شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لماذا ينجح البعض بالتعامل مع الصدمات في حين يصيب الآخرين

لماذا ينجح البعض بالتعامل مع الصدمات في حين يصيب الآخرين "الشلل"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 31 مارس 202006:13 م

هناك مشهد يكاد يتكرر في معظم الأفلام التي تجسد الكوارث والأزمات: ما أن تقع الكارثة، سواء كان ذلك انفجار قنبلة أو زلزال أو سقوط مبنى أو اندلاع حريق... حتى نجد الجميع يركضون في جميع الاتجاهات وهم يصرخون بأعلى صوتهم طالبين النجدة، فيما يمدّ البعض الآخر يده بكل شجاعة لتقديم المساعدة للضعفاء والمرضى، بغية انتشالهم من "براثن" الموت، وفي حين أن هذا الأمر قد يحدث بالفعل في الحياة الواقعية، إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون هو الرد الفعل النموذجي على كيفية إدارة الأزمات والتعامل مع الخطر، إذ إن بعض الأشخاص يصيبهم "الشلل" فيتسمّرون في مكانهم، في الوقت الذي "ينهار" فيه العالم من حولهم.

من الجدل العقيم الذي قد ينشب أثناء غرق السفينة في عرض البحر، وصولاً إلى الوقوف مكتوفي الأيدي على الشاطئ مع التحذير باقتراب تسونامي، أو التسمر في المكان نفسه عند اندلاع الحريق أو عند إغماء شخص مقرّب، لاحظ علماء النفس أن الكثير من الأشخاص، أمام السيناريوهات القاتلة والمرعبة التي تقشعر لها الأبدان، لا يتصرفون بالسرعة الكافية لإنقاذ حياتهم وحياة الآخرين، بل يتخذون قرارات خاطئة قد تدمرهم.

وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا بوسع بعض الأفراد التزام الهدوء والحفاظ على تماسكهم في المواقف الأكثر خطورة والتصرف بسرعة وحزم، في حين أن بعض الأشخاص يصابون بـ"الشلل" والعجز الجسدي والعقلي، فينتهي بهم الأمر إلى تعريض أنفسهم لخطر أكبر؟

الدماغ تحت الخوف

في مقالها الذي ورد في موقع بي بي سي، كتبت الصحافية زاريا غورفيت، عن كيفية تعامل العقل البشري مع الأزمات، مشيرة إلى أن معظم الناس تصبح حركتهم بطيئة عندما يتم وضعهم تحت ظروف خطيرة: "في الحقيقة، إن الاستجابة البشرية الطبيعية في مواجهة الخطر هي ببساطة عدم القيام بأي شيء".

ونقلت زاريا عن جون ليتش، عالم النفس في جامعة بورتسموث، الذي نجا من حريق كينغز كروس، قوله: "عند الأزمات، يستجيب 80 إلى 90% من الأشخاص بشكل غير لائق".

أمام المخاطر تتأرجح ردة الفعل بين المواجهة أو الفرار، إلا أن البعض يصيبه نوع من "الشلل الكامل"، بحيث أنه يفقد السيطرة على نفسه ويكون في حالة جمود كما لو كان تحت تأثير المخدر

وبالفعل، أظهرت لقطات من الزلزال الذي حصل في اليابان في العام 2011، أن الناس قد خاطروا بحياتهم من أجل "إنقاذ" زجاجات الكحول ومنعها من السقوط من على رفوف السوبرماركت، وبالمثل عندما اشتعلت النيران في إحدى الطائرات في مطار في دنفر، فضل بعض الركاب البقاء في الطائرة لمشاهدة النيران والتقاط صور شخصية، وغيرها من الحوادث التي قد لا يقوي العقل البشري على استيعابها.

