قال طبيب الطوارئ، باتريك بيلو، في مقابلة أجرتها قناة بي أف أم الفرنسية: "إنّ فيروس كورونا المستجد، يمكنه البقاء على اللحية أو الشارب لمدة ساعات بعد العطس أو السعال، لذلك ينصح بحلق اللحية والشارب". على الرغم من هذه النصائح، لم يلتزم كلّ من رئيس وزراء فرنسا، إدوارد فيليب، ولا حتى عالم الفيروسات، ديدييه راؤول، الذي اشتهر بترويجه لدواء يشفي من الفيروس، بحلق لحيتيهما. ليست اللحية والشارب عند الذكر أمراً عارضاً، بل جوهرياً، سواء أقام بحلقهما أو أرسلهما.
ألقى توماس جوينج في القرن التاسع عشر، عدّة محاضرات عن أهمية اللحى، بعدما رأى ما حدث للحى البريطانية الكثة والقوية من ضعف نتيجة الحلاقة، وجمع هذه المحاضرات في كتاب اسماه "فلسفة اللحى The Philosophy of beards". قال توماس: "إنّنا ثديّات فروية الوجه، وإنّ الطبيعة تعلم ماذا تفعل. وإنّه لمن المستحيل أن تنظر إلى لوحات لأشخاص ملتحين دون أن تشعر بما يمتلكونه من الكرامة والمهابة والوقار والاستقلال والحيوية والكمال. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ مظهر الرجل نظيف الوجه -حليق الذقن- يجعله يشعر بالعري المبتذل الزائف".
"أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم/ يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ"... ماذا كتب الشعر العربي عن اللحية؟ وما الذي جعلها في نظر المجتمع أمراً جوهرياً؟
الثديّات فروية الوجه
يكاد يسخر ديزموند موريس، في كتابه "القرد العاري" من الإنسان الذي يهتم فقط بحوافزه العليا متجاهلاً حوافزه الأساسية، فيقول: "هناك مائة وثلاثة وتسعون نوعاً من القرود والسعادين يغطيها الشعر، أمّا الشاذ منها، فهو ذلك الذي سمى نفسه بالإنسان". إنّ ذكور فصيلة القرد العاري يملكون لحية، وهذه اللحية لم تكن يوماً كالزائدة الدودية التي حار الطب طويلاً في معرفة فائدتها، فللحية تاريخ طويل في الدين والسياسة والثقافة.
تعمّ حالياً موضة اللحية، ووفق صحيفة الإندبندت، فذلك الأمر يعود للعارض البريطاني ريكي هول، الذي نشر صورته وهو ملتح على الإنستغرام في عام 2013، ما دفع الكثير من المشاهير للتمثل به، وهكذا أصبحت اللحية موضة من جديد.
كان للحية دور مهم في حياة الذكر الصيّاد، فقد كانت تدفئ وجهه وتحميه من الهواء البارد والأتربة والأوساخ، وتعطي مظهراً ضخماً لفكيه.
أدّت اللحية دوراً مهماً في العقيدة الدينية، فالفراعنة كانوا يضعون لحى مزيّفة من المعدن للتشبه بالإله أوزوريس الذي كان ملتحياً، وذلك لأنّهم كانوا يحلقون كامل شعر وجوههم، وذلك تبعاً لعادات النظافة لديهم
ونجد في الحضارات القديمة أن اللحية أدت دوراً مهماً في العقيدة الدينية، فالفراعنة كانوا يضعون لحى مزيّفة من المعدن للتشبه بالإله أوزوريس الذي كان ملتحياً، وذلك لأنّهم كانوا يحلقون كامل شعر وجوههم، وذلك تبعاً لعادات النظافة والصحة لديهم، لكن الأمر أكثر عمقاً من النظافة. لم تكن توضع تلك اللحى المعدنية إلّا في الاحتفالات ذات المظاهر السلطوية والدينية وبذلك يتمثّلون بأوزوريس، على عكس حالتهم في حياتهم الخاصة التي يجب ألا تحاكي شخصية الإله، تنزيهاً له.
وتظهر لنا بعض تماثيل الملكة حتشبسوت، ارتداءها للحية المزيفة تأكيداً على سلطتها، أما عامة الشعب فلم يكن للحاهم أي أبعاد دينية، لذلك كانت تطلق وتصبغ وتزين وفق الموضة السائدة في ذلك الزمن. قدمت لنا الجداريات في بلاد ما بين النهرين والتماثيل، صوراً عن الاعتناء باللحية وتزيينها، كذلك أظهر لنا تابوت يعود إلى الفينيقيين وجد في إسبانيا، نموذجاً رائعاً عن ذلك. لم تغب اللحية يوماً عن تاريخ الإنسان وحاضره، لكن ما يهمنا في مقالنا أن نذهب باتجاه التراث العربي، الجاهلي والإسلامي، وخاصة الحالات التي ذكرت فيها اللحية في الأدب.
