في المبنى شبه الفارغ، يذرع غرفته جيئة وذهاباً، يقضم الملل أعصابه، ويفكر في خطط السفر المقرَّرة مع خطيبته، والتي قوَّضها انتشار وباء "كورونا" المستجد في الصين.
يقيم حكيم، وهو فلسطيني من قطاع غزة، في مقاطعة "تشونغتشينغ"، منذ عام2017، حيث يكمل دراسة الماجستير في تخصص "الأونكولوجي"، وهو من بين عدد قليل من العرب المقيمين في الصين الذين لم يغادروا إلى بلدانهم، وقرَّروا البقاء فيها، برغم تفشي الفيروس الذي أودى بحياة أكثر من 2300 شخص، فضلاً عن إصابة 76 ألف حتى اليوم.
وفرضت الصين إجراءات مشددة في إطار السيطرة على الفيروس، الذي ظهر أول الأمر في مدينة ووهان في ديسمبر المنصرم، ويواصل انتشاره خارج الصين، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة "طوارئ صحية عالمية"، في ظل تضاؤل فرص احتواء الوباء.
"مدن أشباح في الصين"
يروي حكيم لرصيف22، تفاصيل الحياة اليومية منذ تفشي الوباء، يقول: "فجأة كل شي تغير، كنت مع خطيبتي في مقاطعة تسوشوان، أول محطات رحلتنا المقررة، بدنا نسافر لعدة مدن، لكن فجأة سمعنا أن ووهان، في محافظة خوبي مركز تفشي الوباء، أغلقت، وعطلوا رحلات الطيران".
لم يأخذ حكيم الأمر على محمل الجد، كان عقله مأخوذاً بالرحلة مع خطيبته، لكن أوامر فرض الحجر الصحي والإغلاق المفاجئ "قلب حياته"، كما يقول.
ويضيف: "كل شي قلب لما كنا بتشون تشن، فجأة الشوارع فضيت، وكان القطار فارغ تماماً وهذا شي مستحيل تشاهده بالصين.. قطار فاضي كان ضرب من الخيال، تشانغ دو أيضا كانت فاضية، وقلبت مدن أشباح".
"فجأة الشوارع فضيت، وكان القطار فارغ تماماً، وهذا شي مستحيل تشاهده في الصين.. قطار فاضي كان ضرب من الخيال، تشانغ دو أيضا كانت فاضية، وقلبت مدن أشباح"
"شعرنا حينها أن شيئاً جدياً وخطيراً يحدث.. شعرت بنهاية العالم"، يتابع حكيم روايته.
وعن إجراءات الحجر الصحي، وتأثيرها على حياته اليومية، يقول حكيم: "حالياً الحجر يعتبر جزئياً في مقاطعتي، يسمح لنا بالخروج كل يومين أو ثلاثة من البيت، والسيارات الخاصة يسمح باستخدامها، وكذلك خطوط المترو تعمل، لكن يجري فحص دوري لدراجة حرارة الأشخاص عند مدخل كل محطة، لكن المحلات والأسواق العمومية كلها مغلقة، فقط بعض المولات مثل كارفور، كما يمنع أي شخص من خارج المقاطعة من دخولها".
قرر حكيم البقاء في الصين برغم تفشي الوباء وقلق عائلته، ويقول: "أضل هنا أفضل من العودة لغزة، لو في شي حامل للفيروس غزة ما رح تساعدني، لكن في الصين صار لك إشي تتكفل فيك وإمكانياتها أفضل"، كما أعرب عن قلقه من "أن يعلق" في غزة ولا يتمكن من مغادرتها، بسبب الإغلاق المتكررة للمعابر في القطاع.
يأمل حكيم أن تتمكن الحكومة الصينية من القضاء على الوباء بحلول الربيع، خشية تقويض خططه بالزواج، واستكمال دراسته، والتدريب.
"الأقنعة تباع في السوق السوداء"
غادر الشاب المصري محمد خليل (28عاماً)، في 20 فبراير، العاصمة بكين، حيث يعمل مدرساً للغة الإنجليزية، إلى القاهرة، في ظل "ضبابية المشهد" وتبدد الآمال لديه بالقضاء على الوباء في وقت قريب.
"كنا نأمل أن تستقر الأمور سريعاً، خاصة أنه كان في أنباء بأنه سيتم السيطرة عليه سريعاً"، لكنه وجد نفسه وزوجته أخيراً على متن الطائرة عائدين إلى بلدهما.
يقول محمد، والذي عزل نفسه في منزله لأكثر من شهر بسبب الوباء: "إن بكين أقل المدن تفشى فيها المرض، لكنها تشهد إجراءات حجر مشددة مع ذلك".
"المدينة مقفولة، تم إغلاق كل مداخل المجمع السكني، وترك باب واحد فقط للدخول والخروج لكل سكان المنطقة، على باب المدخل سيارة إسعاف متواجدة بشكل مستمر، وموظفون حكوميون لتسجيل حركة الأشخاص وقياس درجة الحرارة"، يضيف محمد.
"تم إغلاق كل مداخل المجمع السكني، الذي أعيش فيه ببكين، وترك باب واحد فقط للدخول والخروج".
منذ تتالي الأنباء عن انتشار الفيروس، لم يغادر محمد منزله سوى مرتين أو ثلاث، مرتدياً القناع والقفازات الطبية، ويحرص ألا يلامس أي شخص أو أي سطح.
ويقول إن بعض المواد الطبية، مثل الكحول والقفازات والأقنعة الطبية، نفذت من الأسواق في ظل ارتفاع الطلب عليها، كذلك تباع الأقنعة في السوق السوداء بأضعاف سعرها الحقيقي، إذ بلغت الآن 10 دولارات.
ويروي مشاهداته في العاصمة، وهي من المقاطعات التي سجلت أقل نسب إصابة: "في المترو الناس كان تتزاحم بشكل فظيع.. لكن اليوم بالكاد تجد خمس أشخاص في كل عربة مترو. خدمة الشحن وقفت أو تعمل بشكل بطيء جداً".
يرى محمد أن الحكومة الصينية بذلت جهوداً يصفها بـ"الجبارة"، للسيطرة على الفيروس، لكنه يضيف أن "السيطرة على الفيروس صعب الجزم بها في الوقت القريب، يقال إن الأرقام المعلنة ليست صحيحة، يومياً في أخبار أنهم توصلوا لجديد بشأن العلاج لكن مشوفناش دا بشكل رسمي".
"لا يوجد مكان آمن"
يقيم الفلسطيني حمزة فارس (26 عاماً)، في إقليم جيانسو jiangsu بمدينة نانجي، والتي تبعد نحو ساعتين بالقطار السريع عن إقليم خوبي الموبوء.
يقول حمزة، إن كل مدن ومقاطعات الصين تشهد إجراءات "صارمة جداً"، بما فيها المدينة التي يقطنها.
"ما في مكان آمن حالياً نظراً لسرعة تفشي المرض، وعدم وجود علاج، ومعلومات كافية عنه وعن طرق انتقاله"، يضيف حمزة.
ويوضح: "الوضع مخيف لكن مضطر ألتزم مكاني، لأنه أينما ذهبت لازم أنعزل في حجر صحي، ففضلت أعزل حالي في شقتي هنا".
يتبع حمزة إجراءات مشددة مع نفسه، فهو بالكاد يغادر السكن إلا للضرورة، مثل التسوق أو المشي داخل المجمع.
ويشرح روتينه اليومي: "نخرج مرة أسبوعياً، ونتسوق لأسبوع، نرتدي القفازات وأقنعة الوجه، في كل مول يوجد غرفة فحص طبي، وكذلك يسمح لعدد معين بالدخول إلى المول في كل دفعة لتفادي الازدحام، ولدى عودتنا يجرى فحص آخر لدرجة الحرارة عند باب المجمع".
ويتمنى حمزة عودة الأمور لطبيعتها، حيث تعطلت معظم الأنشطة الاقتصادية، والترفيهية، يقول: "الأرقام بتبشر بخير وبمرحلة انخفاض، حتى لو كانت بطيئة بس المهم تنزاح الغمة. الأعمال معظمها متوقفة، الجامعات تأجلت، والموضوع ممل جداً ومخيف".
"المواد الطبية، مثل الكحول والقفازات والأقنعة الطبية، نفذت من الأسواق في ظل ارتفاع الطلب عليها، كذلك تباع الأقنعة في السوق السوداء بأضعاف سعرها الحقيقي، إذ بلغت الآن 10 دولارات"
يرفض حمزة برغم قلق عائلته، العودة إلى قطاع غزة، ويقول إن العودة ستضع كل آماله وخططه بالدراسة محل "تهديد حقيقي".
ويقول "أنا تغربت وكلي أمل أن أعود بشهادة عليا، العودة لغزة تهديد حقيقي لهذا الطموح، لو انحجزت المنحة مهددة، لو ما قدرت أطلع في الوقت المناسب من غزة بسبب المعبر فممكن أتأخر سنة أو فصل، وهادا آخر شي بدي إياه".
"أرغب بالعودة"
أما محمد ماهر بسيوني (37 عاماً)، مصري من المنوفية، يعمل مدرساً للغة العربية وآدابها في جامعة نينغشيا الصينية، فقد كان في إجازته السنوية بالقاهرة عند الإعلان عن ظهور الفيروس، ولم يعرقله ذلك عن الرغبة في العودة إلى عمله بالصين عند انتهاء فترة إجازته في موعدها المعتاد، وهو لا يزال يحافظ على تواصله مع زملائه الصينيين، للاطمئنان على سلامتهم.
يقول ماهر: "خاطبت إدارة جامعة نينغشيا التي أعمل بها في الصين للعودة في موعدي المعتاد، بعد انتهاء إجازتي الشتوية، ولكنهم رفضوا عودتي الآن، وطلبوا مني انتظار تعليمات جديدة بخصوص عودتي للصين".
ويشدد ماهر على أنه يتوق للعودة إلى الصين حتى لو لم ينته الفيروس، ويبرر ذلك بأن الموضوع ليس فيه مخاطرة، يقول لرصيف22: "الفيروس لم يعد شأناً صينياً بل عالمياً، إلى جانب ثقتي في إجراءات الوقاية الصينية، كما أن منطقة عملي ليست بؤرة الوباء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...