"صنع الأطعمة السائغة والصحية يشبه تشييد المباني الجميلة وتناسبها، وثمة تشابه بين الحركات التاريخية في الهندسة المعمارية وتصميم الطعام"، يقول ديفيد جوليان، معتبراً أن الطعام من أكثر الأمور روعة وتعقيداً وإثارة، وأن الطهاة هم المهندسون المعماريون الذين يستخدمون المكونات والتقنيات لابتكار كل جديد.
ديفيد جوليان بروفيسور أمريكي متخصص بعلوم الأغذية، أمضى حوالي 4 عقود في فهم الغذاء والسيطرة عليه، كتب مقالات وكتب كثيرة حول كيمياء الغذاء وهندسة بنائه وتطوره، آخرها كتاب صدر عام 2019، حمل عنوان "أغذية المستقبل.. كيف يعمل العلم الحديث على تغيير طريقة تناولنا".
خلق الأطعمة الصحية التي تبدو بشكل ونكهة مُرضية وبأسعار معقولة ومستدامة أمر صعب، سوف يتطلب أبحاثاً رائدة من قبل فرق متعددة التخصصات
Future Foods….How Modern Science Is Transforming the Way We Eat يحكي فيه عن التأثير الهائل الذي يحدثه الطعام على الكوكب وسكانه، كثيرون حول العالم يموتون بسبب سوء التغذية، يقابلهم من يقضون بسبب الإفراط في تناول الطعام، السمنة والسكري وأمراض القلب، الأمر الذي يشير إلى مشاكل في إنتاج الأغذية وتوزيعها، تزامناً مع ارتفاع عدد سكان العالم، وزيادة الأفواه التي تحتاج إلى الطعام بأسعار معقولة وجودة مناسبة وآمنة. يسهب جوليان في توضيح تحديات النظام الغذائي الحديث، لكنه يبقى متفائلاً بإمكانية معالجتها وتأمين نظام غذائي متكامل للجميع دون تدمير للبيئة، ثم يعرض في كتابه الدور الذي تقوم به التكنولوجيا الغذائية لتطوير النكهات التي نتناولها، وسعي علماء الغذاء والوراثة لخلق أطعمة أكثر صحة واستدامة مع الحفاظ على نكهتها الجاذبة.
قبل ذلك يحدثنا الباحث الأمريكي عن مفهوم اللذة الغذائية التي تتشكل من عوامل عدة، تتعلق بملامح الطعام وأخرى بيئية ووراثية، تبني جميعها علاقتنا مع الطعام على مدار سنوات حياتنا.
يدرس علماء الغذاء والكيمياء وعلماء النفس العمليات النفسية التي تحكم إدراكنا الحسي للأطعمة، أي: كيف تبدو، ما الإحساس التي تبعثه، رائحتها، تذوقها، صوتها؟
خريطة اللذة الغذائية
تستند اللذة الغذائية على نظام الحواس البشري، الذي يعطينا القدرة على توفير معلومات عن العالم المعقد من حولنا، عبر البصر والسمع والشم والذوق واللمس، نقيّم سلامة وجودة الأطعمة التي نتناولها، فيما إذا كانت لذيذة أو غير مرغوب بها. عيوننا عبارة عن مستشعرات ضوئية تسمح لنا بتحديد مصادر الغذاء وتقييم إذا كانت آمنة أم لا، أنوفنا وأفواهنا هي أجهزة استشعار الذوق التي تحدد أن الطعام جيد ومناسب أم عكس ذلك، آذاننا وأجهزة استشعار الضغط في أفواهنا تساعد على تحديد مقدار القوة التي نحتاجها لمضغ الطعام. يؤكد جوليان أن هذا النظام بالغ الأهمية، فعبره نفهم لماذا نحب أطعمة ونكره أخرى.
يتابع أن المستشعرات ترسل إلى النظام العصبي المركزي تخبره أن أجسامنا على وشك تناول شيء ما، فالنظر في الطعام أو التفكير به، يؤدي إلى إطلاق الهرمونات والعصارات الهضمية المطلوبة لهضم واستيعاب وتوزيع الأطعمة، هذه الهرمونات والناقلات العصبية هي التي تتحكم بمستويات رغباتنا الغذائية، فعند انخفاض طاقة الجسم يطلق الهرمونات المحفزة للشهية، طلباً للغذاء، في حين تُطلَق الهرمونات المحفزة للشبع عندما يحقق الجسم اكتفاءه من الطاقة، التوازن بين هذين النوعين من الهرمون له تأثير على أمزجتنا ورغباتنا، وهذا بدوره يساعد على تنظيم وزن الجسم.
يحدثنا جوليان عن العوامل التي تشكل النكهة وتجعلها جزءاً من الذاكرة: "نكهة الطعام لا تتشكل فقط عبر الذوق والرائحة بل عبر عوامل أخرى، منها مظهر الطعام وصوته وبيئته، هذه العوامل يخزنها الدماغ لترتبط بذكرياتنا وعواطفنا، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز المشاعر اللطيفة أو غير السارة التي لدينا عند تناول بعض الأطعمة. في الطفولة تكون هذه الارتباطات مدفوعة بالاستعدادات الوراثية الفطرية لدينا، مذاق الحلو والمالح جيد، بينما مذاق المر والحامض غير مرغوب فيه. مع التقدم في العمر نعيد برمجة هذه العلاقات ونتعلم أن نربط المشاعر الممتعة بالأطعمة التي لم نحبها في الطفولة، منها القهوة المرة والبيرة والشاي".
نكهة الطعام لا تتشكل فقط عبر الذوق والرائحة بل عبر عوامل أخرى، منها مظهر الطعام وصوته وبيئته، هذه العوامل يخزنها الدماغ لترتبط بذكرياتنا وعواطفنا
علاقتنا بما نأكل
العلاقة بين أجسامنا والأطعمة التي نستهلكها تحظى اليوم بتقدير كبير من علماء الغذاء، الذين عنوا خلال العقود الماضية بفهم ومراقبة سلوكيات الأطعمة قبل دخولها أجسامنا، شكلها، ملمسها، نكهتها وفترة صلاحيتها، لكنهم يركزون الآن على مصير الأطعمة بعد دخولها أجسامنا، كيفية امتصاصها في الدم ثم إعادة توزيعها للأعضاء.
علماء الغذاء يتبعون التوازن في معادلة المكونات الغذائية، بالحد من مستوى المكونات غير الصحية في الأطعمة "الدهون والسكر والملح"، وزيادة المستوى الصحي للمكونات "الألياف الغذائية والفيتامينات والمعادن والبروبيوتيك"، كل ذلك مع الاهتمام بشكل وذوق الأطعمة، لينتهي الأمر بنظام غذائي أكثر صحة وأماناً.
على ضفة ليست ببعيدة، تحاول الصناعات الغذائية تطوير الطعام وإعادة صياغة المنتجات لتكون أكثر استدامة وصحة مع الحفاظ على نكهتها المرغوبة، فيدرس علماء الغذاء والكيمياء وعلماء النفس العمليات النفسية التي تحكم إدراكنا الحسي للأطعمة، أي كيف تبدو، ما الإحساس التي تبعثه، رائحتها، تذوقها، صوتها؟ إضافة إلى الإجابة عن أسئلة أخرى، مثل مالذي يجعل الطعام مموجاً أو مقدداً؟ لماذا تتغير نكهة الطعام عند تقليل محتوياته من الدهون؟ كيف يؤثر شكل الطعام على نكهته؟ يحاول العلماء الإجابة على هذه الأسئلة كي يستخدموا هذه المعرفة في خلق أطعمة صحية وهنيئة.
حوالي 700 مليون شخص في العالم يعانون سوء التغذية، ويموت سنوياً 3 مليون حول العالم بسبب نقص الغذاء، معظمهم في إفريقيا وآسيا
تحديات ومتغيرات
محاولات العلماء والغذائيين لتطوير مفهوم الغذاء وخلق المزيد من الأطعمة الصحية والسائغة، تواجهها تحديات كثيرة، يتصدرها نقص الغذاء وسوء التغذية، بحسب كتاب جوليان "رغم أن نسبة من يعانون نقص الغذاء انخفضت بداية القرن الـ21، لكن ما يزال هناك مايقرب من 700 مليون شخص في العالم يعانون سوء التغذية، ويموت سنوياً 3 مليون حول العالم بسبب نقص الغذاء، معظمهم في إفريقيا وآسيا، بحسب اليونسيف. منظمة الأغذية والزراعة الفاو FAO ذكرت أن عدد سكان العالم في ازدياد ليصبح حوالي 9 مليارات نسمة عام 2048، الأمر الذي سيشكل عقبة أمام توفير الإمدادات الغذائية والاحتياجات اللازمة لسكان الكوكب".
"هذه العوائق تتطلب مزيداً من تصنيع الأغذية وضمان توزيعها على جميع المحتاجين، مع وضع استراتيجيات هدفها زيادة الإنتاجية، رفع كفاءة الأغذية وتقليل الأضرار التي ستلحقها بالبيئة لتأمين الطعام والغذاء للأجيال القادمة". يركز الكاتب أيضاً على ضرورة تقليل النفايات الغذائية بتحويل البقايا إلى أطعمة أخرى، أو إلى مواد قابلة للمعالجة والتحلل، قبل ذلك التركيز على رفع وعي الممارسات الغذائية للمستهلكين في شراء وتخزين واستخدام الطعام.
مستقبل اللذة الغذائية
تأمين غذاء أكثر صحة واستدامة يعني أن على الشركات إعادة صياغة العديد من الأطعمة التي يعرفها الناس، وخلق أطعمة جديدة تماماً. صناعة المواد الغذائية وتطوير المنتجات مع انخفاض السعرات الحرارية والدهون والسكر، ومحتويات الملح لمكافحة الأمراض المزمنة، مثل السمنة ومرض السكري وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم. كذلك تحصين الأطعمة مع الفيتامينات والمعادن والألياف الغذائية والمغذيات لتحسين صحة الإنسان وأدائه. هكذا يرى جوليان مستقبل اللذة الغذائية في ظل التدخل التكنولوجي الذي سيؤثر حتى على رائحة الطعام وذوقه وصوته.
"النظام الحسي معقد للغاية ونحن فقط في بداية فهمه. إدراك النكهة هو نتيجة للعوامل الوراثية والبيئية والتي تختلف من شخص لآخر وتتغير طوال حياة الفرد. خلق الأطعمة الصحية التي تبدو بشكل ونكهة مرضية وبأسعار معقولة، ومستدامة أمر صعب. سوف يتطلب حل هذا التحدي أبحاثاً رائدة من قبل فرق متعددة التخصصات من علماء المواد والكيميائيين والفيزيائيين وعلماء الحواس وعلماء الوراثة وبيولوجيا الخلايا وعلماء الغذاء. في وسط عملهم بالتأكيد سنحقق ما نصبو إليه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...