ما هي السلوكيات التي يجب تجنبها عند مواجهة سيناريوهات تهدد حياتنا؟

التجمد: عندما نفكر في كارثة ما، نميل الى التفكير فوراً في الهستيريا الجماعية، ففي الأفلام نجد أن الناس وأمام الخطر، يهرولون ويتدافعون عند حدوث أزمة ما، إلا أنه وكما أشرنا سابقاً، فإن الاستجابة البشرية الطبيعية في مواجهة الخطر هي ببساطة التجمّد وعدم القيام بأي شيء، وهذا رد فعل عالمي، الأمر الذي جعل علماء النفس يتحدثون عما أسموه "استجابة القتال أوالفرار أوالتجميد" fight-flight-freeze عوضاً عن الاستجابة المعروفة بالقتال أو الفرارFight-or-flight response .

عدم القدرة على التفكير: في كثير من الأحيان تكون الأدمغة بطيئة بشكل مقلق بينما تكون الكوارث سريعة.

فقد أشارت غورفيت إلى أنه يُطلب من مصنعي الطائرات إظهار أنه يمكن إخلاء الطائرة بأكملها في 90 ثانية فقط، إذ كشفت الدراسات أن خطر اشتعال النار في الحجرة يزداد بشكل حاد بعد هذه الفترة، وفي الوقت نفسه لا يزال معظمنا "يرتبك" عند استخدام أحزمة الأمان، وفق قولها.

واللافت أن مسألة البقاء على قيد الحياة تعتمد على الطريقة التي نتخذ بها القرارات، فأثناء الكارثة تتحول السرعة التي نفكر بها من خلال خياراتنا من سيء إلى أسوأ، وهنا تلعب الهرمونات دوراً كبيراً، فصحيح أن الدوبامين يجلب الشعور بالراحة والسعادة، إلا أنه يلعب دوراً حاسماً في إعداد الجسم لمواجهة الخطر، ما يؤدي إلى إطلاق المزيد من الهرمونات، بما في ذلك الأدرينالين والكورتيزول، وهنا تصبح الفوضى سيدة الموقف، إذ إن هذا "الخليط" من الهرمونات يغلق قشرة الفصّ الجبهي، وهي المنطقة المسؤولة عن الذاكرة، الأمر الذي يجعلنا ننسى ونكون عرضة لاتخاذ خيارات خاطئة.

منظور النفق: من المطمئن أن نعتقد بأننا في حالات الأزمة سنستجيب من خلال التفكير بطريقة خلاقة لحلّ المشكلة الحاصلة، إلا أنه في العادة، تكون الاستجابة من خلال التفكير بحل عبر طريقة واحدة، مراراً وتكراراً، بغضّ النظر عن النتائج.

واللافت أن رؤية المشاكل عبر منظور النفق نراه بشكل كبير لدى أولئك الذين تدمرت لديهم قشرة الفصّ الجبهي، ما يشير إلى أن استجابة الدماغ للتوتر التي تغلق هذه المنطقة قد تكون السبب في التفكير غير المرن في لحظات الأزمة.

البقاء عالقين في الروتين: تحدث جيمس غوف، المتخصص في إدارة الكوارث والطوارئ في جامعة هاواي، عن عدد الأشخاص الذين قتلوا بعد أن عادوا إلى المكان الخطر لأخذ محفظتهم، أو للتحقق عما إذا كانوا قد أطفأوا النار في الفرن...

قد تبدو المخاطرة بالحياة من أجل المحفظة هو ضرب من الجنون أو الغباء المطلق، إلا أن هذا السلوك شائع جداً لدرجة أن علماء النفس أطلقوا عليه مصطلح "السلوك النمطي" stereotypical behavior، في إشارة إلى الظاهرة المقلقة المتمثلة في الاستمرار في الروتين اليومي، حتى عندما يكون المنزل مشتعلاً...

فلماذا لا نستطيع إيقاف ردود الأفعال اللاواعية هذه؟

اتضح أنه في الحياة اليومية، تعتمد أدمغتنا بشكل غير عادي على الإلفة. ففي السيناريوهات غير الكارثية، نحمل حقيبتنا من دون تفكير عندما تهبط الطائرة، وذلك بغية المساعدة في تحرير المساحة العقلية للتركيز على الأشياء التي لم نواجهها من قبل، مثل التنقل في مطار بلد غريب. وتعليقاً على هذه النقطة، قال جون ليتش: "نحن في الحاضر، لكننا نتطلع إلى المستقبل عبر الروتين".

الإنكار: عند الأزمات يلجأ البعض إلى الإنكار وتجاهل الخطر تماماً، وذلك لسببين: إما لأنهم فشلوا في تفسير الموقف وتصنيفه على أنه خطير، أو ببساطة لأنهم لا يريدون الاعتراف بالخطر.

واللافت أن السبب الثاني شائع للغاية عند اندلاع الحرائق، بحسب ما أكده أندرو غيسينغ، خبير إدارة مخاطر الطوارئ في شركة ريسك فرونتيرز الاستشارية: "يميل الناس إلى الانتظار حتى يتمكنوا من رؤية الدخان، وهذا يعني غالباً أن الوقت أصبح متأخراً جداً للمغادرة. لذا يصبح هؤلاء محاصرين في منزل غير مهيأ للحرائق، أو يواجهون خطر التعرض للحرق أثناء محاولة الإخلاء".

العوامل التي تتحكم بردات فعلنا

في حديثه مع موقع رصيف22، كشف الأخصائي في علم النفس هاني رستم، أنه أمام المخاطر تتأرجح ردة فعل الإنسان بين المواجهة أو الفرار، إلا أن البعض يصيبه نوع من "الشلل الكامل"، بحيث أنه يفقد السيطرة على نفسه ويكون في حالة جمود كما لو كان تحت تأثير المخدر.

في الكثير من الأحيان تكون ردة فعلنا نابعة من خوفنا من خسارة أنفسنا وخسارة الآخرين الموجودين في حياتنا

وتحدث رستم عن العوامل التي تتحكّم بردات أفعالنا، مشيراً إلى أن الأشخاص الذين لديهم بنية نفسية قوية ومرنة نتيجة التنشئة الاجتماعية والتجارب الحياتية، تكون لديهم القدرة على استيعاب حجم الصدمة والتعامل معها بطريقة عقلانية أفضل مقارنة بالآخرين.

بالإضافة إلى ذلك، استند هاني إلى رأي الأخصائي في علم النفس، بيسيل فان دير كولك، الذي اعتبر أن ردة فعلنا تجاه الصدمات مرتبطة إلى حدّ كبير بعلاقتنا مع الحياة والموت، وتحديداً الخوف من الفقدان، سواء كان ذلك فقدان أنفسنا أو فقدان الآخرين: "في الكثير من الأحيان تكون ردة فعلنا نابعة من خوفنا من خسارة أنفسنا وخسارة الآخرين الموجودين في حياتنا... وبكتير حالات ممكن ننسى حالنا ونروح على مكان الخطر لحتى نحمي الآخرين".

وأشار رستم إلى أن الهرمونات التي يفرزها الدماغ أثناء الصدمات تلعب أيضاً دوراً كبيراً في تحديد ردات الفعل، مضيفاً بأن آثار الصدمات غالباً ما تبقى لفترة طويلة، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية تعرف باضطرابات ما بعد الصدمةPost Traumatic Stress Disorder.

التخطيط المسبق

من المحتمل أن يكون بعض الأشخاص بطبيعتهم أكثر عقلانية وهدوءاً في مواجهة الخطر، ولكن الأمر يتعلق بشكل رئيسي بتجربتهم وتدريبهم، وفق ما يؤكده عالم النفس الذي كانت يعمل في البحرية، راسل شيلينغ، لموقع fast company، مشيراً إلى أن ردود أفعال الناس على الخطر تعتمد على كيفية نمو عقولهم، ما تعلموه في الماضي، مدى تعرضهم للإجهاد والمفاهيم المسبقة التي لديهم عن الخطر: "إذا كنتم مهيئين للخوف من الطيران، فمن المرجح أن يكون لديكم رد فعل قوي تجاه الأشياء التي تحدث في الطائرة".

