شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"بهديك الفوضى... بهديك حزنك...": محمد بهنس الراحل الباقي كورقة أبدية تحترق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 12 فبراير 202002:12 م

"بهديك الفوضى/ شجار طفلين في ساحة روضة/ بهديك الغربة/ هتاف الموتى/ وصمت التربة/ بهديك حزنك/ وستات الفول أثناء الخمشة/ بعد إذنك.. بهديك إحباطي/ حديث عابر في مركبة عامة بصوت واطي/ بهديك الليل البين جبلين/ فقدك لقى دين"..

منذ ست سنوات، اكتسبت قصيدة "بهديك الفوضى" التي يتصدرها المقطع السابق، شهرة واسعة في الواقع الثقافي العربي، الذي بدا وكأنه يعتذر لمؤلفها الشاعر والتشكيلي السوداني الراحل محمد حسين بهنس، (1972- 2013)، الذي رحل متأثراً بالبرد والجوع على أحد أرصفة القاهرة، في مثل هذه الأيام من عام 2013.

هذه القصيدة التي يطرحها محرك البحث "جوجل" كنتيجة أولى، بمجرد الانتهاء من كتابة أولى كلماتها، صارت منذ وقتها مرثية لصاحبها المبدع الشاب، متعدد المواهب الذي قطع مبكراً الكثير من الأشواط باتجاهات فنية وإبداعية عدة، أهمها الفن التشكيلي والكتابة الأدبية والموسيقى، وصولاً إلى الجنون والموت، كخيارين أكثر رحابة أحياناً وأقل خذلاناً من الحياة.

منذ ست سنوات، تتجدد في الشهر الأخير من كل عام ذكرى رحيل بهنس، لتستفز النزعة الكربلائية العربية التي تتضخم فينا كلما مات مبدع كمداً أو انتحر، فتختلط مشاعر الصدمة بالذنب، وجلد الذات مع الثورة وتبادل الاتهامات، ثم الصمت حتى سقوط ضحية أخرى.

وكل مرة، يبدو الأمر كأننا نكتشف فجأة أن الجوع يقتل، والبرد يقتل، وتشريد مبدع وترحيله قسراً عن بلد له فيها أعمال فنية ناجحة، كما حدث مع بهنس بباريس، دون أدنى تدخل من بلاده، لن يسرع بخطواته نحو مصير درامي كالموت أو الجنون.

لكن ذكرى رحيل هذا الشاعر والروائي المسالم، الذي تنطق صوره العديدة، والتي امتلأت بها مواقع التواصل فور رحيله، بالفرح والحياة، تجدد أكثر من غيرها حزناً وحسرة خانقين، ربما لأن موته كان مجانياً ولا إنسانياً أكثر من غيره من المبدعين، فهو لم يمت مريضاً أو منتحراً أو حتى مغتالاً، مات متجمداً من البرد والجوع في إحدى العواصم التي يردد أهلها بيقين دائم "أن لا أحد هنا يموت من الجوع"، وعلى بعد كيلو مترات قليلة من سفارة بلاده، وبعد بضعة أعوام قضاها على مقربة من وسط المدينة، نقطة التقاء المثقفين والفنانين والثوار، صار خلالها وجهاً مألوفاً لغالبيتهم، لكن يبدو أن التشوش الذي ضرب وعيه وروحه في أيامه الأخيرة لم يستطع أن ينسيه أنه فنان لا متسول.

"ﺑﻬﺪﻳﻚ ﻃﻠﺔ ﻟﺒﻴﻮﺕ ﺍﻟﺨﻴﺶ/ ﻭﺧﻴﻢ ﺗﻔﺘﻴﺶ/ ﻭأﺳﻮﺍﻕ أﺭﺧﺺ ﻣﺎﻓﻴﻬﺎ ﺣﻠﻴﻔﺔ ﺍﻟﻠﻪ/ ﺑﻬﺪﻳﻚ ﻣﺘﻤﺮﺩ/ ﻭﺍﻟﻨﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺮﻛﺎﻧﺎﺕ ﺑﺎﻋﻮﻫﻮ ﺑﺮﺩ/ ﺑﻬﺪﻳﻚ ﻭﻻ ﺷﻲ/ ﻭﺍﻗﻄﻊ ﻭﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﻬﻮ ﻣﺸﻲ".

