضية. ومجموعة الواتساب التي جمعتنا بعد أن فرقنا الوطن، هي وطن للشتات الذي نعيشه.

ليس للبدوي وطن

ليس للبدوي وطن، ولا الغجري. الغجري يعجز عن أن يجد نفسه في حدود جغرافية، أما الكردي فليس له إلا الريح. الغجري حدوده أكبر من خطوط على خريطة سياسية. عاش مغتربو الوطن حتى حدّ قريب في مستعمرات يحكمها السلطان بمشيئته، مسلوبي الإرادة والمستقبل.

"الوطن كلمة فضفاضة، وهم رومانسي لشاعر يبحث عن قافية لبيته. كل خيبة أو ضحكة نستطيع إعادة صنعها بحماقتنا أو بذكائنا، هي لبنة في وطننا الحالي، في البقعة التي نعيش فيها على سطح الكرة الأرضية"

كأس العرق تحت شجر التوت ليست وطناً. هو فقط ذكرى نستطيع صنعها في روسيا، ألمانيا، بلجيكا أو الأرجنتين. والدك المريض على فراش الموت والذي يصارع في مستشفيات الحكومة من أجل جرعة أنسولين ليس وطناً. هو ذكرى عشناها ونعيشها. نستطيع إعادة صنعها عندما نهرم مع ولدنا. بكاء والدتك على الهاتف ليس وطناً. هي الثقل الذي تحدث عنه ميلان كونديرا في "خفة الكائن التي لا تحتمل". لن نستطيع إعادة صنعه، ولن تتخلص منه، علينا فقط أن نتعايش معه كما نتعايش مع جهلنا باللغة في جغرافيتنا الجديدة.

الوطن وهم. مشهد لأضواء براقة تلمع وسيارات تسير مسرعة في الشوارع الممتدة بمنظر أخاذ نراه من الطابق العشرين. ما إن نهبط من عليائنا حتى نجد أن شوارع المدينة عشوائية وأحياءها من الصفيح وبعض الإسمنت. سراب تطيح به صفعة من رجل أمن أو تعثر في حفرة مليئة بالطين في صباح ربيعي مشرق.

مرثيات

هذه ليست مرثية للوطن، وإنما مرثية لمشاعرنا الساذجة التي تظن أن زيارة جغرافيتنا السابقة حيث أهلنا ومدرستنا الأشبه بسجن مركزي تشبه واقع أن نعيش مرة ثانية في تلك البقعة الملعونة من الكرة الأرضية.

لن نستطيع إقناع أصدقائنا الباقين في بلدنا أن ازدحام باصات البرامكة أو صلاح سالم أحن وألطف من تكييف المترو. لن نقنع مَن نجوا لتوهم من انفجار النترات، أننا غير سعداء في برلين وأننا يمكن أن نبادل أوروبا وما عليها بقطعة من كعكة الكنافة.

لنصنع لأنفسنا شجاعة امرأة تنجب طفلاً إلى الدنيا ولنبدأ ببناء وطن جديد. لنشغل الواتساب، في القائمة لنضغط على إنشاء مجموعة جديدة، لنضف أصدقاءنا ونضع صورة جميلة للمجموعة، ولنصنع وطناً لا حدود جغرافية له، وطناً إنسانيا عابراً للقارات والطوائف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image