ويوضح شيلينغ أنه عندما "يتجمّد" الناس في مكانهم، فإنهم يختبرون استجابة تسمى "المواجهة أو الفرار"، بحيث أنهم يحاولون العثور على خطة حول كيفية التفاعل، إلا أن الإدراك يصبح صعباً، لأن الجهاز الحوفي لديهم لا يعمل بشكل صحيح: "يبدو الأمر وكأنكم تتجمدون، لكن عقلكم يحاول التخطيط من خلاله".

ورداً على السؤال التالي: لماذا يكون بعض الناس هادئين وعقلانيين، بينما يصاب البعض الآخر بالخوف والشلل؟ يجيب راسل بأن الأمر كله يتعلق بالاستعداد والتدريب.

وفي هذا الصدد، يقول شيلينغ، الذي أمضى 22 عاماً كطبيب نفسي في القطاع العسكري، إن معظم التدريبات التي أجراها كانت موجهة نحو القدرة على الاستجابة بطريقة هادئة وعقلانية عند مواجهة الخطر: "إذا كنتم قد تلقيتم تدريباً مكثفاً، فهذا يعني أنه بات لديكم مجموعة من الردود أنتم على استعداد لاستخدامها، لذلك لا يتعين عليكم قضاء الكثير من الوقت للتفكير فيما يجب فعله".

يعترف راسل شيلينغ بأننا نعيش في وقت يجعلنا التعرض السلبي نشعر بالتوتر والخوف، حتى في المواقف التي لا يبدو معدل الخطر فيها مرتفعاً، شارحاً ذلك بالقول: "التعرض لمثل هذه الأحداث على شاشات التلفزة بشكل يومي يصيبنا فعلاً بالصدمة وفق ردة فعلنا تجاه الذعر"، مضيفاً بأن ما نحتاج إلى فعله هو التفكير من خلال وضعنا أنفسنا في هذه المواقف: ماذا سأفعل لو واجهت هذه المواقف؟ كيف سأتصرف؟ وغيرها من الأسئلة التي يطرحها في العادة الطيارون والمسؤولون العسكريون ورجال الإطفاء على أنفسهم، ويتم تدريبهم على كيفية الإجابة عليها.

البقاء على قيد الحياة لا يحتاج دوماً إلى الأعمال البطولية، بل قد يعتمد على تجنب الأخطاء الطائشة والقرارات الخاطئة والمتهورة

والواقع أن هذه الاستراتيجية يمكن للجميع الاستفادة منها، فعلى سبيل المثال، أجرى شيلينغ شخصياً هذا النقاش مع عائلته، بحيث أنهم اتفقوا جميعاً على وضع خطة طوارىء وتوزيع الأدوار قبل الذهاب إلى حدث اجتماعي ضخم، وذلك بهدف أن يعرف كل واحد منهم ما يمكن توقعه من الآخر.

ويوضح راسل أن الفكرة هي أن يكون الجميع على دراية بأقرب مخرج، وأن يكون هناك خطة واضحة من دون أن يصيبهم ذلك بالقلق الشديد، ومع ذلك يعترف عالم النفس بأن التفكير المفرط في السيناريو الأسوأ هو سلاح ذو حدين، لأن التخطيط المستمر للأسوأ يمكن أن يضر بجودة حياة المرء.

والواقع أن الشعور بالتجمد واللجوء إلى القتال أو الفرار في اللحظة التي نشعر فيها بالخطر (مهما كان صغيراً) ينبع عادة من الشعور بالعجز والضعف، وعليه يقول شيلينغ، إن التدريب "يمكن أن يمنحنا شعوراً بالسيطرة. صحيح أنه لا يمكننا دائماً التنبؤ بكيفية رد فعلنا في موقف حرج، إلا أنه بإمكاننا تدريب أنفسنا على مجموعة من الممارسات، إذا وجدنا أنفسنا بحاجة إليها".

وبالتالي، يبدو أن أفضل طريقة للتغلب على التداعيات العقلية هي استبدال ردود الأفعال التلقائية غير المفيدة بأخرى قد تنقذ حياتكم، فالبقاء على قيد الحياة لا يحتاج دوماً إلى الأعمال البطولية، بل قد يعتمد على تجنب الأخطاء الطائشة والقرارات الخاطئة والمتهورة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard