عاش في الهند ملكٌ عظيمٌ ذو مالٍ ونفوذٍ يُدعى أفينيس (أبنّر)، وكان يعبد الأصنام ويضطهد الدين المسيحيّ. وتنبّأ له يومًا أحد العرّافين أنّ ابنه جوزفات (يوذفات، يوذاسف) سيعتنق المسيحيّة ويسود في عالمٍ روحانيّ. فقام أفينيس مُكرهًا بسجن ابنه في قصرٍ لا يدخله إلّا صفوة الخدم ممّن حسُن مظهرهم وقوِيَ بنيانهم.
وكبر جوزفات في ذلك القصر، حتّى بلغَ أشُدَّه فسُمح له بالخروج منه. وعلى الرغم من جميع الاحتياطات، قابل جوزفات شيخًا أعمى مجذومًا أدرد يجسّد – في حاله هذه - الموت المحتّم الذي تؤول إليه البشريّة جمعاء. أمّا جوزفات فبدا كمن أضاع كنزًا ثمينًا وعجز عن العثور عليه.
فنقل اللهُ حالَه هذه إلى الناسك برلام (فرلام، بلوهر)، فأتاه الأخير سرًّا في هيئة تاجرٍ يملك جوهرةً سحريّةً. ودعاه إلى تعاليم الكتاب المقدّس وأسمعه بعض الأقوال والحكم، إلى أن تمكّن من تعميده بعد فترة. فسأله جوزفات أن يصحبه في صحراء سنار، لكنّ أوان رحيله لم يكن قد حان بعد، وهكذا ودّعه برلام بعد أن أعطاه رداءه القديم ليلبسَه.
القديس جوزفات يلقي عظة، من مخطوطة يونانية من القرن الـ12.
عندما علم الملك أفينيس بتنصُّر جوزفات، حاول بشتّى السبل أن يبعده عن هذا الدين الجديد. جرّب بدايةً أن يُثيرَ فيه مشاعر البنوّة ويذكّره بواجباته تجاه أبيه، ثمّ أشهدَهُ عددًا من المناظرات العامّة، كما عرّضه لإغواء أميرةٍ تلبّستها الشياطين. وصمد جوزفات في النهاية وباءت محاولات أبيه بالفشل.
ثمّ اعتنق الأب المسيحيّة بعد حينٍ أسوةً بابنه وجميع سكّان مملكته. وعند وفاته، غادر جوزفات المملكة وانضمّ إلى برلام. وبعد مسيرةٍ مضنيةٍ من التنسّك مات في أثر القداسة وعاد جسده إلى المملكة وغدا قبره مزارًا.
من مخطوطة الأسطورة من باريس
بوذا مثل عيسى هو المخلّص، سيحرّر الخلائق ويمحو من العالم حجب الجهل والمعاصي. إنّ صورة المخلّص واضحةٌ في كافّة الرّوايات المسيحيّة لأسطورة برلام وجوزفات بعكس النّصوص الإسماعيليّة التي تغيب عنها صورة المخلّص، وتظهر صورة المعلّم المرشد
تُعرف هذه الأسطورة بأسطورة برلام وجوزفات. وهناك أكثر من 60 روايةً للقصّة تتشارك الحبكة نفسها. وفي العام 1859، أثبت عددٌ من الباحثين المستقلّين أنّ الإطار السّرديّ لأسطورة برلام وجوزفات يتماثل مع ما ورد في قصّة غوتاما مؤسّس البوذيّة. إنّ هذا الاكتشاف كان نتيجة تقدّمٍ كبيرٍ حقّقته الدّراسات الغربيّة التي تناولت البوذيّة في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر.
من مخطوطة الأسطورة من باريس
أدّت الأعمال الأدبيّة التي تناولت أسطورة برلام وجوزفات دورًا مهمًّا في تكوين الجانب الروحيّ المسيحيّ بدءًا من القرن الحادي عشر للميلاد. وليس هذا بمستغرب، إذ تتمتّع الأسطورة بإطارٍ سرديٍّ جذّاب، وتحمل بعدًا رومانسيًّا، وتجسّد نموذجًا للناسك المتعبّد، هذا إلى جانب اختلاطها بأساطير شتّى لوّنت رواياتها المختلفة. والأسطورة نموذج لاتّصال الحضارات وتواصلها، وتنقّلت بين جميع البلدان المسيحيّة تقريبًا في أكثر من ستّين لغة. وقد حظيت الشخصيّتان الأساسيّتان في الأسطورة بشعبيّةٍ كبيرةٍ. ففي القرن العاشر للميلاد، خصّصت الكنيسة الأرثوذكسيّة الجورجيّة يومًا لإحياء ذكرى القدّيس العظيم المبجَّل يوذاسف ملك الهند.
تتمتّع أسطورة برلام وجوزفات بإطارٍ سرديٍّ جذّاب، وتحمل بعدًا رومانسيًّا، وتعالج ثيمات الانتقال من الضلال إلى الهداية، والتباين بين الحياة الدنيويّة والحياة الباقية ثيمات مشتركة بين الثقافات، وهذا ما ساهم في مرونة انتقالها بين الثقافات واللغات
وكذلك الكنيسة الكاثوليكيّة الرّومانيّة نصّبت برلام وجوزفات قدّيسين، وإن لم تقم بتطويبهما بشكلٍ رسميّ. وهكذا نجد سيرة هذين البطلينِ ضمن سير الشّهداء التي شاعت في روما أواخر القرن السّادس عشر، حيث يُذكرُ قدّيسا الهند (التي تقع على حدود بلاد فارس) تحت اليوم السّابع والعشرين من تشرين الثّاني. أمّا تفاصيل إدراجهما ضمن التّقويم الرّوماني الرّسمي فهي غير واضحة، وإن كنّا نعلم أنّهما اعتُبرا قدّيسينِ في أواخر القرن الثّالث عشر.
الملكة مايا مع الطفل بوذا ، من القرن الثاني، من مقتنيات المتحف البريطاني.
أدّت الأعمال الأدبيّة التي تناولت أسطورة برلام وجوزفات دورًا مهمًّا في تكوين الجانب الروحيّ المسيحيّ بدءًا من القرن الحادي عشر للميلاد. وليس هذا بمستغرب، إذ تتمتّع الأسطورة بإطارٍ سرديٍّ جذّاب، وتحمل بعدًا رومانسيًّا، وتجسّد نموذجًا للناسك المتعبّد، هذا إلى جانب اختلاطها بأساطير شتّى لوّنت رواياتها المختلفة. والأسطورة نموذج لاتّصال الحضارات وتواصلها، وتنقّلت بين جميع البلدان المسيحيّة تقريبًا في أكثر من ستّين لغة. وقد حظيت الشخصيّتان الأساسيّتان في الأسطورة بشعبيّةٍ كبيرةٍ. ففي القرن العاشر للميلاد، خصّصت الكنيسة الأرثوذكسيّة الجورجيّة يومًا لإحياء ذكرى القدّيس العظيم المبجَّل يوذاسف ملك الهند.
يعتقد بعض الباحثين أنّ قصّة بوذا تُرجمت بدايةً للمجتمع المانوي في إيران الوسطى، ثمّ ترجمها العرب عنهم... ويذكر ابن النّديم في الفهرست ضمن الكتب التي تُرجمت عن البهلويّة إلى العربيّة: كتاب البدّ أو كتاب بوذا، كتاب بلوهر وبوذاسف، وكتاب بوذاسف مفرد. ويقول إنّ هذه الكتب تُرجمت على يد ابن المقفّع أو أحدٍ ممّن جاء بعده
وفي 19 أيّار من كلّ عام، تُقام الصلوات لهذا الملك الفاضل المستنير باللّٰه الذي خلّص العرق الهنديّ - بقدرة الله - من ضلالة عبادة الشيطان وحوّلهم إلى طاعة إلٰه البشر جميعًا. وتُحيي الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة في 19 تشرين الثاني من كلّ عام ذكرى كلٍّ من برلام ويوذفات والملك أبنّر. أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة فتجعل 26 آب يومًا ليوسف المقدّس، ابن أبنّر ملك الهند..
بوذا وبوذا؟ على اليسار، بوذا وعلى رأسه تاج، قطعة برونزية، من كمبوديا، من القرن الثاني من الألفية الأولى 1100 (من مقتنيات متحف كمبوديا الوطني). على اليمين، الملك أفينيس وجوزفات يتحادثان، من مخطوطة في متحف ج. بول غيتي.
وكذلك نصّبت الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة برلام وجوزفات قدّيسينِ، وإن لم تقم بتطويبهما بشكلٍ رسميّ. وهكذا نجد سيرة هذين البطلينِ ضمن سير الشهداء التي شاعت في روما أواخر القرن السادس عشر، حيث يُذكرُ قدّيسا الهند (التي تقع على حدود بلاد فارس) في اليوم السابع والعشرين من تشرين الثاني. أمّا تفاصيل إدراجهما ضمن التقويم الرومانيّ الرسميّ فهي غير واضحة، وإن كنّا نعلم أنّهما اعتُبرا قدّيسينِ في أواخر القرن الثالث عشر.
طريق الترجمة
يُعتقد اليوم أنّ هذه الأسطورة لم تؤخذ بشكلٍ مباشرٍ عن أيٍّ من حكايات بوذا التي نعرفها. ويوضح الباحث فرانسوا دي بلاو أنّ إطار الأسطورة مأخوذٌ من حكاية بوذا، لكنّ صورة معلّم الأمير التي جسّدها بلوهر/برلام غريبةٌ عن التراث الهنديّ، فبوذا لم يكن له معلّمٌ.
ويشير دايفد لانغ إلى أنّنا نتعامل في هذه الأسطورة مع نماذج من الزهد وطرقٍ في التنسّك حيكت بشكلٍ واضحٍ من الحياة التقليديّة التي عاشها بوذا المختار، والتي تتمثّل بمجموعةٍ من الخرافات والحكايات الغريبة التي أضافتها مصادر هنديّة أو مشرقيّة في أثناء عمليّة النقل والترجمة.
يرد في نصها العربيّ الإسماعيليّ: "الدّنيا حقيرة... هي سجن المؤمن وجنّة الكافر"... أكثر من 60 روايةً لأسطورة واحدة، هنا سرّ انتشارها وترجمتها إلى لغات العالم
يعتقد بعض الباحثين أنّ قصّة بوذا تُرجمت بدايةً للمجتمع المانويّ في إيران الوسطى، ثمّ ترجمها العرب عنهم، لكنّ وجود هذه الحلقة المانويّة هو موضع خلاف لدى الباحثين. ويذكر ابن النديم في الفهرست ضمن الكتب التي تُرجمت عن البهلويّة إلى العربيّة في أواخر القرن الثامن كتاب البدّ أو كتاب بوذا، وكتاب بلوهر وبوذاسف، وكتاب بوذاسف مفرد. ويقول ابن النديم إنّ هذه الكتب تُرجمت على يد ابن المقفّع أو أحدٍ ممّن جاء بعده.
إنّ كتاب بلوهر وبوذاسف هو لا شكّ أساس الرواية المسيحيّة. وقد أثبت محسن زكري أنّ الكتاب وُجد بعدّة عناوين منها: ابن الملك أو ابن الملك والناسك، وأنّ من ترجمه إلى العربيّة هو في الغالب عليّ بن عبيدة الريحانيّ (ت 219/834). كما نظم أبان اللاحقيّ - أحد شعراء البلاط البرمكيّ – شعرًا.
منمنمة لبرلام يخاطب جوزفات، من العاصمة باريس
لقد حفظت الرواية العربيّة في أكثر من مخطوطة. وكان أشهرها طبعة نور الدين ابن جيوا خان في بومباي، إلى أن قام دانيال جيماريه بتحقيق النصّ وترجمته إلى الفرنسيّة. وقد اتّخذت فرقة البهرة الطيّبيّة الإسماعيليّة النسخة العربيّة من كتاب بلوهر وبوذاسف مرجعًا دينيًّا لها، واستعملته في تدريسها للآداب. لكن يعتقد معظم الباحثين أنّ نصّ جيماريه ليس النصّ العربيّ الأقدم كون الاقتباسات من القصّة في كتب التراث - خاصّة اقتباسات أبو جعفر ابن بابويه المتوفّى سنة 991 للميلاد - مختلفة كثيرًا عن نصّ جيماريه.
وصلتنا الرواية المسيحيّة الأولى لهذه الأسطورة من خلال النصّ الجورجيّ في بيت المقدس، وهو مقتبسٌ عن الرواية العربيّة أو عن إحدى الروايات التي وُجدت في القرن الثامن. وتعود تواريخ الترجمات إلى القرنين التاسع والعاشر للميلاد. ويغدو الاسم السنسكريتيّ 'Bodhisattva' في العربيّة بوذاسف. ولأنّ الباء والياء لا يفترقان في الرسم إلّا بنقطة واحدة، وقع التصحيف على يد بعض النسّاخ فغدا الاسم في الجورجيّة "يوداسف،" وفي اليونانيّة "يوساف،" وفي اللاتينيّة "جوزفات."
يصعب تحديد الظروف التاريخيّة التي دفعت المترجم الجورجيّ إلى نقل الاسم على هذا النحو، كما أنّنا نجهل التاريخ المحدّد للترجمة. لكنّنا نعلم أنّ الرواية العربيّة الأولى لهذه الأسطورة دفعت البيزنطيّين إلى نسبتها إلى القدّيس يوحنّا الدمشقيّ الذي يعرفون نسبته إلى العرب. من جهةٍ أخرى، ثمّة اعتقاد بأنّ الذي ترجم القصّة إلى اليونانيّة هو راهبٌ جورجيّ واسمه يوثيميوس، توفّي سنة 1028. ويبدو أنّ النصّ العربيّ تُرجم أوّلًا إلى الجورجيّة، ومنها إلى اليونانيّة في القرن الحادي عشر على يد يوثيميوس، هذا الراهب الذي اشتُهر بترجمة الأعمال بين اللغتين اليونانيّة والجورجيّة بما فيها كتب القدّيس يوحنّا الدمشقيّ.
من مخطوطة الأسطورة من باريس
ويطرح الباحث ألكسي مرافيف احتمال وجود نصّ مسيحيّ بالعربيّة أو الكرشونيّة نُقلت منه القصّة إلى الجورجيّة. ومن الملاحظ أنّ النصّ العربيّ المحقّق لا يعكس بالضرورة مزايا إسلاميّة كما أنّ النصّ الجورجيّ لا يقتبس كثيرًا من الكتاب المقدّس.
وتشكّل الترجمة اليونانيّة التي تعود إلى القرن الحادي عشر للميلاد النصّ المسيحيّ بامتياز، وبعدها غدا برلام وجوزفات قدّيسينِ بيزنطيّين. ثمّ تُرجمت قصّتهما إلى عددٍ كبيرٍ من اللغات وإلى العربيّة للمرّة الثانية، غير أنّها تُرجمت هذه المرّة باعتبارها نصًّا مسيحيًّا. ولا شكّ أنّ المقارنة الدقيقة لقصص الكتب وحواراته وتغيّرات الحبكة ستكشف الكثير من خفايا طريق الترجمة التي سلكها الكتاب.
عناصر الائتلاف والاختلاف
تُعتبر ثيمات الانتقال من الضلال إلى الهداية، والتباين بين الحياة الدنيويّة والحياة الباقية ثيمات مشتركة بين الثقافات، وهذا ما أسهم في مرونة انتقال القصّة بين الثقافات واللغات. ومن الملاحظ أنّ الأسطورة قدّ أدّت دورًا دعويًّا عبر التاريخ، خاصّةً لدى الفرق الدينيّة ذات الطبيعة الباطنيّة كالمانويّة والإسماعيليّة والمسيحيّة الرهبانيّة. وإنّ النظر في السياق الأدبيّ لنصوص الأسطورة المختلفة يُظهر لنا عددًا من العناصر المشتركة.
فكلّ بطلٍ - بغضّ النظر عن ديانته - يترجم إيمانه بالتنسّك. فيُؤثَرُ عنه الزهدُ في الأمور المادّيّة كالمال والسلطة مثلًا، والتخلّي عن بعض الروابط الأسريّة التي تحول بينه وبين عمله الدعويّ المقدّس. والموت محتّمٌ ويمثّل بدايةً لا نهاية؛ بالموت يفنى الجسد وتتحرّر الروح. فيرد في النصّ اليونانيّ: "إنّ الكائنات التي علقت في الشِّباك وسُجنت في سجن الحياة الفانية... سيحرّرها هو من قيودها كافّة." ويرد في النصّ العربيّ الإسماعيليّ: "الدنيا حقيرة... هي سجن المؤمن وجنّة الكافر." وهذا الموت هو طريق المؤمنين إلى الجنّة.
أسطورة أدّت دورًا دعويًّا عبر التاريخ، خاصّةً لدى الفرق الدينيّة ذات الطبيعة الباطنيّة كالمانويّة والإسماعيليّة والمسيحيّة الرهبانيّة... هنا قصتها
إنّ صراع الخير والشرّ مذكورٌ في النصوص كافّة مع تفاوتٍ في مقدار أهمّيّته. فعند البوذيّين، الخير مرادفٌ للعلم والحكمة والذكاء، والشرّ مرادفٌ للشهوة والمصائب والجوع والعطش والكسل والنوم والفزع والشكّ والغضب والنفاق والطموح. وفي الرواية الإسماعيليّة يتمثّل الخير في طاعة الله، والشرّ في معصيته واتّباع الشيطان. وإنّ الله يأمر بالأعمال الصالحة والرجاء والكرم والصدق. أمّا الشيطان فإليه يعود طول الأمل والكذب والأعمال الطالحة والبخل والحسد والغضب والضعف والشهوة والكراهية والكسل والنفاق والنميمة. ويشير النصّ اليونانيّ إلى أنّ ما يخوّل المرء التمييز بين الخير والشرّ هو إرادته الحرّة وقدرته على تمييز الأمور.
الملك جوزفات، يقابل رجلاً أعمى، ومتسولاً، من مقتنيات متحف ج. بول غيتي.
وبوذا مثل عيسى هو المخلّص، فهو الذي سيحرّر الخلائق ويمحو حجب الجهل والمعاصي من العالم. إنّ صورة المسيح المخلّص واضحةٌ في كافّة الروايات المسيحيّة بعكس النصوص الإسماعيليّة التي تغيب عنها صورة المخلّص، فبوذاسف يبدو أقرب إلى كونه معلّمًا مرشدًا من كونه مخلّصًا.
وتظهر صورة الطبيب في النصوص كافّة. فبوذا يُعرف بأنّه أفضل طبيب يداوي المريض ويساعده ويخفّف عنه الألم. وبوذاسف أيضًا طبيبٌ للروح. وبلوهر الجورجيّ عرّف عن نفسه بأنّه طبيب. ويقول برلام اليونانيّ إنّ الله "أعدَّ جرعةً للتوبة ووصفها لمن يودّ المغفرة من الذنوب."
كلّ أمرٍ مقدَّرٌ مسبقًا، والأحداث تجري وفق ما تنبّأ به المرسَلون. يسأل بوذاسف في الرواية الإسماعيليّة: "هل الأحداث تجري بإرادةٍ من البشر أم بقدرٍ من الله؟" فيجيبه بلوهر بأنّها حلقةٌ مفرغة. والعلاقة حتميّةٌ بين القدر والأحداث، إذ لا يُلحظ القدر إلّا من الأحداث؛ فهو محتّمٌ لا مفرّ منه.
وفي الرواية الإسماعيليّة يكون الدين بالإكراه، فعلى الناس اعتناق دين ملكهم وإلّا عرّضوا أنفسهم للخطر. وفي النسخة المسيحيّة، يُحكى عن تعميدٍ إلزاميٍّ وشاملٍ، ناهيك بحالاتٍ كثيرةٍ من التنصّر، وعندما يتولّى جوزفات الحكم تزدهر المملكة بعكس ما كان عليه الحال أيّام والده.
تمثال لبوذا، من القرن الأول أو الثاني للميلاد، من مقتنيات متحف طوكيو الوطني،
لقد تمّ "تطهير" الأسطورة بما يتماشى وصورة القدّيس المثاليّة لدى المسيحيّين. فيُصوّر القدّيس جوزفات على أنّه لا يفشل ولا يُهزم، وفي المقابل يظهر عبدة الأصنام مثالًا للشرّ والخبث والكراهية. ويحمل الملك في الرواية الإسماعيليّة مزايا يجهلها خلفه، ويغدو ناصحه ثيوداس ساحرًا شرّيرًا، والأميرة الحسناء التي تحاول إغواء جوزفات يتملّكها الشيطان.
من مخطوطة الأسطورة من موسكو
وتغيب فكرة "حامل الخطيئة" كلّيًّا عن النصوص البوذيّة، فيما تظهر في الروايات المسيحيّة. إنّ ضعف الإيمان مع وجود الإرادة الحرّ يجعلان المرء أقلّ تحصينًا أمام شهواته، وفي المقابل يُشهد له بالقدرة إن تغلّب عليها. ويُعدُّ الإنسان جاهلًا في النصوص البوذيّة، ومذنبًا في النصوص المسيحيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأبطال لدى البوذيّين والإسماعليّين يندمجون مع غيرهم في هذا العالم، أمّا لدى المسيحيّين فالبطل يترك العالم ويختار لنفسه عزلةً يعيش فيها.
إنّ أسطورة برلام وجوزفات نموذج لحكاية تناقلتها الحضارات وعبرت كلّ الحدود، وتكشف دراستها عن المؤتلف والمختلف بين الثقافات.
يشكر المؤلّفان الأكاديميّة العربيّة الألمانيّة للعلماء الشباب (AGYA) لدعمها هذا المشروع الذي انبثقت هذه المقالة عنه. لمعلومات عن المشروع يمكن الرجوع للرابط (هنا). يمكن الاستماع إلى المقالة بتسجيل الدكتور الأرفه لي: (رابط).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع