منذ بداية الاحتجاجات في العراق - والتي أحب أن أسميها انتفاضة تشرين - والسلطة تسخّر ما ملكت إيمانها، من مدوّنين وصفحات وواجهات إعلامية، لتثبيت وجود "طرف ثالث" خفي، مسؤول عن تخطيط الاحتجاج، وعن قتل المتظاهرين ورجال الأمن.
ولمزيد من "الوضوح" تُطلق هذه الواجهات تسمية "الجوكر" وعصاباته على هذا "الطرف الثالث"، دون حرج مما سيجلبه ذلك من سخرية، تسمية بُنيت فقط على وضع بعض الناشطين تصميماً لصورة الجوكر متقدماً نصب الحرية، إبان عرض الفيلم الشهير، وربط الواقع المحلي بالأعمال العالمية، وهذا بمثابة أداء شائع ومعروف في العالم، بل أن مؤيدي السلطة تظاهروا وهتفوا بقوة "الخايف خل يتكتر عدنا طلابة وية الجوكر"... نعم، سلطتنا تحارب الجوكر.
ثلاثة أمثلة عن "جواكر" تاريخية، تفتقت عنها مخيلة السلطة ورمتها كورقة الجوكر، لإفحام الخصوم وإسكاتهم.
وللإضاءة على جذور هذا السلوك، ولثقتي أن التاريخ يكرر نفسه، أودّ الاشارة إلى ثلاثة أمثلة عن "جواكر" تاريخية، تفتقت عنها مخيلة السلطة ورمتها كورقة الجوكر، لإفحام الخصوم وإسكاتهم.
الجوكر الأول: الجن
سعد بن عبادة، صحابي وزعيم قبيلة الخزرج، كان رأيه أن الخلافة من حق الأنصار وليست من حق قريش بطرفيها، وقد هاجر إلى الشام، ومات بشكل غامض، وقد تناولت الكتب أن الجن قتلوه.
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": "أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَالَ قَائِماً، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لأَجِدُ دَبِيباً، فَمَاتَ، فَسَمِعُوا الْجِنَّ تَقُولُ: قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بن عبادة، رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده"، انتهى.
وقال الأَصْمَعِيُّ: "حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بنُ بِلاَلٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءَ قَالَ: قُتِلَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ بِالشَّامِ، رَمَتْهُ الجِنُّ بِحوْرَانَ".
الجوكر الثاني: عبد الله بن سبأ
بعيداً عن الخوض في جدليات التاريخ، فإن أحداث "الفتنة الكبرى" من مقتل الخليفة عثمان وما تلاها من معارك الجمل وصفين، ومن ثم انشقاق الخوارج وما تلا ذلك، كان لها تفاصيلها وأسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبدلاً من البحث الجريء في هذه الأسباب، استسهل مدوّن السلطة إلقاء اللوم على شخصية وهمية، شخص يدعى عبد الله بن سبأ، يحمل كل الصفات المكروهة اللائقة بـ"مندس ومتآمر"، يهودي يلقب بـ "ابن السوداء"، حاقد دخل الإسلام ليفرق أبناءه وهو صانع الفتنة و"جوكرها".
وقد أكد العديد من الباحثين، على رأسهم الدكتور طه حسين، أن هذه الشخصية مفبركة وغير حقيقية أصلاً، ناهيك عن تحميلها ما لا يحتمله أي إنسان.
الجوكر الثالث: الحسين الأهوازي القرمطي
لما علا صيت المتصوف الشاعر الحسين بن منصور الحلاج في بغداد، وكثر الناس حوله، وبدأ بهز البنيان الفكري والسياسي للنظام القائم، توحّد ضده السلفيون والشيعة والصوفية التقليديون، وغضبت عليه السلطة لكثرة انتقاده للظلم والفساد وعدم اكتفائه بالجانب الروحي، ولم ينفع سجنه لأنه كان يأسر السجانين بجمال لفظه فيصيرون من أتباعه، سجنوه في دار الوزير وفي بيت الخلافة فاستمال الوزير وأم الخليفة.
وحين قرروا قتله، وبجانب عشرات التهم الأخرى، اتهم بانتمائه للقرامطة (حركة مسلحة معادية للدولة) وتلك كانت أشبه بتهمة (داعش)، رغم الفرق الهائل بين معتقدات الحلاج والقرامطة، وبلغ ببعض المؤرخين أن يقولوا بأن الحسين الحلاج هو نفسه الحسين الأحوازي، أحد دعاة القرامطة الأوائل، الذي خبا صيته فجأة.
فتم جلد الحلاج وصلبه، وتقطيع أطرافه ورأسه عبرة لأهالي بغداد، ومن ثم حرقه وذر رماده في النهر.
وضع بعض الناشطين تصميماً لصورة الجوكر متقدماً نصب الحرية، إبان عرض الفيلم الشهير، وربط الواقع المحلي بالأعمال العالمية، وهذا بمثابة أداء شائع ومعروف في العالم، بل أن مؤيدي السلطة تظاهروا وهتفوا بقوة "الخايف خل يتكتر عدنا طلابة وية الجوكر"... نعم، سلطتنا تحارب الجوكر
عبر تاريخ الصراع الطويل بين السلطة والناس، وكلما تراكمت المآسي والمعاناة، وغلت الصدور وفاض الغضب الشعبي، فإن للسلطات أوراقاً كثيرة تستخدمها في هذه اللعبة: ورقة العسكر، ورقة المثقفين المأجورين... إلخ، والجوكر هو إحدى هذه الأوراق
بالعودة إلى اليوم...
وهكذا، وعبر تاريخ الصراع الطويل بين السلطة والناس، وكلما تراكمت المآسي والمعاناة، وغلت الصدور وفاض تنور الغضب الشعبي، فإن للسلطات أوراقاً كثيرة تستخدمها في هذه اللعبة: ورقة العسكر، ورقة المثقفين المأجورين، ورقة رجال الدين... إلخ، والجوكر هو إحدى هذه الأوراق الذي تراه السلطة كافياً للتخوين وهدر الدم والتسقيط الكامل، المتمثّل بـ "الطرف الثالث"، العدو الخفي والفزاعة التي تعمل السلطة على تخويف الجماهير ومحاولة إعادتهم إلى بيت الطاعة من خلاله، لتنسيهم رداءة واقعهم وضياع حقوقهم.
فـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، سواء كان هذا "العدو/ الطرف الثالث" الذي ابتُكر هو شخصية محبوكة بمهارة كابن سبأ، أو ربطاً ساذجاً كقرمطية الحلاج، والمفارقة أن السلطات العراقية أسمت هذا العدو الغامض بـ "الجوكر" فعلاً.
وعلى سذاجة هذه الصياغات واستبعاد انطلائها على أحد، يكفي أن تتناقل المنابر والصفحات هذه الورقة وتنفخها في العامة حتى يصبح لها "دعاة طوعيون"، يزيدون في تفاصيلها ويحلفون على صحتها. بمزيد من الوقت وبعض الأحداث المفتعلة، ستملك السلطة ملايين الأشخاص حاملي البنادق والسيوف والسكاكين الجاهزة للنحر والصلب، دفاعاً عن سلطة شتموها بالأمس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...