شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الجنس والأخلاق في أبدية الفضاء

الجنس والأخلاق في أبدية الفضاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 17 ديسمبر 201906:40 ص

يقصد بالأدب المفاهيمي أو القصة المفاهيمية، تلك الحكاية التي تؤلف وتبنى على أساس معالجة مفهوم معين، مثلما هناك قصص شعبية مثلاً تعلم العبر والأخلاق فتؤلف على أساس مديح الشجاعة وذم الجبن، أو الإعلاء من شأن الأخلاق في وجه الانتهازية. يمكن اعتبار شخصية دونكيخوته مثلاً، شخصية مفاهيمة مؤلفة على أساس الحالم الرومانسي الفروسي، بينما شخصية سانشو المقابلة لها، فهي شخصية مفاهيمية أيضاً تمثل البراغماتية، الواقعية والرغبة بالاستمرار. لقد تأخر التنظير للفن المفاهيمي حتى عشرينيات القرن العشرين، لذلك تعتبر الأعمال المفاهيمية هي الأندر في تاريخ الأدب، وأكثرها ندرة هو نوع الفانتازيا المفاهيمية، فما هي؟

الفانتازي في القصة هو قبول شرط غير منطقي، أو فوق طبيعي في الحكاية، ما يطلق عليه وصف "الخارق" في السينما، فمثلاً قبول أن أنف بينوكيو يكبر حين يكذب، هو شرط فانتازي، نقبله كقراء لتعالج القصة مفهوم الكذب والحقيقة، كذلك قبول أن فرانكنشتاين مسخ تبث فيه الحياة لنعالج موضوعة العلم والإنسانية. في رواية "العمى"، يفترض الكاتب خوسيه ساراماغو أن العمى يصبح مرضاً ينتقل باللمس، لتصاب مدينة بكاملها في العمى، وهذا شرط فانتازي، أراد منه الكاتب أن يعالج سؤالاً مفاهيمياً: "ماذا يحدث لو أصيبت مدينة كاملة بالعمى؟ أي نظام أخلاقي وقانوني سيحكم؟"، وضع ساراماغو الشرط الفانتازي في خدمة مفهوم هو ضرورة الأخلاق والنظام القانوني لبقاء الإنسانية. رغم هذه الأمثلة، فإن الفانتازيا المفاهيمية هي الأندر تقريباً من كل الأنواع القصصية الأدبية.

فيلم "حياة مرتفعة" للمخرجة الفرنسية كلير دوني، والذي عرض مؤخراً في بيروت، واحد من أفضل الإنتاجات السينمائية الأوروبية في العامين الماضيين، وهو نموذج مثالي للفانتازيا المفاهيمية، حيث تستعمل حكاية فانتازية من الخيال العلمي لمعالجة أسئلة وجودية، فلسفية وأخلاقية، وهو من إنتاج بريطاني، ألماني، فرنسي مشترك، مع نخبة من الممثلين الأمريكيين والأوربيين مثل جولييت بينوش، روبرت باتيسون، وميا غوث.

العناصر التي تمنح الفيلم جودته، هي: قصة تحمل العديد من التأويلات الفلسفية والأخلاقية، سيناريو محكم الكتابة لسرد الحكاية سينمائياً، أسلوب إخراجي متين ومتقشف، بكاميرا تهتم بالكادرات الجمالية في عالم الفضاء الخارجي، ومستوى أداء في التمثيل يحقق بدقة الرؤية الإخراجية.

تجربة علمية بدلاً من عقوبة الإعدام

في بداية الفيلم، يوافق مجموعة من المحكومين بالإعدام، وبدلاً من إيقاع عقوبة الموت عليهم، على التطوع للمشاركة في مهمة إلى الفضاء، خارج النظام الشمسي. تسعى المهمة العلمية لاستكشاف مدى قدرة البشر على البقاء أحياء في مركبة فضائية تجوب النظام الشمسي، وتهدف إلى جمع المعلومات عن الثقوب السوداء الموجودة في الفضاء والعصية على الاستكشاف، ولأن العودة إلى الأرض غير ممكنة من بعدها، فتم اختيار محكومين بالإعدام للقيام بها.

حبكة منطقية لحكاية الفيلم، وخصوصاً إن أدركنا أن هؤلاء المجرمين المحكومين بالإعدام لجرائمهم، يمكن أن يتحولوا مع هكذا مهمة علمية إلى أبطال يفيدون البشرية بالمعلومات التي ماتزال عصية على العلم عن الفضاء الخارجي، عبر السفر فيه وإرسال المعلومات عن الثقوب السوداء. زوجة تشيرني، أحد أفراد المجموعة تقول له: "أفضل أن أدفنك بيدي تحت التراب، على أن تذهب في مصير مجهول إلى الأبد". يكتشف أفراد المجموعة بعد انطلاق الرحلة ألا عودة لهم أبداً إلى الأرض، وأن أي معلومات سيرسلونها إلى الأرض ستصل بعد آلاف السنين، وذلك للاختلاف الهائل بين الزمن الأرضي والزمن الفضائي.



كيف يمكن لأب أن ينقل مفاهيمه الأخلاقية الإنسانية إلى طفلة ولدت في سفينة فضائية؟ 

"حياة مرتفعة" هو من أفضل الإنتاجات السينمائية الأوروبية في العامين الماضيين، وهو نموذج مثالي للفانتازيا المفاهيمية، حيث تستعمل حكاية فانتازية من الخيال العلمي لمعالجة أسئلة وجودية، فلسفية وأخلاقية


الإنجاب الإجباري

الممثلة جولييت بينوش تؤدي شخصية "الطبيبة ديبي"، طبيبة ترافق المجموعة وتشرف على النظام الغذائي لأعضاء الرحلة، وهي المسؤولة عن منحهم الأدوية والفيتامينات اللازمة لبقاءهم أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، وبالتالي هي تتحكم بنومهم ويقظتهم من خلال الأدوية والفيتامينات. مهمتها الأساسية على السفينة الفضائية إعادة إنتاج أفراد المجموعة، أي الإنجاب، لكي يولد في المركبة الأبدية الجيل البشري وراء الآخر، بغاية أن ترسل الأجيال التالية المعلومات عن الرحلة وعن السفينة إلى الأرض. بالإجبار، تأخذ الطبيبة ديبي مني الرجال من أفراد المجموعة لتزرعها في رحم النساء علّ إحداهن تحبل، وتنجب. تصبح حكاية الطبيبة ديبي حكاية قوة عليا، تفرض على طاقم السفينة التجاوز والإنجاب.

كما كل أفراد الرحلة، ارتكبت الطبيبة ديبي جريمة في ماضيها على الأرض، خنقت أطفالها، نحرت زوجها، وأجرت عملية نزع لرحمها لكيلا تنجب، لكنها الآن في المهمة العلمية الفضائية مهمتها تحقيق الإنجاب بين أفراد المجموعة، كأنها تكفر عن ذنبها في الماضي، بتكريس حياتها لمهمة توليد الأطفال لكن من أرحام أخريات.

العلاقات الجنسية بين مجموعة مغلقة

أول المحاور الأساسية التي تحملها هذه الحكاية هو الجنس. فالجنس لابد أن يكون معضلة إشكالية، فنحن أمام شرط روائي يضع مجموعة من الرجال والنساء في رحلة يقترب طول مدتها آلاف السنين. المركبة الفضائية مجهزة بالأدوات الجنسية التي تحقق المتعة للجسد الذكوري وللجسد الأنثوي. في واحد من مشاهد الفيلم الحميمة تصور المخرجة الطبيبة ديبي وهي تستخدم الآلة المصممة للمتعة الجنسية، تدور الكاميرا حول جسد الممثلة بينوش، تلتقط تفاصيل متفرقة متعاملة مع الجسد كتجسيد جمالي، تنتقل بعدها إلى زاوية أعلى سقف الغرفة لتصور الحدث من الأعلى.

لكن آلات تحقيق النشوة ليست مرضية بما فيه الكفاية لطاقم المركبة، فشخصية إيتوري من بين أفراد المجموعة يحتاج إلى الشم واللمس، يمارس الاستمناء متلصصاً على استحمام الطبيبة ديبي، وحين يفشل في إغواء أي من النساء، يلجأ إلى الاغتصاب بمشهد عنيف، يهرع أفراد الطاقم لإيقافه، وحين يصلون متأخرين يكون الانتقام من المغتصب قاسياً حد القتل.

الشخصية الأساسية في الفيلم هو مونتي، يؤديه الممثل والموسيقي البريطاني روبرت باتينسون، أمام هذا الشرط الجنسي في المركبة الفضائية، يختار العفة التامة، لن يستعمل أياً من الآلات الجنسية المزودة بها المركبة، ويرفض أن يتبرع بمنيه لمهمة الإنجاب الإجباري التي تفرضها الطبيبة ديبي. كذلك هناك المتمردة من الشخصيات النسائية، وهي بويزي. لكن الطبيبة ديبي تريد تحديداً التلقيح بين هذا المتمرد والمتمردة لأنهما يمتلكان أفضل بنية جسدية حسب فحوصات الـDNA . وعبر الحيلة والتحكم بنومهم واستيقاظهم، تنجح بأن تنجب طفلة من تلاقح المتمرد مونتي والمتمردة بويزي، التي ما أن تعي أنها أصبحت أماً بالإجبار، حتى تقدم على الانتحار.

الأبدية والانتحار

طبعاً "الأبدية" مفهوم ذهني غير متجسد في الواقع، لكن أن تكون مجموعة من البشر في رحلة مركبة فضائية، يجري زمنها آلاف المرات أبطأ من الزمن الأرضي، تبدو حياة الإنسان الواحد مدة زمنية لا متناهية، أي تصبح حياة فرد واحد تقارب الأبدية.

في مسرحيته "الأبواب المغلقة، 1944" يجسد جان بول سارتر الأبدية على شكل غرفة فيها ثلاثة أشخاص يحاكمون بعضهم البعض على ماضيهم، ويمتد زمنهم إلى اللانهاية، الأبدية إذاً، هي المصير الحتمي المستمر. هذا ما يعانيه أفراد المجموعة في الرحلة الفضائية في فيلم "حياة مرتفعة"، لذلك يكون الانتحار مصير عدد من أفراد طاقم الرحلة، الانتحار يكون بفتح باب المركبة والقفز إلى الفضاء الشاسع الذي يصبح بسواده رمزاً للقبر، في لقطات الفيلم نرى الأجساد تسبح في إعتام الفضاء، ندرك أنها تسبح نحو الموت.

الأخلاق والتابو في علاقة أبوية

يبدأ الفيلم بعد أن يموت كل أفراد طاقم الرحلة، لم يتبق إلا الأب مونتي والطفلة ويلو التي ولدت على ظهر السفينة. كان مونتي قبل ولادتها قد أخفى كل البيانات المتعلقة بماضيه والمتعلقة بماضي أفراد السفينة، كمجرمين مجبورين في رحلة فضائية، كيلا تكتشفها ابنته. لا تعرف الطفلة من الحياة إلا هذه المركبة الفضائية التي ولدت بداخلها ولن تخرج منها يوماً، بينما والدها هو الذكر الوحيد الذي تعرفه. لذلك، وفي المشهد الافتتاحي، نتابع الأب يحاول أن يعلم ابنته كلمة تابو Taboo بلفظها مراراً ببطء أمام عينيها. كيف يمكن لأب أن ينقل مفاهيمه الأخلاقية الإنسانية إلى طفلة ولدت في سفينة فضائية؟ في الثلث الأخير من الفيلم يصبح جسد ويلو بالغاً، ندرك ذلك من دم الحيض على السرير، ومن حينها يرفض والدها أن يشاركها السرير ثانية، بعد أن كان ينام إلى جانبها سابقاً.

يظهر السؤال الأخلاقي حتمياً في علاقة مغلقة بين فتاة مراهقة ووالدها كذكر، وحتى كإنسان وحيد في حياتها. الاحتمال الوحيد المتاح هو أن تتعلق الفتاة بأبيها كوالد وكعشيق أيضاً. هذه الحتمية تقود الأب مونتي إلى قرار الانتحار ومعه ابنته. يوجهان مسار المركبة الفضائية التي يعيشان عليها نحو الثقب الأسود، الذي ندرك نحن كمشاهدين أن الدخول في جوفه هو الفناء، هو النهاية، هو الموت. فضل الأب أن يقتل نفسه وابنته على أن يعيشا معاً كقريبين وعاشقين. لقد وضعت حكاية الفيلم شرطاً فانتازياً وهو رحلة في أبدية الفضاء، ليطرح سؤالاً عن الجنس والأخلاق في حياتنا الإنسانية.

في نهاية الثمانينات بدأ اسم المخرجة كلير دوني يظهر في أوساط السينما الفرنسية مع أفلام مثل "شوكولا"، ومن بعده "لا خوف لا موت"، و"لا أستطيع النوم"، لكنها في فيلمها الأخير هذا "حياة مرتفعة"، تعالج حكاية محكمة مفتوحة على تأويلات متعددة فلسفية وفكرية. كما تنجح أن تستلهم اللغة السينمائية لأفلام خيال علمي عظيمة مثل: 2001 أوديسة الفضاء، لستانلي كوبريك، سولاريس، لأندريه تاركوفسكي 1972، والذي أعاد تحقيقه ستيفن سودربيرغ في 2002.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image