شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قصص حفّاري قبور… وعن الفقراء، غلاء المعيشة وكنيسة على أطراف القامشلي

قصص حفّاري قبور… وعن الفقراء، غلاء المعيشة وكنيسة على أطراف القامشلي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 25 أغسطس 202001:16 م

على أطراف مدينة القامشلي، وفي حيّ البشرية، بطوائفه العديدة،  حيّ تملؤه مياه الصرف الحي، توجد تلك المقبرة التي لا يجرؤ البعض على المرور أمامها إلا برفقة صديق قوي القلب، فكيف لو تدخلها يومياً، تعيش فيها وتكون مصدر رزقك؟

لطالما كانت قصص الأحياء الغريبة تكتب وتطبع وتصوّر أيضاً، بينما تخفى عن الأنظار تلك الفترة القصيرة بين الحياة والموت. هناك جسر لابد من عبوره، وهناك من يكون شاهداً على عملية الانتقال بين عالمين، أحدهما معلوم لدينا وعشناه، والثاني لا نعرف عنه أي شيء.

تجربة الفقراء تعطي دروساً دوماً، لكن لمن؟

فقراء الجزيرة اليوم تخلّت عنهم طوائفهم في حياتهم، فكيف بعد مماتهم؟ وتركتهم عرضةً للتباكي عليهم أمام المجتمع الدولي وكسب استعطافه.

فقراء الجزيرة اليوم تخلّت عنهم طوائفهم في حياتهم، فكيف بعد مماتهم؟ وتركتهم عرضةً للتباكي عليهم أمام المجتمع الدولي وكسب استعطافه.

خوف الفقير من الفضيحة

"وحيداً أمشي بين أزقة ظلماء شبعت فقراً وتعباً، لكن اليوم أبحث عن إكرام فقيدي، فإذا لم أفعل أنا فمن سيفعل؟".

لم يعد ميلاد (اسم مستعار)، 44 عاماً، خائفاً من كلمة الموت التي كان يسمعها منذ صغره، بل ارتسمت في مخيلته مصطلحات جديدة اكتشفها الآن ولم يتوقع يوماً ما أنها موجودة أصلاً.

في حديث لميلاد مع رصيف22، قال: "تلقيت نبأ وفاة عمي من المشفى بعد عودتي منها بساعات قليلة. لم أستغرب، فعمّي على فراش الموت منذ أربعة أيام بعد إصابته بجلطة دماغية مميتة. ارتسمت في مخيلتي فوراً صورة المقبرة: الصمت الذي يخيّم على المكان، أنفاس الزوار المتقطعة والمكتومة، مئات القبور المتكدسة، رائحة الموت تجول في الهواء. تنفصل هناك عن كل ما هو واقعي، تمشي بحذر شديد خوفاً من إزعاج الراقدين، فجثث الموتى لا تبعد عن سطح الأرض إلّا نحو متر واحد".

ويتابع: "بدأت أبحث عن منقذ لفضيحتي المتوقعة أمام المجتمع الذي لن يسامحني إن قصرت بتقاليد الدفن والعزاء، التي باتت همّاً للفقراء أمثالي وواجهة للأغنياء وكأنهم يتفاخرون بطقوسهم".

يكمل ميلاد بصوت مرتجف: "أعمل على عربة صغيرة بجانب حديقة عامة لبيع الفشار وغزل البنات للمارة، وعند هجوم جائحة كورونا على العالم، جلست في المنزل استنزف القليل مما في جعبتي من مال، للطعام تارة ولدواء عمي تارة أخرى. وبعد وفاته توجهت للكنيسة المسؤولة عنا،  أو بتعبير أدق، الكنيسة التي من الواجب أن تكون مسؤولة عنا، لتغطية نفقات التابوت والدفن على الأقل، هذه الكنيسة التي تظهر دائماً أمامنا كحمل وديع والتي تبرعت لها كثيراً في صغري، هناك كانت الضربة التي أوجعتني أكثر".

 "أتعرض للإهانة مئات المرات يومياً، تعودت على هذا، فأنا أعمل حفاراً للقبور منذ 15 عاماً، الكثير لا يستطيعون التعامل معي ويخشوني، وهناك من يتفادى رؤيتي، فيشيح بنظره عنّي كأن رائحة الموت تنبعث منّي".