لحية السلام والإسلام
بعد الحرب لابدّ من السلام، ولقد تعددت وسائل الصلح في الجاهلية، من الإشارة بالرماح، إرسال الأسهم في الفضاء إلى إمساك اللحى. يقول الأسعر الجعفي، كما جاء في الحماسة الصغرى/ الوحشيات، لأبي تمام: مَسَحُوا لِحَاهم ثمَّ قَالُوا سَالمِوُا/ يَا لَيْتَنِي فِي القَوْمِ إِذَ مَسَحُوا اللِّحَى. كان من عادات العرب في الجاهلية عند الصلح أن يمسكوا لحى بعضهم البعض دليلاً على الصلح، وعندما جاء عروة بن مسعود الثقفي، ليصالح الرسول في الحديبية، كان كلما تكلّم مسح بيده على لحية رسول الله، فما كان من المغيرة بن شعبة إلّا أن ضرب يد عروة بنعل سيفه، قائلاً: "أخرْ يدك عن هذه"، كرامة لرسول الله وجبّاً لعادات الجاهلية.
من عادات العرب في الجاهلية عند الصلح أن يمسكوا لحى بعضهم البعض دليلاً على الصلح، كما حصل في صلح الديبية حين كان عروة بن مسعود الثقفي، يمسح بيده على لحية الرسول
ومن عاداتهم أيضاً، إن قام منهم الرجل ليخطب، مسح بيده على لحيته وعثنونه (مقدمة اللحية)، لكنّنا لا نملك الكثير من المعلومات عن اللحى في الجاهلية، وعندما جاء الإسلام حدّد علاقة المسلمين مع الشارب واللحية، وذلك بأن يخالفوا المشركين بمظهرهم، فجاء حديث الرسول: "عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى".
دار كلام كثير عن توفير اللحى وحفّ الشوارب في الفقه الإسلامي، وانقسمت الآراء إلى شقين: الأول أن تطلق اللحية على عواهنها، والثاني أن تجزّ وراء ما تقبضه الكفّ منها.
اللحية بين الذمّ والهجاء والمدح
قد يكون ارتباط اللحية الطويلة بمظهر رجل الدين والحكمة والسياسة، سبباً جوهريّاً لكثرة التهكم على أصحابها وهجائهم، وذلك للتعارض بين قولهم وفعلهم، فقلما نجد مديحاً للحية الطويلة. والهجاء هنا لم يكن ينال إلّا من الصفات النفسية للمهجو، فوفق المعايير التي وضعها قدامة بن جعفر، لم يكن الهجاء والتهكّم يتجاوز إلى الصفات الجسدية، من طول وقصر أو الصفات العائلية والقبلية، مع أن الشعراء كعادتهم، دأبهم خرق القانون. يقول قدامة بن جعفر: "أنّه متى سلب المهجوّ أموراً لا تجانس الفضائل النفسية كان ذلك عيباً في الهجاء، مثل أن يُنسب إلى أنّه قبيح الوجه، أو صغير الحجم، أو ضئيل الجسم".
ولكثرة ما تم هجاء اللحية الطويلة وعدم مدحها، يأخذ العجب موضعه منّا ونحن نرى التعارض بين قولين لابن طباطبا، فيقول: الموت أهونُ من سواد العارضين لمن عرف.
لكن بعد هذا القول يرتد بشكل حدّيّ:
يا من يزيل خلقة الرحمان عمّا خلقت
هل لك عذر عنده إذا الوحوش حشرت
في لحية إن سئلت بأي ذنب نُتفت
ومن خلال هذه الأبيات الأخيرة، نجد أن ابن طباطبا يصل في تحذيره من حلق اللحية ونتفها إلى محاكاة القرآن الكريم.
هذا التذبذب في موقف ابن طباطبا، لربما يعود إلى حديث الرسول: "الشعر الحسن من كسوة الله، فأكرموه"، أو لقسم زوجة الرسول عائشة باللحى: "لا والذي زيّن الرجال باللحى".
