ما الإنسان؟ لم تخل القراءات الفلسفية على مدى العقود الماضية من طرح هذا الإشكال الذي يتمحور حول الوجود، العلم، الجمال والمعمار، والذي يتساءل عن هذا الكائن الحامل لنقيضين: جسد فان وروح خالدة تكاملان في خلق كونية جسدية بذاكرة "روحية".
ولعلّ لوحة "الإنسان الفيتروفي" هي اللوحة الأولى التي أقرّت بكونية الإنسان وأنسنة الكون، وكانت سبّاقة لطرح مفهوم "قدر الجسد"، هذا الاكتشاف الحديث الذي ما انفكّ عن الانشغال بوظيفة الجسد وتشتّته بين الانعزال والانفتاح.
لعلّ لوحة "الإنسان الفيتروفي" هي اللوحة الأولى التي أقرّت بكونية الإنسان وأنسنة الكون، وكانت سبّاقة لطرح مفهوم "قدر الجسد"، هذا الاكتشاف الحديث الذي ما انفكّ عن الانشغال بوظيفة الجسد وتشتّته بين الانعزال والانفتاح
الإنسان هو مقياس كل شيء ونموذج العمارة
تعتبر لوحة الإنسان الفيتروفي لليوناردو دافينشي، من اللوحات النادرة التي أقرّت بأطروحة فيتروفياس حول العمارة، وبـشرعية "طبيعانية" العمارة، حيث يمثّل جسم الإنسان نموذجاً للبناء المثالي الذي يجمع بين الشكل، الوظيفة والجمال، كحال الإنسان الذي خُلق في أحسن تقويم، وهذا ما ذهب إليه معظم معماريي النهضة الإيطالية، على غرار فرانشيسكو دي جورجيو، فاساري، فرا جيوفاني جيكوندو، وتشيزاري تشيزاريانو.
لكنّنا في هذا المقال، لن نتناول هذه اللوحة من منظور معماري كما ذهب إلى ذلك معظم النقّاد، بقدر ما نرغب في تعزيز كونية الإنسان وطرح إشكال "قدرية" الجسد المتنازع بين شتات هذا الكون، لاسيما وأن الظرف الراهن يستوجب علينا إعادة التفكير في مفهوم "قدر الجسد".
لقد جاءت اللوحة المذكورة باهتة، شاحبة، دون إضافات لونية أو جمالية، مرتدية ثوب التخطيط، مختلطة بكلمات توضيحية لأبعاد جسد موضوعي/ محايد ينافس الهندسة، ولعلّ هذا الإنسان الفيتروفي هو أوّل من قدّم جسده لمنافسة العلوم الصحيحة طوعاً، وللإقرار بمحوريته الكونية، خاصة وأنها تزامنت مع بدايات "عودة الميلاد" أو النهضة الإيطالية.
"إنّ تعرية جسد لا تبلغ العري مطلقاً. إنها لا تكشف شيئا آخر سوى مخارج"، هذا ما عبّر عنه الرسم حاملاً عرياً واحداً لرجل ذي جسدين متداخلين، أو جسد ذي حركتين متقابلتين، جسد يشغل دائرة الأرض الكروية، وآخر يشغل مساحة العقل المربّعة، هكذا هو العالم: أرض وعقل، ولا يمكن للإنسان أن يكون كونيّاً دون حيازة جانب من كليهما.
ولم يفت دهاء دافينشي أن يخرج الإنسان على طبيعته، عارياً، دون إضافات، ليخوّل للمرئي أن يتمتّع بنرجسيته، ذلك أنّ العري هو "نرجسية أساسية لكل رؤية"، تعي جيّداً الفصل بين الجسد/ الظاهرة والجسد الموضوعي، كما هو الحال في هذه اللوحة التي حوّلت المرئي إلى لامرئي وأجبرت العين على التفكير في أبعاد هذا الكائن المنتشر طولاً وعرضاً.
