شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
في بيروت... سنفقد ذاكرتنا الجماعية بعد قليل

في بيروت... سنفقد ذاكرتنا الجماعية بعد قليل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 20 مايو 202005:03 م

على رفّ مكتبة منزلنا في القرية التي كنت أقطن فيها، كان هناك العديد من الكتب المليئة بغبار الأيام المملة: كتب عن تاريخ لبنان حديث، حرب الخليج وغيرها… لكنني ما زلت أذكر أن في صفحات إحدى هذه الكتب وقعت عيوني على كلمة "الذاكرة الجماعية"، لم أكن أعلم جيداً ما هي هذه الذاكرة وكيف تُبنى، لكنني سألت نفسي مراراً كيف أكون جزءاً من هذه الذاكرة؟

مرّت السنوات وأنا أجول بين أرجاء المنزل، معتقدة أنني أبني ثقافةً ووعياً عن جميع القضايا حولي، إلى أن أتت الحافلة يوماً لتنقلني إلى المدينة لأبدأ إكمال دراستي، فقطنت في شارع بيروتي معروف، شارع الحمرا.

في بيروت سنفقد ذاكرتنا الجماعية بعد قليل… كونوا معنا.

في وسط الشارع، وعند مدخل بناية متآكلة، بدأت أرسم خطواتي، فأنا ابنة القرية المليئة بالفضول، علمت في داخلي أنني دخلت مرحلة جديدة من حياتي، خلالها سأرسم طريقي التي أريد، بعيداً عن ضوضاء تقاليد القرى اللبنانية، كنت أعتقد أن وعيي سيتكون في صفوف المحاضرات وبين أروقة الجامعة المرموقة التي انتسبت إليها.

لكن ما لم أكن أتخيله يوماً هو أن وعيي النسوي والثقافي وكل الأشياء التي لم أكن أعيها من قبل، سوف تتكون بين "ة مربوطة"، أزقة بيروت، "فسحة يونس"، مقهى "دار" أو الكوستا. لم أكن أتخيل يوماً أن الأحاديث التي جمعتني بالأشخاص في هذه الأماكن، بينما كنا نأخذ كأساً سوياً أو نتشارك صحن "البطاطا الحرّة"، ستجعل وعيي ينضج ويستوي في هذه الأماكن، لا بل كان أبعد مما تخيلت.

على مر سنوات طويلة، ارتبطت معرفتي وثقافتي وأفكاري بأماكن عديدة، لا بل تكوّنت لدي العديد من العلاقات في هذه الأماكن، فأصبحت ليس مجرد كرسي أو طاولات في زاوية من الزمن، بل مساحات من الذكريات، من الخيبات والأفراح، من الأحزان والوحدة، تجلس فيها على طاولة لتشارك مجتمعاً وجماعة في تكوين ذاكرة ما، كل على طريقته... وها أنا أدخل طفلة عبر باب الذاكرة الجماعية لهذه الأماكن دون أن أدري.

اليوم، بعد أن طبعت كل هذه الذكريات القليلة، أشعر أنه عليّ أن أصنع أكثر قدر ممكن بعد، صفعني خبر استيقظت عليه، خبر لن يكون الأول في دوامة الموت التي بدأنا ندخلها في لبنان وفي بيروت. استيقظت على خبر إغلاق مقهى "دار" في منطقة الحمرا، وفي دقائق قليلة تحولّ الخبر لورقة نعي على مواقع التواصل نتداولها ونبكي... لم لا؟ فلكل منّا ذاكرة في هذا المكان.

 بعد أن طبعت كل هذه الذكريات، أشعر أنه عليّ أن أصنع أكثر قدر ممكن بعد، صفعني خبر استيقظت عليه، خبر لن يكون الأول في دوامة الموت التي بدأنا ندخلها في لبنان وفي بيروت. كان الخبر إغلاق مقهى في منطقة الحمرا، وفي دقائق قليلة تحولّ الخبر لورقة نعي على مواقع التواصل نتداولها ونبكي... لم لا؟ فلكل منّا ذاكرة في هذا المكان

لفّني القلق، وشعرت أننا في الأيام المقبلة سنزّف خبر إغلاق أماكن أخرى، طبعاً حزنت على العمال الذين لن يجدوا لقمة عيش جديدة، وعلى أصحاب العمل الذين أُرغموا على اتخاذ هذا القرار، لكن فكرة أن نبدأ بخسارة كل هذه الأماكن شيئاً فشيئاً أقلقني: تخيلت لوهلة، عندما تنقضي الجائحة، سأدور في شوارع بيروت لأجدها منسية ومغلّفة بالحزن، طبعاً سأجد الكثير من الأماكن التي عادت وافتتحت مكان المحلات التي افتقدها.