من شعر الشريف الرضي في اللحية: رَأَت شَعَراتٍ في عِذارِيَ طَلقَةً/ كَما اِفتَرَ طِفلُ الرَوضِ عَن أَوَّلِ الوَسمي. فَقُلتُ لَها ما الشَعرُ سالَ بِعارِضي/ وَلَكِنَّهُ نَبتُ السِيادَةِ وَالحِلمِ
وإن تابعنا البحث فيمن مدح اللحية، سنجد الشريف الرضي يبدع شعراً في اللحية:
رَأَت شَعَراتٍ في عِذارِيَ طَلقَةً/ كَما اِفتَرَ طِفلُ الرَوضِ عَن أَوَّلِ الوَسمي
فَقُلتُ لَها ما الشَعرُ سالَ بِعارِضي/ وَلَكِنَّهُ نَبتُ السِيادَةِ وَالحِلمِ
يَزيدُ بِهِ وَجهي ضِياءً وَبَهجَةً/ وَما تُنقَصُ الظَلماءِ مِن بَهجَةِ النَجمِ
وزيادة على ما سبق من مديح بحق اللحية، نجد نوعاً آخر من المدح، هو أقرب للاعتذار، وهو نوع شعري تبريري لبقاء الحبّ للغلام الأمرد بعد أن تنبت لحيته، على الرغم من كثرة هجاء الغلمان الذين نبتت لحاهم.
ومن تلك المقطوعات الشعرية التبريرية نجد ابن المعتز يمتدح غلاماً ظهرت لحيته، ويقوي من عزم عاشقه الذي بدأ يخاف الملامة:
لعمرك ما أزرتْ بيوسف لحية/ ولكنه قد زاد حسناً وأضعِفا
ولا تعتذر من حبهِ في التحائه/ فما يحسن الدينار إلا مشنّفا
ولا يبتعد السريّ الرّفّاء في غزله عمّا فعل ابن المعتز من تقديم التبرير في حجاجه مع اللائمين، فينتصر لمعشوقه، غلام قد نبتت لحيته، يقول الرّفّاء:
لو صحّ عُذري في الحب مُذ عذّر/ فلم يلمْ لائم لمن أبصر
ورّق منه غصن يؤرقني/ شوقاً إلى غنج طرفه الأحور
شبّه الرّفّاء نبت الشعر في وجه الغلام كما تنبت الأوراق في الغصن الميّاس.
ليس كل الشعراء ممن يمتدحون اللحية ويعذرون الغلام على نبت شعر لحيته، فها هو أبو تمام يصف كيف تبدل حال غلام أمرد، مَلِك قلوب العشاق، إلى حال النسيان وحتى الموت بعدما ظهرت لحيته:
ومتّ حيّاً بلحية طلعت/ عليك قد كنت قبلها ملكا
إذا رأيت الغلام قد طلعت/ بخده شعره فقد هلك
ويتابع في ذلك تلميذه البحتري:
لكل شيء حسن آفة/ وآفة المرد في خروج اللحى
وإذ عرّجنا على مدح وذم لحية الغلمان، فلا بد ليكتمل توجهنا من ذكر الهجاء المقذع الذي نالته اللحى من قبل الشعراء.
هناك مثل سائر على ألسنة العرب بأن "اللحية صابونة العرب"، ولربما جاء هذا المثل من قول دعبل الخزاعي، بعد أن هجا أحدهم بأن لحيته وسخة كأنّه قد تناول بها طعاماً يُسمى المضيرة، فقد كانت العرب تمسح الأيدي بعد الأكل باللحى:
يلوِّث لحية عرضتْ وطالتْ/ ويمرثُها كتمريث الخميرهْ
فيا لك من لحية وضرى وشيباً/ كأنّكَ أكلتَ بها مضيره
كان ابن الرومي يكره اللحى الطويلة الشعثاء غير النظيفة، حتى أنّه شبهها بالمخالي، وهي شعرات في أسفل حنك الحمار، وصوّرها أيضًا بالمخلاة، أي الإناء الذي يعلّق في رقبة الحصان، ويوضع فيه الطعام والماء:
إن تطل لحية عليك وتعرض/ فالمخالي معروفة للحمير
علّق الله في عذارك مخلا/ة ولكنها بغير شعير
وفي الختام نذكر قول المتنبي الذائع الصيت:
أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم/ يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم
قال المتنبي هذا الهجاء لِما كان عليه الوضع في مصر إبّان حكم كافور من تدهور وتخلّف، وقد قلنا في مبتدأ مبحثنا أنّ الهجاء والتهكّم كان بحق اللحى يعود إلى أن أصحابها رأوا فيها تديّناً، والدين من ذلك براء، فالدين قول وفعل، وهم فقط أصحاب أقوال كما يرى المتنبي. ولنا أن نتجاوز قليلاً ونتخيّل لو أن المتنبي قال بيته الآنف الذكر بحق رئيس وزراء فرنسا والطبيب راؤول، فيكف سيكون!؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...