شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
اعتقالات واعتداءات وقمع متظاهرين… ألم يتعلّم ساسة تونس من دروس الثورة القريبة؟

اعتقالات واعتداءات وقمع متظاهرين… ألم يتعلّم ساسة تونس من دروس الثورة القريبة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 يونيو 202003:41 م

انتهت فترة الحجر الصحي التي فرضها كورونا في تونس منذ أيام، ومعها اختفى ذلك الهدوء النسبي الذي فرضته الأزمة على الجميع.

تعود الحياة تدريجياً إلى نسقها الطبيعي، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لأولئك المهمشين والعاطلين عن العمل، الذين تجاهلتهم وتناستهم السلطات لسنوات طويلة وفاقم الوباء معاناتهم.

فقد ضاقت بهم السبل فانطلقوا إلى الشوارع يطلقون نداءات وصرخات إلى سلطات الإشراف، عسى أن تلتفت إليهم وتنصفهم وتمكنهم من حقهم الطبيعي المتمثل أساساً في التشغيل. لكن خابت الآمال مجدداً، وبدل أن ينزل السياسيون من أبراجهم العاجية ويفتحوا باباً للحوار مع هذه المجموعات التي سئمت الوعود الكاذبة، قابلوهم بالاعتداءات والاعتقالات وغلق المساحات المفتوحة سابقاً أمام المتظاهرين، وكأنهم يقولون: أيها الشباب المنسي عش معاناتك بصمت ولا تقلق راحتنا، دعنا نكمل مهاتراتنا الحزبية بعيداً عن مطالبك التي نعلمها مسبقاً ولكن لا إرادة لدينا لتطارحها.

منذ انحصار الفيروس في البلاد انطلقت احتجاجات الشباب العاطل عن العمل، من حملة الشهادات العليا وعمال الحضائر الذين تلاعبت الحكومات المتلاحقة بملفاتهم، وغيرهم من المهمشين في محافظات مختلفة، لكنها قوبلت جميعها بتدخل أمني عنيف.

خطوة بدت مثيرة للريبة والتوجس من نوايا الحكومة الراهنة بشأن تعاطيها مع التظاهرات السلمية للمطالبين بحقوقهم، وبعثت على التساؤل عما إذا كان ما يحدث رسالة من السلطة لترهيب المحتجين وجرهم للقبول كرهاً بأوضاعهم الصعبة؟ هل هو اختبار لردود فعل المحتجين ومحاولة فهم ما إذا كان المواطن الذي انسجم مع صرامة الإجراءات زمن كورونا سيواصل الخضوع لهذه اليد الغليظة الآن؟ وفي كلا الحالتين فإن الحكومة أساءت التقدير، وقد تجد نفسها عاجلاً ماضية نحو منزلقات خطيرة قد تصل حد الإطاحة بها.

 خابت الآمال مجدداً، وبدل أن ينزل السياسيون من أبراجهم العاجية ويفتحوا باباً للحوار مع هذه المجموعات التي سئمت الوعود الكاذبة، قابلوهم بالاعتداءات والاعتقالات وغلق المساحات المفتوحة سابقاً أمام المتظاهرين

لقد اتجهت الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011 للخيار الأمني في محطات مختلفة لقمع الاحتجاجات، لكنها لم تكن بهذا المد الشاسع الذي باتت عليه بعد أزمة كورونا.

أخبرني أحد الشباب ممن اعتصموا بأحد المحافظات الداخلية من أجل التشغيل، أن العشرات من سيارات الشرطة ومئات العناصر الأمنية طوقتهم لدى قيامهم بتحركهم السلمي، كما لو أنهم يحاصرون مجموعة من الإرهابيين أو المسجلين خطراً على أمن الدولة، قاموا بفك اعتصامهم بالقوة واعتقلوا العشرات الذين تعرضوا للشتم والإهانة والمعاملة السيئة التي لا تليق حتى بالحيوانات، على حد تعبيره.

