شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ماذا يزيّن الحياة.. والموت؟ -الأصدقاء (يوميات من طهران)

ماذا يزيّن الحياة.. والموت؟ -الأصدقاء (يوميات من طهران)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 27 يناير 201907:44 م
اليوم الأول بدأت يومي بالقراءة. صباحٌ مشمس في شتاء طهران. أحاول أن أفعلَ كلَّ ما خطّطتُ له في الفترة الأخيرة في أيام بقائي في طهران. هل مازالت طهران هي مدينتي الأكثر ألفة؟ وماذا عن بيروت؟ وماذا عن مدني المحبّبة الأخرى؟ وإلى أي مكانٍ أنا أنتمي؟ -اللا مكان. شغلتُ نفسي بهذه الأفكار. صنعتُ شايي المفضّل بماء الزهر والفيرفين (رِعي الحمام)، سعیدة بالكتب التي اشتريتُها ليلة البارحة، بدأت بقراءة قصيدة "نزوة الموت" وبضع قصائد أخرى لأحد شعرائي الأحبّة، باول سيلان، بترجمة جميلة إلى الفارسية، وكرّرتُ إعجابي به. مع باول سيلان كنتُ، فإذا بصديقي "ميم" يكتب لي أن أبا "باء"، صديقنا الآخر قد توفّي. سطوة الموت وحضوره المُفجع مرّة أخرى! كنت أتابع أخبار أبيه منذ بداية مرضِه، قبل ما يقارب عاماً. أعرف كم كان يحبّ أباه، كم يهمّه الناس، وكم يحبّ من يحبّ، لذلك كان حزني أكبر. home توقّف كلُّ شيء عندي. بيتي المضاء تخلّله هواء كئيب. كتبتُ له رسالة، دون أمل أن يقرأها. لجأتُ إلى شمس التبريزي والنفّري، ککلّ مرة وكلّ مأزق، وقرأت. كتبت لـ"ميم" أنني لا أصدّق، وردّ: أنا أيضاً. أعرف كم هو عاطفيّ وكم حزين الآن من أجل "باء". قلت له: متى نذهب إليه؟ قال: إنني ذاهب، تعالي. أحبّ صديقيّ هذين كثيراً. قضينا منذ سنوات طويلة لحظاتٍ جميلة معاً، ملؤها الضحك وأحاديث يغلب عليها الهزل حتى إن كانت عن أجدّ المواضيع، وعن أحلامنا. وحين كنتُ قبل سنتين أستعيد حياتي في غرفة لم يتبيّن لي أين هي، وأين أنا، وكانت قد مرّت عليّ أيامٌ في الغيبوبة والعدم دون أن أعرف، حين فتحتُ عيني لأوّل مرّة كانا واقفينِ أمامي. عرفتهما، وحاولتُ أن أبتسم. سمعت "ميم" يقول للمرّضات هل نستطيع أن نقبِّلَها؟ فقلن: لا. جمعتُ كلَّ قوّايَ الهشّةِ، وقلت: قبِّلاني! تلك كانت الكلماتُ الوحيدة التي قلتُها، قبل أن أعود إلى إغماء آخر بسبب الأدوية، لم أستطع بعده أن أحرّك لساني ليومين. كنت أطلب قُبلةً منهما، وأشعر بحاجة أن يقترب منّي الأقدم منهما والأقرب، "ميم"، ويمسك يدي، لكنّ الاقتراب منّي كان ممنوعاً منعاً باتّاً.
عرفتهما، وحاولتُ أن أبتسم. سمعت "ميم" قال للمرّضات هل نستطيع أن نقبِّلَها؟ فقلن: لا. جمعتُ كلَّ قوّايَ الهشّةِ، وقلت: قبِّلاني! تلك كانت الكلماتُ الوحيدة التي قلتُها، قبل أن أعود إلى إغماء آخر بسبب الأدوية، لم أستطع بعده أن أحرّك لساني ليومين. كنت أطلب قُبلةً منهما، وأشعر بحاجة أن يقترب منّي الأقدم منهما والأقرب، "ميم"، ويمسك يدي، لكنّ الاقتراب منّي كان ممنوعاً منعاً باتّاً.
قرّرتُ منذ الصباح أن أعود ثانية مستسلمة للحياة ومتصالحة مع العالم. ألفُ شيءٍ عليّ أن أنجزَ اليوم، بين عمل ومواعيد، لكننّي دون أيّ مبرّر خطر ببالي أن أنفّذ فكرتي بتغيير ديكور البيت. اشتغلت قليلاً، كتبتُ قليلاً، قرأتُ قليلاً، وبدأت بعملياتٍ صعبة تُنهك الأبطال، لكنني لم أستسلم. صوت الموسيقى العالي يؤكّد للبيت أنني هنا، وأنني أحاول أن أجعله حتى الظهيرة في أحسنِ حُلّة يمكنني.