"صانع التوابيت باع قلبه"

توجه خادم الكنيسة بصحبة ميلاد لمنشرة قريبة يتردد عليها الخادم في حالات مشابهة لهذه، فصاحبها يعمل في صناعة التوابيت، وقبل أن يبدأ بلمس أي دفة خشبية كان كلامه حازماً: "لماذا تحاولون استعطافي وتلعبون على وتر الكنيسة؟ أليس حريّاً بكم أن تساعدوني أنا الآخر؟ كل الناس استغلت تقلبات الدولار الجنونية، تلوموني أنا وحدي إذا قلت لكم بأني لن أعمل مجاناً بعد اليوم؟!".

يقول صانع التوابيت كارلوس (اسم مستعار)، 40 عاماً، لرصيف22: "لماذا لا يسألوني كم ارتفع ثمن لوح خشب الليفي المتوسط الكثافة؟ وهل يعلمون كيف أحصل عليه أصلاً؟".

نجارو القامشلي لا يولون اهتماماً كبيراً لصناعة التوابيت، فيعتبرونها متعبة ومكلفة من جهة، وقليلة المرابح من جهة أخرى، لذلك ينفرد في صناعتها قلّة قليلة وهم من يتحكمون بالأسعار.

بينما يؤكد كارلوس بأن "صناعة التوابيت لم تعد باب رزقي، ولو اعتمدت عليها لمت جوعاً".

بعد خروجهم من المنشرة بطريقة مهينة، يتساءلون: "هل هذه المهنة مرتبطة بالعقل أم العاطفة؟ أم أنها غيّرت جلدها وقناع وجهها الملائكي الذي يظهر أمام الناس، وقامت بشراء قلب جديد بدولارين (ثمن الفورميكا الخشبية)؟".

"صناعة التوابيت لم تعد باب رزقي، ولو اعتمدت عليها لمت جوعاً"

لا يحفر إذا لم يقبض

عادات المجتمع وتقاليده دائماً ما تحجب النظر عن أمور تخاف من ترويجها، أو ربما تُبقي قناع الصورة الحسنة للناس الذين لا تخالطهم كثيراً، فالصورة النمطية التي يزرعها المجتمع في أذهان الناس حول هذه المهنة ضعيفة جداً ولا تفاصيل فيها.

فمن منّا يعرف كم يتقاضى حفار القبور شهرياً؟ ولماذا لا تكون مهنةً واضحة للعلن ويكون لها تأمين وراتب شهري، حالها كحال باقي المهن؟ فهي لا تندرج تحت قوالب الحلال والحرام، وليست خفية عن أحد، أو بالأحرى لماذا تكون حكراً على شريحة نادرة جداً؟

بأعين شديدة الاحمرار، وبذقن متسخة بالتراب بدأ الشيب ينال منها، يقول حفار القبور، سليمان، لرصيف22: "أتعرض للإهانة مئات المرات يومياً، تعودت على هذا، فأنا أعمل حفاراً للقبور منذ 15 عاماً، الكثير لا يستطيعون التعامل معي ويخشوني، وهناك من يتفادى رؤيتي، فيشيح بنظره عنّي كأن رائحة الموت تنبعث منّي".

ويتابع: "أنا الوحيد الذي يحق لي أن أطلب السعر الذي أريد قبل البدء بعملي، فنظرة المجتمع لي كفيلةٌ بقضاء يومي في هذه الغرفة الصغيرة برفقة كلابي التي أعيش معها. حاولت أكثر من مرة التقرب من إحدى الفتيات لتأسيس عائلة صغيرة، وعند اعترافي لها بذلك، استخفت بمشاعري ولم تأخذها على محمل الجد، فعدت لمعانقة ليلي الطويل الذي لا أنيس ليس لي فيه سوى علبة السجائر هذه، والمشروب الذي يأخذني لعالم خاص".

عائلات من مختلف الشرائح

صنّفت أسعار حفر القبور لثلاثة: بحسب عائلة المتوفي أولاً، ومزاجية الحفار ثانياً، وارتباطها بتقلبات المناخ والفصول ثالثاً.

يشرح سليمان قائلاً: "لكل فصل سعره، ولكل توقيت سعره أيضاً (صباحي – مسائي) وحفر القبور في الطين مثلاً آخذ ثمنه 50 دولاراً أمريكياً (قرابة 100000 ليرة سورية)، وفي حال حفره على أرضية من الإسمنت أتقاضى 75 دولار أمريكي (قرابة 150000 ليرة سورية). يعتبرونها أجوراً مرتفعة، أما أنا فأقول لهم هذه شروطي ولا أحفر حفرة إذا لم أقبض، لأن مهنتي أصلاً لا دَين فيها، ولم تعد تدر عليّ المال كما في السابق، فالغلاء المعيشي لم يُبق قيمة لليرة السورية".

صدمة ميلاد وخادم الكنيسة اليوم تلقاها العشرات، إن لم نَقُل المئات، فهم يعملون اليوم لجمع مال يُدخلهم في تابوت مريح، ومن ثم في حفرةٍ يدفعون ثمنها نقداً قبل دخولهم إليها، لئلا يُرموا في الشارع.

 "عمري اليوم 45 سنة ولم يدخل بيتي أي رجل دين مسيحي للسؤال عن وضعي المعيشي، فهم لا يدخلون بيتي إلا فترة الأعياد لأتبرع لهم بالنقود، فلو جمعوا تبرعاتنا جميعاً لوضعونا في توابيت 5 نجوم، لكنهم يسعون دوماً لغرس خطابهم الديني في أذهاننا لننسى تقصيرهم تجاهنا"

تتحدث سارة (اسم مستعار)، في الخمسين من عمرها، لرصيف22: "بعد وفاة زوجي أردت أن يُدفن في المكان المخصص لموتى العائلة والمعروف بـ(الخشاش)، فوجئتُ بالمبلغ الذي طلبه حفّار القبور مني، 30 دولاراً (قرابة 75000 ليرة سورية) ثمناً لفتح الخشاش فقط!".

وتتابع: "ونظراً لأوضاعنا المعيشية الصعبة رفضنا، ودفنّاه في مكان عشوائي ولم نفتح الخشاش".

تساؤل تردده سارة يومياً: "لماذا لا يوجد ضوابط أخلاقية لهذه المهنة؟".

بينما يقول نور لرصيف22: "بعد وفاة خالي، أذكر جيداً كيف تعامل معنا حفار القبور وفرض شروطه علينا، ووافقنا فوراً، ولكن منذ تلك الحادثة التي عشتها وأنا أقول: في حال لم نوافق وقتها ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ وبفرض أنه لم يستقبل المتوفي، هل كانت الطائفة سترضى بذلك؟ وفي حال أنها لا ترضى بالإهانة لأبناء طائفتها، فلماذا لا تساعد العائلات الفقيرة فوراً بعيداً عن إذلالنا أمام الجميع؟".

ويذهب نور لشيء أبعد من هذا، ويقول لرصيف 22: "أنا ألوم الكنيسة وحدها في هذا الخصوص، لماذا نستعطف الحفار والنجار صانع التوابيت؟".

ويتابع: "عمري اليوم 45 سنة ولم يدخل بيتي أي رجل دين مسيحي للسؤال عن وضعي المعيشي، فهم لا يدخلون بيتي إلا فترة الأعياد لأتبرع لهم بالنقود، فلو جمعوا تبرعاتنا جميعاً لوضعونا في توابيت 5 نجوم، لكنهم يسعون دوماً لغرس خطابهم الديني في أذهاننا لننسى تقصيرهم تجاهنا".

كل الأديان والأعراف نادت "بحسن الختام" لكن المشهد اليوم اختلف بعد الغوص في تجربة ميلاد وغيره من جهة، وحفار القبور من جهة أخرى، ولو لم يجد ميلاد ذاك الشخص الذي تكفّل بالمصاريف رأفة بحاله في اللحظة الأخيرة، فأين عدالة السماء التي يتحدثون عنها؟

كرامة فقراء الجزيرة السورية وجراحهم تنزف من جديد وتشكل احتقاناً شعبياً، وهذه الجراح دائماً ما تكون وقوداً لإشعال فتيل حروب وثورات داخلية، شريحة واسعة اليوم لم تعد ترفع شعار الحرية، بل يبحثون عن تلك العدالة التي سمعوا عنها ولم يروها فوق الأرض، ومن المتوقع الّا يروها تحتها أيضاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image