وتكرر هذا المشهد في مناطق مختلفة من البلاد، بما في ذلك العاصمة، بل أن ما حدث فيها أشد وطأة، ففضلاً عن الاعتداء على أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل لدى تنفيذهم وقفة احتجاجية، عمدت سلطات الإشراف إلى غلق ما يسمى بـ"ساحة باردو" التي كانت طيلة سنوات ما بعد الثورة معقلاً رئيسياً للاحتجاجات، نظراً لقربها من محيط البرلمان.

ويبدو من خلال الممارسات العنيفة المسلطة ضد المحتجين هذه الفترة، وتسييج الأماكن المفتوحة عادة أمامهم، أن هناك تصوراً سابقاً لدى السلطات الحالية، مفاده أن فرض القبضة الحديدية سيكسر شوكة هؤلاء المصرين على الصراخ في الساحات والشوارع من أجل إيصال أصواتهم، كما حدث فترة الحجر الصحي، لكن الحقيقة هي أن ما يحدث يكشف عوراتهم ويؤكد أن معشر السياسيين في تونس أخفقوا في استيعاب الدروس.

فالنواب الذين قابلوا احتجاج الشبان العاطلين عن العمل بالرفض، وأطلقوا العنان للقبضة الأمنية لتنال منهم، وتخبرهم أن حضورهم أمام البرلمان يقلق راحتهم ويهدد أمنهم والأمن العام برمته، نسوا أو تناسوا أن هذه الأصوات هي نفسها التي منحتهم الفرصة ليجلسوا على تلك المقاعد المريحة داخل المجلس. لقد انغمس هؤلاء في مهاتراتهم الحزبية وأطروحاتهم الشخصية، وتجاهلوا أنهم هناك لخدمة أفراد آمنوا بصدق نواياهم تجاه قضاياهم، بل وتجرؤوا على التنكر لهم سريعاً وبطرق مهينة.

لكن أعجب كيف يمكن لهذه الحكومة وهؤلاء النواب أن ينساقوا وراء هذه السياسيات الأمنية الصارمة في التعامل مع المطالب المشروعة للشباب خاصة، دون الالتفات إلى التجارب القريبة والبعيدة التي أثبتت جميعها أن هذا الخيار غالباً ما تكون نتائجه عكسية، وأنها توسع دائرة الاحتقان وتغذيها وتدفع المحتجين للاستماتة أكثر في الدفاع عن الحقوق المشروعة. دهشت كيف بمقدور بعض النواب المباشرين، ممن تم ترحيلهم سابقاً من المجلس تحت ضغط الاحتجاجات، أن ينساقوا وراء هذه الإجراءات دون أن يعتبروا من تلك الأحداث وأن يستهينوا بها اليوم.

يكفي أن يعودوا بالذاكرة إلى مسلسل الاحتجاجات فترة الثورة وما رافقها من قمع وتنكيل، والتي لم تثن الشباب الغاضب عن التمسك بحلمه حتى استجاب القدر ورحل الطاغية

إذا كان هؤلاء الساسة، على اختلاف انتماءاتهم، قد تنكروا فجأة لحق التونسيين المشروع في التظاهر، وأطلقوا كلابهم المسعورة هنا وهناك تنهش المستضعفين والمهمشين ليسحبوا منهم الشيء الوحيد الذي بحوزتهم، أي أصواتهم، فإنه قد غاب عنهم أن الشباب الذي أنهكوه بأكاذيبهم وفسادهم ليس بهذا الضعف الذي يتوهمون.

يكفي أن يعودوا بالذاكرة إلى مسلسل الاحتجاجات فترة الثورة وما رافقها من قمع وتنكيل، والتي لم تثن الشباب الغاضب عن التمسك بحلمه حتى استجاب القدر ورحل الطاغية.

ربما لا يعرف الكثير من الساسة هذه التفاصيل جيداً، فأغلبهم كانوا خارج ميدان المواجهة مع الكلاب التي يطلقونها اليوم، بعضهم في المهجر يتابع الأحداث على شاشات التلفاز، وبعضهم اختبأ مثل الجرذ في وكره، منتظراً أي كفة سترجح في النهاية، ولهذا لا يدركون جيداً كيف يمكن أن ينقلب القمع واستخدام القوة ضد التحركات الاجتماعية إلى انتفاضة عامة، وكيف تتحوّل المطالب من التشغيل إلى رحيل الحكومة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image