إلى بيتهم البعيد ذهبت. في الطريق أخذتُ باقة "منثور" أبيض، وعلى مدى المسافة الطويلة أطلقتُ "شجريان" يرتّل نغماتِه في أذني، مبتعدة عن مرآة السائق. فتح "باءُ" الباب. نظرتُ في عينيه المحمرّتين، وبكيت، واحتضنتُه. كان قد وصل "ميمُ" قبلي. سألتُ عن ثالثهم، فكان مريضاً ولم يستطع المجيء. تمنّيتُ لو كان وطمأننا بحكمتِه المعتادة وحنانِه. كم من حبٍّ ومعزّة أكنّها تجاههم، وكم كانت حياتي ناقصة إن لم يكن لي هؤلاء الأصدقاء والصديقات. جلستُ بالقرب من "ميم"، ووضعت رأسي على ركبتِه. من فرط محبّتهما، حاولا أن يلطّفا الجوّ من أجلي. شعرتُ بصداعٍ في رأسي، وقلت لنفسي: اهدأي، اهدأي! قال أحد أقربائهم شيئاً، فأطلق "باء" ضحكتَه الطفولية. قلتُ له: فداءً لضحكتِك، واحتسيتُ جرعة من الشاي الذي أتى لي به محلّىً من أجل صداعي. اليوم التالي قرّرتُ منذ الصباح أن أعود ثانية مستسلمة للحياة ومتصالحة مع العالم. ألفُ شيءٍ عليّ أن أنجزَ اليوم، بين عمل ومواعيد، لكننّي دون أيّ مبرّر خطر ببالي أن أنفّذ فكرتي بتغيير ديكور البيت. اشتغلت قليلاً، كتبتُ قليلاً، قرأتُ قليلاً، وبدأت بعملياتٍ صعبة تُنهك الأبطال، لكنني لم أستسلم. صوت الموسيقى العالي يؤكّد للبيت أنني هنا، وأنني أحاول أن أجعله حتى الظهيرة في أحسنِ حُلّة يمكنني. نزلتُ لأشتري بعض الحاجيات. أنزلتُ معي قنينة نبيذ كنتُ وضعتُها جانباً منذ فترة كي أهديها لصاحب البيت الأرمنيّ الذي يجلس في محلّهم تحت البيت. قال لي: قولي لنا إن احتجتِ أيّ شيءٍ، فإنّكِ مثل أختي. نادراً ما سمعتُ رجلاً يقول لي إنّك مثل أختي! ربّما لم أسمعْها منذ أيّامي في الأهواز. سُعدتُ بجملتِه، وذهبت للتسوّق البسيط. في البيت سمعت "أراك عصيّ الدمع"، وأعددتُ كثيراً من "الحلاوة"، وكتبتُ لـ"باء" أنني قادمة. حاولت أن أكون أجمل من ليلة البارحة. الرحلة إلى بيتهم في أقصى قرب طهران كانت طويلة ومزدحمة بالسّيارات. مرّة أخرى، الموسيقى في أذني، والسائق عليه ألا يحدّثني، فأنا في مركبةٍ يبدو أنه يقودها، لكنّه ليس كذلك في الحقيقة! في الليل، كان من المقرّر أن تأتي صديقاتٌ لم نلتق منذ سنوات. كنّ خارج إيران، وكنت أنا أيضاً. فكّرتُ في العشاء، وإن كان بإمكاني تنظيم وقتي كي أعودَ من زيارة "باء"، وأطبخ بعض الأشياء. ليس من عادتي أن أوكِلَ الطبخَ للضّيوف للدّقائق أو الساعات الأخيرة. فكّرت أن ألغي الموعد، لكنني تراجعتُ بعد أن قلتُ لنفسي: سيؤجّل إلى أجلٍ غير مسمّى ككلِّ مرّةٍ إن ألغيتُه. كان "باء" أفضل. أكَل من "الحلاوة" وقال لأقربائه: مريم طبّاخة ممتازة. قلتُ: لا تنسَ أنني طبختُ أكلات بالباذنجان في السّهرة الأخيرة، ولم تأت. مثلي يحبّ الباذنجان كثيراً. اعتذر ليلتَها، الأسبوع الماضي، وقال: أنا لن آتي يا مريم، لأنني حزين! قال سأذهب غداً من أجل شراء الشّاهدة. صخرة ثقيلة توضع فوق جسدِ أبيه. شيءٌ ما ارتعش في قلبي. أصررتُ: أنني سآتي معك، عالمة أنه لن يأخذني، وعدتُ إلى البيت. استغرق الطريق ساعة، ولم أصل إلا ساعتين قبل موعدي مع الصديقات. بدأتُ بالطبخ، وسماع الموسيقى، وفخرتُ بنفسي أنني انتصرتُ في التحدّي الذي وضعتُه لنفسي منذ يومين في عدم شرب القهوة. كم أحبّ تحدّي الجسم والروح، وبجسم وروح سعيديْن وخفيفين انتظرتُ قدوم صديقاتي الجميلات اللاتي أوّل ما قلن حين دخلن، كان: واو، ما أجمل هذا البيت!

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image