من الجسد الكوني إلى الجسد المسجون
في كتابه، المراقبة والعقاب، أعلن فوكو أنّ "ما يريد أن يكتبه هو تاريخ ذلك السجن مع كلّ الاستثمارات السياسية للجسد التي جمعها في معمار مغلق"، وهذا المعمار هو تأريخ وتوثيق لجسد منهك من التهميش والإقصاء، معاقب على مبارزته لسلطة تحمل أجساداً حديدية، فهذا الجسد المنهك هو في حقيقة الأمر انزاح عن قوالب جسدية لسلطة كونية، وهكذا يتحوّل محور الكون الدافينشي إلى محاور كونية تجتمع داخل كرة لا تنفتح على مربّع التفكير، محطّمة أطروحة فيتروفياس الشكلية.
لقد شحنت أجساد السلطة بعدّة قوى أخضعتها للنظام الاستعبادي الكوني، فهي قوى إنتاجية تابعة لنظام متّفق عليه، ولئن عانت هذه القوى الإنتاجية من تبعية مفرطة، ومن تشييء أنسن الجامد وشيّأ الإنسان، فإنّ الحديث عن "المخضع الجبّار" –فيروس كورونا المستجّد- الذي أعاد كلّ إلى أصله والطبيعة إلى نظامها، هو الذي طرح علينا مجدّداً فكرة "قدر الجسد" في مواجهة لوحة "الإنسان الفيتروفي".
قدّم فيروس كورونا المستجّد في القرن 21 للجسد ما لم يقدّمه تطوّر الإنسان لذاته، فلقرون مضت، كان الإنسان يتصارع مع نرجسيته حول ماهية هذا الإنسان الذي خلق فنّ العمارة من تقويمه المثالي: الوجه هو الواجهة، الساقان هما السلّم، الفم هو الباب المركزي، العينان هما النافذتان.... والذي تميّز عن كلّ الكائنات الحيّة بعقل تفرّق بدوره بين العقل التوتاليتاري، العقل الوضعي والعقل المثالي.... تختلف العقول وتتجمّع تحت إشكال جوهري: ما الإنسان؟
دّم فيروس كورونا المستجّد في القرن 21 للجسد ما لم يقدّمه تطوّر الإنسان لذاته، فلقرون مضت، كان الإنسان يتصارع مع نرجسيته حول ماهية الإنسان
أمّا فيروس كورونا، فقد ترك هذه الإشكالات قائمة وشغل العقل بمفهوم "قدر الجسد"، حيث قدّم للذوات فرصة الاختيار بين ثلاثة أجساد لا طبقية ظاهراً، لكنّها أضافت على الجسد الميّت والحيّ معايير تتصارع باطناً وتحاول الفتك بطبقية معيارية.
"قدر الجسد" الكوروني ينافس لاوعي العاري الميّت والوليد منه
"العرض الفنّي للأجساد العارية، سواء كانت منحوتة أو مرسومة أو مصوّرة فوتوغرافياً، يتجنّب معظم الوقت ذكر القرابة المشؤومة بين الجسد والجثث، لكن فضيحة العري لا تنفجر إلاّ عندما تنكشف هذه القرابة المكبوتة"، وتسقط مفهوم العري ونرجسيته في خانة اللاوعي واللامبالاة، حيث تصبح الجثة رمزاً لموت يجب التخلّص منه، كما الحال عند الولادة، لا أحد يهتم بجسد الرضيع إن كان عارياً، وإن كانت تفاصيله تجبر العين على التفكير في شيء غير حدث الولادة، ومع هذين العاريين اللامرئيين يخلق فيروس كورونا مجالات أخرى يسمح بها للعاري أن يتجرّد من حالته، وهو الجسد المنعزل، ذلك الجسد المتراوح بين إعادة الخلق والموت، هي فرصة لتخطّي عوالم يكون هو محورها الوحيد، ويسمح له أن يكون فيها بطل دافينشي.
إنّ الجسد المنعزل هو ثاني جسد يختار أن ينافس القوى الطبيعية، بعد جسد الإنسان الفيتروفي، الذي اختار مع دافينشي منافسة العمارة، وبهذا تمرّد على قدره الذي تحوّل مع الفيروس من قوّة إنتاج إلى سجن داخل المعمار المغلق الفوكووي، وطالب بشرعيته في معانقة الكون، صارخاً مع دافينشي: إنّا للكون وإنّا إليه راجعون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.