يقول أحد الطغاة الذي لا داعي لذكر اسمه: “الأرقام لا تكذب، الرقم شفاف…". حسناً أيها السيد، نحن نعلم أن الأرقام لا تكذب... لكنك تفعل باستمرار، عن ضحاياك وضحايا استبدادك وأعداد المعتقلين في سجونك، عن عدد البيوت التي دمرتها والعائلات التي شردتها، عن وطنيتك المتضائلة حدّ الانمحاء، وعن ثروتك وثروات أقربائك وأقرباء زوجتك وكل من يحيط بك، بالتأكيد الأرقام لا تكذب، لكنك أنت بالذات تكذب أكثر من قطة في حوض سمك.
تسألني صديقتي: "قديش عمرك؟" أجيب: "47 سنة"، بالكاد تخفي امتعاضها، فقد كانت تأمل بحبيب أكثر شباباً، ثم تداري الأمر بالقول: "العمر مجرّد رقم".
تسألني صديقتي: "قديش عمرك؟" أجيب: "47 سنة"، بالكاد تخفي امتعاضها، فقد كانت تأمل بحبيب أكثر شباباً، ثم تداري الأمر بالقول: "العمر مجرّد رقم"، أردد خلفها: "نعم مجرد رقم، لكن أعوّض ضخامته بالأحضان والقُبل"، لكن أي رقم هذا، أي رقم لعدد من الخيبات والخذلانات المغطاة بأوراق ملونة كأغلفة قطع الشوكولا، لعدد من الانكسارات والكثير من الخيانات المنقوشة على رسائل "واتس أب" وعلى مناديل ورقية، على أرصفة حجرية في اللاذقية وعلى مقاهٍ منتشرة كالفطر في صحن طعام الأسبوع الماضي، لعدد من الانتظارات لزيارة يوم السبت في السجن المركزي... مجرد رقم أيها العالم، أنا مجرد رقم، عمري رقم، اسمي رقم، موقعي في الندم رقم، في الحيوانات التي تجتاح كل صباح الشوارع بحثاً عن وحدتها رقم، في السيارات التي تمرّ فوق قدمي وأنا أقفز من رصيف لآخر، في النصوص التي أكتبها كأن بسكين على لحم عار، في الكوابيس الهاربة من مسلسلات نيتفليكس، أنا رقم فحسب.
الرقم في أخبار الثامنة تماماً
يقول الخبر: قُتل ما يقارب مائة وعشرون شخصاً في انقلاب زورق كان يقلّ مهاجرين أغلبهم سوريين قرب السواحل اليونانية، قد يكون الرقم مائة وواحد وعشرين أو اثنان وعشرين، ما يقارب، يعني أن بعض الأرواح هي قد تقارب الأرواح، وربما هي غير محسوبة في دفتر الأرواح، في القائمة التي أعدّها الله وسجّلت على أوراق شجرة ملك الموت، ولم لا، هو مجرد رقم في خبر، لا يعني المذيعة ذات الشفاه المحقونة والخدود المتفجرة دقة الأمر، كانت مساحة سوريا تقارب 185000 كم، ثم أصبحت ما يقارب 100000 كم، لا يهم، هذه أرقام فحسب، سوريا موجودة هناك، في خارطة ما، في ذاكرة دامية لعائلة نازحة أو لعائلة من الجنود المفقودين، تقارب مساحتها مساحة قلوب الوالدات المفجوعات، أو سوريا ربما تقارب الأرض التي يسيطر عليها الروس أو الإيرانيون أو الأميركان أو الأتراك، أنها أرقام فحسب، أو ما يقارب الأرقام، فقد تحسب مساحتها بأشجار الزيتون، بمناجم الفوسفات، بآبار النفط والغاز، بالقبور والخوذ المعدنية، بالعبوات المفخخة في السلل الغذائية، بعدد الطائرات التي تربض في مطاراتها... من الذي يتكلم عن الدقة الآن؟
يقول الخبر: قُتل ما يقارب مائة وعشرون شخصاً في انقلاب زورق كان يقلّ مهاجرين أغلبهم سوريين قرب السواحل اليونانية، قد يكون الرقم مائة وواحد وعشرين أو اثنان وعشرين، ما يقارب، يعني أن بعض الأرواح هي قد تقارب الأرواح، وربما هي غير محسوبة في دفتر الأرواح، في القائمة التي أعدّها الله وسجّلت على أوراق شجرة ملك الموت
