شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل هناك نصّ عصيّ على الترجمة؟ III شفافية الكون في قصيدة الهايكو العربي

هل هناك نصّ عصيّ على الترجمة؟ III شفافية الكون في قصيدة الهايكو العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 8 يونيو 202006:35 م

التهب مدرج يعجّ بكتاب الهايكو بالتصفيق الحار حين صرح بروفيسور الدراسات الآسيوية الأمريكي الياباني دونالد كين في زيارته لجامعة ماتسوياما اليابانية أنه "لا يمكن لغير اليابانيين أن يكتبوا هايكو حقيقي". وفي مقال نشره بعدها بحوالي العشرين سنة قرر ستيف مكارثي، كاتب وشاعر هايكو، والذي كان حاضراً عندها، أن يرد عليه باعتبار أن قصيدة الهايكو تمثل في جوهرها "عددًا من الأنماط الأدبية المختلفة وتخضع لكل ما هو شاعري وعميق في مختلف اللغات والثقافات، وإن كان تباعد تلك الثقافات كبعد السماء عن الأرض".

وفي سياق متصل أدى تركيز الدراسات المقارنة منذ بدايتها في منتصف القرن التاسع عشر على التأثير المتبادل بين الثقافات واعتبار أن كل الآداب العالمية واحدة، لانتشار أشكال أدبية جديدة بفي العالم ولا سيما مع نشاط حركة الترجمة الأدبية. وفي عالمنا العربي أصبح لافتاً اهتمام المترجمين المتزايد بإدخال ترجمات من الأدب الياباني إلى مكتبتنا العربية الحديثة. وعلى وجه التحديد تلك التي تتعلق منها بالهايكو، الفن الذي يعنى بكتابة قصائد قصيرة تركز بشكل واضح ومميز على الصور ضمن لمحات سريعة وذكية. وفي السنوات الأخيرة، أطلق عدد من الكتاب العرب مسمى "هايكو" إلى بعض التجارب الشعرية في القصيدة العربية المصغرة (الومضة). فما هو هذا الفن؟ وهل بإمكان العرب أن يكتبوا "هايكو حقيقي"؟ هذا ما نحاول الإضاءة عليه في هذا المقال.

عن قصيدة الهايكو

الهايكو أصلاً، هو نوع من الشعر الياباني، يحاول فيه الشاعر من خلال ألفاظٍ بسيطةٍ التعبيرَ عن مشاعر جيّاشة وأحاسيس عميقة متفاعلة مع الطقس الخارجي أو الفصول الأربعة. وتتألّف الهايكو من بيتٍ واحدٍ فقط، مكوّن من سبعة عشر مقطعاً صوتياً باللغة اليابانيّة، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر. ويشير مكارثي أن ما يخلق الهايكو الحقيقي هو الانعكاس العميق لتحولات الطبيعة في النفس وحفظ قيمها التمثيلية من خلال الأبيات وهذا ما يمنحها "قوة العالمية". لكن الهايكو الياباني برأيه يختلف عن الشعر الغربي أو الهندي الذي يمكن أن يكون مجرداً أو ميتافيزيقياً، بطابعه الرمزي الملموس. وهذا ما يفسره الكاتب هاجيمي ناكامورا في كتابه "طرق التفكير في الشعوب الشرقية: الهند والتبت والصين واليابان" عن تشابه الفكر والغربي في التجريد في حين يتزايد حضور الفكر المادي كلما اتجهنا نحو الشرق باتجاه الصين والأهم من ذلك كله في اليابان". ولهذا نجد أن قصيدة الهايكو تنحو نحو التخلص من الذهنية " وترك القصيدة تنساب تلقائياً وفق تدفّقٍ شعوري زاخم، مع طفوليّة في التعبير، وانسجام مع الطبيعة حدّ التماهي معها، مع خصائص التلقائيّة وغياب الطرح الأيديولوجي" على حدى تعبير الكاتب المصري شريف الشافعي.