مصارع الشعراء

عقب رحيل بهنس، انتشر تصريح رسمي للملحق الإعلامي السوداني بالقاهرة، كان وقتها الأول والأخير، لكنه استفز الكثير من المثقفين والنشطاء السودانيين، كونه يحمل الشاعر مسؤولية وفاته وكأنما قد سعى لها بنفسه، "لو مات بهنس من البرد، يبقى حرام عليه ينقطع عن الناس ويحرمهم من أدبه... الناس كانت بحاجة إلى فنه"، الغريب أن كلمات هذا الدبلوماسي التي نالت حظها من السخرية واللعنات، أكدت دونما قصد، ما ذهب إليه الشاعران وأستاذا الأدب الإنجليزيان بول فرلي ومايكل سايمونز، في كتابهما "مصارع الشعراء"، الذي ترجم الدكتور ماهر شفيق فريد أجزاء منه، حيث يورد المؤلفان في مقدمة كتابهما أن "الشعراء قد ظلوا دائماً يغامرون أو يقامرون من أجل الشعر. منهم من ضحى بصحته أو أسرته أو مستقبله أو بأمنه أو حتى بحياته. من هنا ارتسمت صورة خاصة للشعراء في الأذهان. من المسموح للروائي أن يكون عاقلاً خبيراً بأمور الدنيا ومتحكماً في تصرفاته. أما الشاعر فينتظر منه أن يكون مكتئباً محكوماً عليه بالهلاك ومدمراً لنفسه قبل أن يدمره الآخرون".

"لماذا أنا حزين إلى الأبد"

بتطبيق هذه الرؤية على حياة بهنس يكون الشاعر فيه قد انتصر على من سواه، ورغم أنه روائي أيضاً وله رواية مطبوعة مطلع الألفية الجديدة، أثارت وقت صدورها جدلاً واسعاً، كان من أبرز نتائجه التبشير بـ" ولادة طيب صالح جديد في السودان"، إلا أن الرواية نفسها كانت متقاطعة في أحداثها ولغتها الأسيانة المفعمة بالشاعرية والتشكيل مع سيرة حياته واغترابه الشخصي، والمفارقة أنها حملت في صفحتها الأخيرة تحديداً نبوءة رحيله الدرامي، وكأنها كانت استغاثة مبكرة، لم يفلح أحد، وربما تجاهل الجميع، التقاط إشارتها، يقول:

"لماذا أنا حزين إلى الأبد.. أنا حزين لأن الناس يرجمونك بالحجارة وأنت واقف، فإذا صمدت ولم يرف لك جفن، فإنهم لن يلبثوا يهرعون إليك ويقبلون الأرض أمام قدميك، متبتلين كأنك إله أو نبي، أن يا سيدنا علمنا الصمود أمام الحجارة. أما أنا فلست متماسك؛ أنا منهار نعم، أشعر بدماغي حبة قمح سحقتها القوة الماكرة. كنت أبكي كإشاعة تقول بأنني كنت أضحك، ورقة أبدية تحترق، وآه يا نفسي يا له من ختام رائع، وآه يا حنظل الصبر".

ظروف رحيل الشاعر المُحبّ محمد بهنس بقسوتها وعبثيتها تجدد مشاعر القهر والحسرة لرحيل مبدع وإنسان قبل أي شيء، بطريقة تذكرنا بمدى هشاشتنا ووحدتنا في هذا العالم