رقم صغير لا يكبر
عندما كنت صغيراً كانت الأرقام عكس العالم بالنسبة لي، عكس الحياة الحقيقية، كنت أستغرب أن يتحدث الناس عن الأرقام بينما هناك كتب للقراءة وشمس للعب وكرات للركض خلفها، كان الوجود الماثل في "الخارج" أكثر أهمية من الأرقام، الوجود الرابض على جدار قصير يتشمّس كقط في شباط، ثم غرقت في طوفانها، الكل يتحدث عن الأرقام: وسائل الإعلام، السياسيون بكلمات مقعّرة، خبراء الاقتصاد القادمون من نظريات الأب القائد، الرفاق والأخوة المتفقهون، أصبحت أنا رقماً أيضاً في حساب الوجود نفسه: رقم في الترتيب ضمن العائلة، رقم وطني على الهوية، رقم في "بونات" الأرز والسكّر، رقم في الامتحانات، رقم هاتف أرضي ثم موبايل، رقم جواز سفر ورقم عسكري، رقم راتب ورقم عشيق بالنسبة لحبيبتي، رُميت كورقة "مجعلكة" في شلال من الأرقام المنهمرة باستمرار، وأصبحت أيضاً مثل البالغين الذين كنت أتحدث عنهم بقرف، أعدّ المرات التي أمارس فيها الجنس، عدد القُبَل قبل الولوج، عدد من استطعت إغواءهم أو استطاعوا إقناعي بأني أغويتهم، عدد الأرغفة التي أحتاجها للوجبات الثلاث، عدد البيضات المسلوقة للإفطار، مستوى السكر في الدم، الضغط الأعلى والأدنى، رقم المنزل، نسبة البطالة في البلد، عدد السكان تحت خط الفقر، نسبة النجاح في الانتخابات الرئاسية، كل شيء صار محسوباً من قِبل محاسب خارق يملك آلة ضخمة لحساب الأنفاس: هييي دريوس، تبقى في حسابك عدد محدود من الحيوانات المنوية، انتبه، لا تبدد بذورك كيفما اتفق.
يحضر النادل زجاجة من نبيذ بوردو، ويريني بفخر سنة الصنع، حسب التقاليد الفرنسية: 2017 أو تفضل 2015، كانت سنة جيدة لعنب فرنسا، أجيب: الأقدم طبعاً، إنه مجرّد رقم، ما لم يكن موجوداً على زجاجة نبيذ.
طغيان الأرقام
يحكمنا الآن الرقمان 0 و1، العالم "الرقمي" الذي يعبّر عنك كمصفوفة من الأصفار والواحدات، لكن الأرقام لا معنى لها بمجرد أن تتواجد في الفراغ، من الضروري أن تنسب إلى شيء، منطق سابق أو لاحق، ثابت أو متحرك يمنحها المعنى، وإلا فهي تبقى مجرّد "دقة" مشغولة من اللاشيء، والأرقام اليوم ترمى كأنها ثمار بلوط، نضرب بها على رؤوسنا الصلبة وتفاجئنا، ننحني أمامها، نبسمل أو نصلّب كأنها كتب مقدسة أو محاريب لمعابد إلهية، وربما نؤطرها ونضعها في الصالونات كما فعلنا بالحروف لتمنح البيت بركة سحرية ما، يجب أن تتراجع الأرقام لصالح الكلمة، لصالح الفعل الفعلي، في البدء كانت الكلمة، هكذا قال الرب لكنه أرهق رؤوسنا فيما بعد بسيل من الأرقام، إذا أردنا شغل أوقاتنا في ضربها وجمعها، فلن نفعل شيئاً آخر غير الوقوع في الهذيان، سبعون حورية ولكل حورية سبعون ألف وصيفة ولكل وصيفة... سبعة أبواب ولكل باب سبعون جرساً على سبيل المثال، ثم أرقام أخرى للحرس الجمهوري أو لعدد أفراد الجيش، للميزانية العامة ولحجم الإنفاق الاستثماري وللناتج المحلي الإجمالي... أرقام تتناسل من بعضها لتكتشف "صفريتك" أمام عظمة الخالق/النظام، لتكتشف أنك "صفره" اللطيف، المدلل، الصفر المحقون بالكوليرا واللشمانيا والتهاب الكبد الفيروسي.
كان أبي يستخدم الدقة تلك ليوحي بالمصداقية، كان يقول مثلاً: كان على الفرن 54 رجلاً، ليس 50 أو 60 بل 54، لنصدّق الرقم، لأنه يوحي أكثر بالمصداقية ولن نشكك به، وهذا ما تفعله الحكومات ووسائل الإعلام، تستخدم الدقة لتروّج للكذبة، فإذا قيل لنا أن 74.6% يؤيدون رئيساً ما سيكون أكثر مصداقية من 80% أو 70% وهكذا، فالنتيجة هي خلط الدقة بالكذب من أجل ترويج الكذب المنمّق بالقياس الدقيق، لكن هل ينبغي قياس كل ما يقاس؟
كنت رجلاً أول في حياة بعضهن ثم أصبحت رجلاً ثانياً أو ربما ثالثاً، وربما اختفيت أحياناً ولم يتبق مني غير ظلّ خلف ستارة الحمام، أو اسم على جرس الباب، بدأت رابعاً في ترتيب الذكور وسابعاً في الترتيب العام، وانتهيت هكذا بلا قياس ولا مرتبة: ذاك المتأخّر العاصي، ثم عدت أولاً في الهروب إلى أوروبا، ثم أخيراً في الذكريات حول مائدة العشاء العائلي.
أنا مسطرة لا غير، وحدة قياس للآخرين: انتبه لا تكون مثل جارنا الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يقصّ شعره، يقيسون بي خيباتهم، يقيسون بي ولاءهم لزوجاتهم ونجاح أولادهم، وأنا محزّز ومعلّم بخطوط سوداء صغيرة تدلّ على مقدار الكآبة، كموازين الحرارة: تقول الطبيبة، إذا ارتفعت كآبتك شخطتين تناول حبة دواء واحدة، ثلاث شخطات تناول حبتين، إذا تجاوزت الشخطات الخمس تناول العلبة كلها، أو ارم نفسك من الطابق العاشر، فعندها لا أنا ولا الرب نستطيع مساعدتك.
كنت رجلاً أول في حياة بعضهن ثم أصبحت رجلاً ثانياً أو ربما ثالثاً، وربما اختفيت أحياناً ولم يتبق مني غير ظلّ خلف ستارة الحمام، أو اسم على جرس الباب، بدأت رابعاً في ترتيب الذكور وسابعاً في الترتيب العام، وانتهيت هكذا بلا قياس ولا مرتبة: ذاك المتأخّر العاصي، ثم عدت أولاً في الهروب إلى أوروبا، ثم أخيراً في الذكريات حول مائدة العشاء العائلي
خواتم ناعمة
حسناً، ليست الأرقام دائماً مزعجة على هذا النحو، بها عرفت أن لي حياة واحدة فحسب، يجب أن أبددها بدون خشية المتلاعبين بالموازين، حياة واحدة بقلب واحد كبير كقلب الفيل، بسبعة وأربعين وجهاً ومائة وستة وثلاثين قدماً، ركضت بهم صوب الحب، الواحد، الوحيد، الفرد والصمد والذي لا أمتلك إلاه في صدري الضيّق.
يحضر النادل زجاجة من نبيذ بوردو، ويريني بفخر سنة الصنع، حسب التقاليد الفرنسية: 2017 أو تفضل 2015، كانت سنة جيدة لعنب فرنسا، أجيب: الأقدم طبعاً، إنه مجرّد رقم، ما لم يكن موجوداً على زجاجة نبيذ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...