وجدت القصيدة العربية في قصيدة الهايكو تجربةٌ جديدة ولعبة فنيّة، بتعبير الكاتبة بشرى البستاني

الهايكو، فن المونتاجات الشعرية

"من السمات المهمّة للهايكو وللغة اليابانيّة أصلاً،" كما تخبرنا بشرى البستاني، "أنه يقوم على القطع التركيبي والوصل الدلالي، وهذا القطع هو ما عرفته السينما اصطلاحيّاً بفنِّ المونتاج، ولعلّ من اعتقد من الباحثين أن الشعر الحديث استعار فنَّ المونتاج من السينما كان واهماً، فالقضية معكوسة، لأن الأدب أقدم وجوداً في الفنّ من السينما، وأكثر رسوخاً في التاريخ الإنساني، وهو الحاضن الأوّل للشعريّة ولفنِّ التصوير ولقطاته والحوار ورسم الشخصيات وغيرها، ولذلك فإن السينما قد استعارت الكثير من الأدب بأنواعه، قصّةً وروايةً ولغةً شعريّة ومونتاجاً، لأن المونتاج مرافق للتصوير، ولا بد للتصوير من قطع ووصل، وخلال هذا القطع والوصل يتمّ حذفٌ كثيرٌ واختصار أكثر، ويحدثُ إيجاز يضمر الإيحاء، لتكون الجملة الناتجة عن القطع والوصل قادرةً على الانفتاح بين يدي المتلقي، لمنحه الدلالة المحذوفة وأكثر."

وقد شكل ظهور شعر الهايكو في مرحلته الأولى في القرن السابع عشر الميلادي، على يد الشاعر الياباني باشو، المعلّم الأوّل لهذا النوع من الفنّ، نقطة البداية لهذه التجربة الشعريّة والفنيّة في بداية زمن ظهور الحداثة العالميّة خارج اليابان، التي خاضها الفنّانون والشعراء والكتّاب متأثرين بهذه الحركة الفنيّة في بداية القرن الثامن عشر.

ومن الجدير بالذكر أن أوّل من خاض هذه التجربة الفنّية الشاعر الفنّان التشكيلي الياباني (بوسون، 1716 – 1783)، ثم تلاه في خوضها عددٌ من الشعراء. منهم على سبيل المثال (ماسا – أوكاشيكي، (1867- 1902) وقامت الحركة بنشاطٍ ملحوظٍ في اليابان على أيدي عددٍ من الشعراء والفنّانيين أمثال (كوباياشي إسا) ولا يزال الاحتفاء بهذا النوع شائعاً في الشعر الياباني، بل الأدب والفنّ بكلّ مصادره ومقوّماته من دون عدد وتخصيص ، ولعل ظهور (الصوريّة) في أوروبا وأمريكا يعود إلى التأثّر بالهايكو الياباني، إذ أنها انتشرت وراجت في أوائل القرن العشرين، وامتدَّ تأثيرها في جميع أرجاء العالم، باعتبار الصورة الشعريّة اللفظيّة سيدة الموقف في رسم الصورة الذهنيّة، وهي وجود الصورة المحسوسة وجلاء الغموض في المعاني المراد إيصالها للمتلقّي، كما يذكر د. سلطان سعد القحطاني.

صياغة "اللقطة" في الهايكو العربي

فراشة بيضاء

تئنّ

لهب شمعة

الشاعر سالم الياس

لعل محاكاة قصيدة الهايكو العربية لتلك اليابانيّة، تأتي نتيجة تأثّر الشعراء العرب بهذه التجربة وروّادها، ارتباطاً بما يتطلّع إليه الشباب العربي من التحرر من الأيديولوجيات، والتوق إلى مناخاتٍ جماليّةٍ هاربة من سطوة القمع المستدام في المشهد العربي الراهن. وهذا ما حقق اللجوء الى المشهد الطبيعي بمكوناته المادية البحتة وبثِّ المكنونات الوجدانيّة والفكريّة في ثنايا هذه القصيدة التي تعتبر امتداداً لقصيدة النثر العربيّة، وشكلاً من أشكال القصيدة "البرقيّة" أو قصيدة الومضة.

وفي قصيدة الياس، كما تخبرنا  د. بشرى البستاني، تركز اللقطة الأولى على فراشةٍ بيضاء في حالة أنين، بينما تلتقط كاميرا الشاعر بعدها لهب شمعة، ويأتي دور المتلقّي لربط فجوة القطع بين اللقطتين، كي يشكّل الدلالة ذهنيّاً على مستويين، الأوّل: بعد اجتياز المسافة الجماليّة أو مسافة التوتر "أن أنين الفراشة الصافية ناتجٌ عن احتراقها بلهب الشمعة"، والثاني: ما تفتحه دلالة فعل الفراشة على التلقّي من كون البراءة كثيراً ما تنخدع بمظهر جمالٍ يضمر حتفها، مع الانتباه إلى دقّة التشكيل في توظيف النكرة والنعت والفعل المضارع المستمرّ. فمفهوم اللقطة في التصوير يقوم على التقريب بين لغة الفنّ ولغة العقل، بين اللغتين التواصليّة والشعريّة.

هل كتب الشعراء العرب "هايكو حقيقي"؟

حاولت الفضاءات العربيّة استيعاب تجربة شعر الهايكو وتطويعها بما يتناسب مع الهموم العربيّة وأجواء العولمة والاتصاليّة السريعة، وحالة الزمن المتسارع، لتتناسب هذه القصيدة مع الإيقاع المتسارع للعالم المعاصر

لقد حاولت الفضاءات العربيّة استيعاب هذه التجربة وتطويعها بما يتناسب مع الهموم العربيّة وأجواء العولمة والاتصاليّة السريعة، وحالة الزمن المتسارع، لتتناسب هذه القصيدة مع الإيقاع المتسارع للعالم المعاصر.

فوجدت القصيدة العربية في قصيدة الهايكو تجربةٌ جديدة ولعبة فنيّة، بتعبير الكاتبة بشرى البستاني، لعبة لم يسبق لها أن انتشرت بين الشباب العرب كما نلاحظ، وإذا كانت اللعبة تعني عدم الذهاب الى المعنى المباشر المقصود، بل بصورةٍ مغلّفةٍ ومخاتلة لاستقبال القارئ الجمالي، فإن اللعب كما يؤكّد هانز جورج جادامير شيء أكبر من وعي اللاعب، ولذا فهو أكبر من كونه فعلا ذاتياً.

إن الهايكو لقطةٌ لحظويّةُ جماليّةٌ خارجة من سياق الزمن، في قصيدةٍ قصيرةٍ مكثّفةٍ وموحية، تقوم على تحفيز المخيلة للبحث عن دلالاتها، وتعبّر عن الحالات المألوفة بصورةٍ غير مألوفة، من خلال التقاط مشهدٍ حسّي طبيعي أو انساني، ينطلق من حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كلّ مكان، على حدّ قول الناقدة والشاعرة العراقية بشرى البستاني. ومع أن الشعر العربي لم يكن تام الانصياع لقواعد الهايكو الياباني إلا أنه اتسم بجرأة التشكيل والتصوير مثل هايكو محمود الرجبي الذي وظف برأيها "كل الطاقات التشكيلية للغة العربية في تفجير العلاقة بين الدال والمدلول مع الاحتفاظ بالسمات التأسيسية للهايكو الأصلي، كالالتزام بالأسطر الثلاثة والمشهدية والمراوحة في التوجه نحو الطبيعة توجها مباشرا أو غير مباشر".

يذكر حنا الحارثي في دراسته المقارنة لقصيدة الهايكو في الأدب الياباني والعربي أنه يمكن لمترجم وكاتب الهايكو العربي القدرة على إعادة تجسيد التجربة اليابانية شرط درايته التامة بالخلفية الثقافية للنص ونظرته إلى الهايكو "من خلال العيون اليابانية؛ لا بعيون ابن قتيبة وقدامة بن جعفر. وبهذا تتمكن القصيدة العربية من الخروج من مظهرها التقليدي لتعبر إلى شكل يجاري المتغيرات التاريخية والاجتماعية التي تمر بها المنطقة العربية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image