لبهنس رواية أخرى ومجموعة شعرية مخطوطة عن التصوف، وله تجارب متنوعة في الغناء من أشعاره التي تفيض إنسانية وعذوبة، بالإضافة إلى عزف الجيتار والمسرح، لكن السنوات التي تلت نشر روايته الأولى كانت مكرسة للفن التشكيلي والتصوير، حيث شارك في عدد من المعارض الجماعية والفردية داخل وخارج السودان، في إثيوبيا، ألمانيا وفرنسا، موطن زوجته الفرنسية التي التقاها بالخرطوم وانتقل معها إلى باريس، حيث أقام لأعوام وشارك بعدد من المعارض، كان أكبر ثمارها اقتناء قصر الإليزيه لإحدى لوحاته، لكن كل هذا النجاح لم يشفع له عندما استعر الخلاف بينه وبين زوجته وأسرتها ذات النفوذ، التي نجحت في ترحيله قسراً إلى بلاده.

بعودته إلى السودان بدأ الفصل الأكثر تعاسة وميلودرامية في حياة محمد بهنس، إذ فوجئ برحيل والدته وشقيقه دون أن يخبره أحد، فاعتزل الحياة الخارجية لسنوات، كان خلالها ملازماً لغرفته بأحد أحياء أم درمان، وكان يشاهَد أحياناً في هيئة أقرب إلى التصوف في إحدى الزوايا أو المساجد القريبة من بيته، ويبدو أنه توحد كثيراً مع هذه الغرفة، حتى أنه كتب في أحد رسائله أو نصوصه لصديقة له، ما يفيد بأنه يستعيض بها عن الوطن: " أنا داير أوضة وطن، باب سنطها من شدة الحنية يتكي في كتف أول الداخلين. الأوضه على حيطتها حمامه مبيضه، وعليها أيضا لوحة الطفل الباكي ــــ انتو بس ضحكو والباكي خلو علي أنا ــــ الأرض الرمله الهمله المرشوشه (ما في الشتا دا على أي حال).

وفوق ورقه مكتوب عليها بخط طفولي (العلمو نورون والحياتو كفاحو). بعد داك اتشاكلو أكان تبيعوها بسعر التراب ولا أرخص. أنا داير طعم وطن في شاي كشري على صينية ألمونيوم. الأوضة التي هي أرشيف الروح السوداني هي متعة الوطن، هي أوضة جالوص لا شرقية ولا غربية".

قلب الميادين

بعد سنوات، كانت مصر ما بعد 2011 قد صارت قبلة لكثير من الحالمين والمبدعين، فجاء بهنس إلى القاهرة ليتشارك مع كثيرين صدمتهم في مآلات الأوضاع التي كانت ذروتها حينها، سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على الحكم، واستهدافهم لمعارضيهم والتضييق عليهم، ولا يعرف إلى أي مدى صمد عقل بهنس وجسده خلال تلك الفترة، لكن كثيرين قالوا إنه كان وجهاً مألوفاً في ميدان التحرير والميادين المحيطة، وأنه كان يغني ويرسم الجرافيتي على حوائط وسط المدينة، وبعدما صمتت الميادين فوجئ كثيرون بتبدل حاله، حيث افترش الأرصفة وظهر بملابس وحيدة لا تتبدل، ابتسامة ذاهلة، وصمت دائم.

وفي إحدى ليال ديسمبر الباردة بشكل لم تعرفه القاهرة منذ عقود، عثر على جسد بهنس الهزيل متكوماً في وضع الجنين، بعدما صنع منه الثلج والجوع والإهمال والإرث التراجيدي لحال الإبداع وأصحابه في هذه البقعة من العالم، منحوتة لا أظن أنها ستفارق المخيلة العربية، وربما الإنسانية.

قد يريح البعض أن يتعزى بكون هذا الشاعر والفنان قد ولد من جديد بعد رحيله، حيث نالت أعماله المنشورة والمخطوطة وكذا لوحاته، التي يزين بعضها حوائط العواصم الأوروبية، شهرة كان نصفها يكفل له حياة كريمة وربما إبداعاً جديداً متفرداً، لكن تبقى ظروف رحيله الأكثر قسوة وعبثية تجدد مشاعر القهر والحسرة لرحيل مبدع وإنسان قبل أي شيء، بطريقة تذكرنا بمدى هشاشتنا ووحدتنا في هذا العالم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image