لكن الأشياء لن تكون نفسها، فمثلاً على مرّ السنوات شكّل مقهى الكوستا على زاوية الحمرا، مكاناً للعديد من الأفكار والأحاديث، اليوم ذهب الكوستا وأتى مكانه مقهى مليء بالقهوة التي لا طعم لها، وبالتجار والسماسرة، وغاب أهل البيت عنها، فهل تكون هذه الأماكن أسيرة هذا السيناريو؟

العلاقة مع هذه الأماكن وخسارتها لا تكمن بالأشياء المادية، هي أشياء جوهرية ساعدتنا يوماً ما أن نبني أفكاراً، أن نستمع إلى موسيقى غيّرت أحاسيسنا، أن نقرأ كتاباً أو أن نستمع إلى صديق يخبرنا عن أفكاره الثورية الليبرالية. خسارة الأماكن ليست سهلة، ليس لأننا بطبيعتنا مليئون بالمشاعر، بل لأننا مليئون بالتغيير والتغيير، اللذين يبدآن عبر الأفكار التي ناقشناها في هذه الأماكن على بساطتها وسخافتها.

أذكر جيداً المرّة الأولى التي زرت فيها "دار"، يوم التقيت مع صديقتي التي كانت ترتدي الحجاب بغير إرادتها، لتخبرني عن مغامراتها خلال رحلتها الأوروبية، وكيف شعرت ببعض الحرية التي فقدتها، كيف خلعت حجابها هناك وكيف تخطط لأن تفعل ذلك في لبنان، كله تحت سقف هذا المكان الجميل، بينما كنا نسترق النظر لرجل يجلس أمامنا وكنت معجبة به. وفي "دار" أيضاً جلست مع صديقة أخرى لتخبرني كيف تطلب والدتها الطلاق في المحاكم الدينية التي وضعتنا طيوراً في أقفاص كبيرة، تخبرني عن والدها المعنِّف، وكيف تسعى الأم والابنة للهروب من هذا الواقع والانتصار عليه. في المقهى ذاته، دخلنا لنأكل الفطور يوماً، بعد اجتماع مع أول وزيرة للداخلية امرأة في العالم العربي، اصطحبنا زميلنا في العمل، العائد إلى حضن الوطن من كندا، ليتذوق أفضل قهوة و"أومليت". لم نكن ندري أن بعد أشهر من هذا التاريخ، ستكون أول وزيرة للداخلية في العالم العربي، المشاركة الأساسية في حملة قمعنا وترهيبنا عندما نزلنا إلى الشارع لنطالب بحقوقنا، في ذلك المكان، لم أكن أعلم أن هذا سيكون "العشاء الأخير"، وأن الكرة الأرضية ستنقلب رأساً على عقب.

المدينة ستكون مظلمة يوماً بعد يوماً عندما تغلق معظم هذه الأماكن أبوابها، سأحزن، سنحزن جميعاً، وقد نكتب تغريدة عن الموضوع مع صورة مرفقة لنا هناك في إحدى الزوايا، لكن حزني أكبر من ذلك، حزني على الذين لن يتمكنوا من أن يقوموا بالتشبيك في هذه الأماكن، تحضيراً لثورة مقبلة ضد هذا الجوع كلّه

المدينة ستكون مظلمة يوماً بعد يوماً عندما تغلق معظم هذه الأماكن أبوابها، سأحزن، سنحزن جميعاً، وقد نكتب تغريدة عن الموضوع مع صورة مرفقة لنا هناك في إحدى الزوايا، لكن حزني أكبر من ذلك، حزني على النساء اللواتي لن يتمكن من ارتياد هذه الأماكن، ولن يتمكّن من تكوين وعيهن هناك حول حقوقهن ومطالبهن، كتجربتي، وحزني على الشباب والشابات الذين لن يتمكنوا من أن يقوموا بالتشبيك في هذه الأماكن، تحضيراً لثورة مقبلة ضد هذا الجوع كلّه.

غداً ستقفل مدينتنا أبوابها، فهل ستذهب فيروز لتصلّي؟ هل ستدّق على الأبواب وتفتح الأبواب؟

في بيروت سنفقد ذاكرتنا الجماعية بعد قليل… كونوا معنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image