سُئل رجل لماذا لا يبكي عند سماع موعظة بكى فيها كل الناس، فقال: "لست من هذه الأبرشية". هذا ما ستفكر فيه وأنت تدخل عن طريق الخطأ Fisheye Gallery، أولاً لأنك حتماً لست من هذه الأبرشية، وثانياً لأنك لا تستطيع اختلاق سبب لتنهي ما بدأت.
لكن يطمئنك أن القصة برمتها تدور في اليابان، في محافظة ميازاكي، جزيرة كيوشو، كما يقول إعلان المعرض، وهذه الأسماء مجتمعة توحي بتلك الألوان المائية التي تذوب عند حواف قصص المانغا وأفلام الأنمي.
تتوقعُ شيئاً من قبيل: "تحزم تايكو، الموظفة العازبة ذات الـ27 عاماً، أمتعتها وتركب القطار المتجه إلى الريف. ستقضي هناك إجازتها، عشرة أيام بعيدا عن زحام طوكيو وصخبها. لكن على متن القطار، يفاجئها ضيف غير متوقع لن يفارقها طوال الرحلة". لا... ستقع من جرف الفانتازيا وتجرحك صور بالأبيض والأسود غارقة في إضاءة خافتة، تنشر حول الموت أزقة لا حصر لها يضلُّ فيها الكبار طريقهم.
ستقع من جرف الفانتازيا وتجرحك صور بالأبيض والأسود غارقة في إضاءة خافتة، تنشر حول الموت أزقة لا حصر لها يضلُّ فيها الكبار طريقهم
الفوتوغرافي الياباني أكيهيتو يوشيدا (1980) يبدو هذه المرة معنياً بهذه البورتريهات المتقاربة مثل سحب من الخيال، نتف صغيرة من المعلومات، تتحرى بأكثر الطرق حميمية وقلقاً واقع ثنائي غريب: يوكيمي، وهي سيدة يابانية عجوز وحفيدها دايكي، اللذان لا تبدو عليهما ملامح مميزة أو مثيرة للفضول، يتقاسمان غرفة لا يزيد حجمها عن خزانة، لكنها ولا شك خزانة نارنيا السحرية التي تفتح على عوالم أخرى ، ففي كتاب يحمل نفس عنوان المعرض "الغياب المزدوج" صدر مؤخراً عن دار Xavier Baral، سوف نكتشف بأن هذه العجوز هي جدة يوشيدا نفسه، وهذا الصبي الذي تكفلت برعايته منذ الصغر، هو ابن عمه، وسنقرأ: "الصور الأولى التي التقطتُها لهما بدت غريبة بعض الشيء، فهما يشبهان صديقين حميمين أو شريكين منسجمين. وجدتُ الأمر ممتعاً ومضحكاً للغاية، وعُدت لتصويرهما بعد ذلك مرّات عدة".
دون سعي إلى الحياد، تحط عدسة يوشيدا على الطقوس اليومية لهذا الثنائي، وهما يتمتعان بطقوسهما المعتادة: التسوق، التنزه، الاسترخاء طويلاً في حمامات البخار، الطبخ وتصفح ألبوم العائلة.. كل شيء يبدو في مكانه الصحيح، حتى الطرق السحيقة المغطاة بنباتات فاتنة، لكن هذا الاهتمام وهذه الطمأنينة تنبئ دائماً بوقوع الأسوأ، الأسوأ الذي نخشاه ويحدث. وبالفعل، في أحد الأيام، يغيب دايكي دون أن يترك أثراً، ليتم العثور على جثته بعد عام، منتحراً في إحدى الغابات. يوكيمي التي رددت طويلاً: "ذهب إلى النداء المخيف"، تموت هي الأخرى كمداً بعد أن انتظرته دون جدوى، وكانت متيقنة بأنه سيعود يوماً ما لزيارتها.
"لم يبق سوى ذلك الذي لا أستطيع قوله"
لا تبدو على يوكيمي، السيدة اليابانية العجوز، وحفيدها دايكي، ملامح مميزة أو مثيرة للفضول، يتقاسمان غرفة لا يزيد حجمها عن خزانة... كيف تحولت علاقتهما في معرض صور الفوتوغرافي الياباني أكيهيتو يوشيدا إلى شفافية تشق الروح؟
يبدو أن الصور هي دائماً نذير موت أصحابها، وهذه البورتريهات المفككة التي تضج بالألفة والابتسامات المحرَجة، تشير إلى ما هو في طريقه للاختفاء، وتُحوّل في برهة الحاضر إلى ماضٍ. وهذا يعيد إلى الذهن أحد أكثر أفلام كريس ماركر إرباكاً "رصيف الميناء، 1963"، المروي بالكامل بالصور الثابتة، عن رجل يتنبأ بموته.
عقب وفاة والدته، كتب رولان بارت: "ما لديّ لأقوله صار أقل فأقل، لم يبق سوى ذلك الذي لا أستطيع قوله لأحد".
وما لا نقوله لأحد، هو بالضبط ما يحاول أكيهيتو يوشيدا أن يلتقطه هنا، وهو يتابع تفاصيل جدته، التي وإن ظلت تتصرف بنوع من الدعة والتحكم في تلك الشقة الريفية المضيئة والنظيفة، إلا أن كل حركة باتت توحي بأنها لم تعد ترغب في شيء.
الفوتوغرافي الشاب الذي عوّدنا في سلسلته "ماذا يعني العمل، 2014" على لقطات صريحة لصنّاع أحجار الطوب وعمّال المدابغ في بنغلاديش، ينجذب اليوم إلى نفس الأسلوب بلقطات كلوز آب للشيخوخة، لنحافتها المثيرة للشفقة، خفتها التي تمتزج بالهواء، رغبتها في الانطواء والصمت، ويؤكد لنا مجدداً أن التصوير هو تماماً عكس الفانتازم. فعلى نقيض الصورة العقلية: المادة الخصبة التي تصلح لأشكال التلاعب والتشويه كافة، تأتي الصورة الفوتوغرافية، مثل تأكيد صارم للواقع وزواياه المظلمة، حين نفقد السبب الرئيسي للحياة ولا يعود لدينا من نخاف عليه ونتبادل معه الأخبار وكلمات الأغاني.
صحيح أننا صرنا ننظر إلى العالم كمكان لصور فوتوغرافية مُحتملة، وأصبح التصوير ممارسة جماعية وحصانة ضد القلق، لأن الجميع تحول إلى سائح "ياباني" يشعر أنه مجبر على وضع كاميرا الآيفون بينه وبين أي شيء يصادفه، كي يبرهن لنا مراراً أن برنامجه قد أُنجز، والتسلية قد تحققت، والكافيه لاتيه قد أُحتسيت بنجاح، لكن ثمة فرق بين الصور المسطحة والمنظّمة بإفراط التي توثّق نتائج الاستهلاك، وبين الفن الذي يسعى بوعي لتحدي الواقع. فلتذكر أعيينا ما تراه الآن: البطانية، قوائم الطاولة، القفل الصغير على خزانة المعدن، صباحات الأحد بعد أن نفقد من نحب، الانتحار كإغواء دائم يجب مقاومته، الإخفاق في التعافي والطرق المسدودة.
لكن دعونا لا ننسى أن ثمة باقة زهور على الكرسي الفارغ، باقة واحدة كفيلة بأن تغمرنا بنشوة عارمة، وتجعلنا نعلَقُ في شبكة من خيوط لا مرئية معطّرة تنتشر في الهواء الخفيف.
أكيهيتو يوشيدا معرض الغياب المزدوج حتى 14 مارس في باريس Fisheye Gallery.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع