شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أبناء الجنوب والانتفاضة اللبنانية... قلة تقاوم علناً وكثيرون يحاولون خلف الجدران بصمت

أبناء الجنوب والانتفاضة اللبنانية... قلة تقاوم علناً وكثيرون يحاولون خلف الجدران بصمت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 27 نوفمبر 201905:00 م

أنا ابنة الجنوب اللبناني. لم أشعر يوماً بانتماء إلى هذه البقعة الجغرافية. وُلدت في إحدى بلداتها وعشت فيها حتى بلغت الـ18 من عمري. في طفولتي لم أعرف كيف تكون الحياة في مكان آخر. زرت المدن والقرى اللبنانية الأخرى في إطار رحلات مدرسية وفي زيارات موسمية مع أهلي، ولكن ما أعرفه لم يكن كافياً لأفهم تعقيدات المناطق والتقسيمات والانتماءات والاختلافات في هذا البلد.

أحاول تذكر آخر مرة شعرت فيها بفرح لأنني هنا. كان ذلك في أيار/ مايو من عام ألفين عندما حرّرنا جنوبنا من الاحتلال. كانت أياماً متتالية من الفرح والألوان، من إحساس بجمال بلدات كانت محتلة وأزورها للمرة الأولى وأفكر أنها لنا.

ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً. لم تبقَ لنا. لم تبق لي على الأقل. بلدتي لم تكن محتلة ولكنها جزء من الجنوب الذي أصبح دفعة واحدة تحت سيطرة جهة واحدة. تسلل اللون الأسود إليه. فائض إحساس بالقوة والتزام ديني لا يشبه بساطة الإيمان سابقاً.

في مراهقتي، صار حلمي ترك هذا المكان. رحت أنتظر الجامعة كي أجرب شعور الاستقلالية في مكان آخر. كان بديهياً أنني سأسكن في بيروت في سنوات دراستي الجامعية، فحينذاك لم يكن في صور، أقرب مدينة إلينا، جامعة. منذ ذلك الوقت، اخترت بيروت على بشاعتها، واخترت أن أبقى فيها رغم صراعي اليومي معها، لأنها سمحت لي بالاختلاف ولو قليلاً.

13 سنة مرّت منذ ذلك الحين. صرت آتي إلى الجنوب كزائرة تحفظ معالم الأمكنة ولكنها نسيت أنها وُلدت هنا. أعرف الطريق إلى بلدتي عن ظهر قلب. شاطئ صور ملجأي في أيام الصيف. أحفظ السوق القديم ومدرستي قبل أن تقفل أبوابها ومحلات المدينة قبل أن يجتاحها الإسمنت القبيح. ولكن شعوري يشبه النظر في وجه حبيب قديم يبدو مألوفاً دون أن يعني لي شيئاً.

كنت وأنا في طريقي من بيروت إلى الجنوب أشعر بغضب مكبوت ما أن أصل إلى أولى البلدات الشيعية وتستقبلني أعلام حزب الله وحركة أمل في صف لا ينتهي. على مدخل ضيعتي صور الزعماء وأقوالهم المأثورة تضاعف غضبي ولكنني أحتفظ به في داخلي. أذكّر نفسي بأن هذا ليس مكاني، أنا هنا فقط لزيارة أهلي، لن أتخطى عتبة البيت إلا لأجالس جدتي قليلاً في بيتها المقابل ثم سأغادر وأترك كل هذه الصور واليافطات ورائي.

مرة بعد مرة، كانت تزداد غربتي عن المكان. ليست لي مساحة هنا. إنها لهم وليست لي.

منذ اندلاع الانتفاضة في لبنان وأنا في شوارع بيروت وساحاتها. لم أتركها. طوال أكثر من شهر، أتنقل فيها في كل الأوقات والأماكن ومن اعتصام إلى مسيرة، من تظاهرة إلى مواجهة. هذه من المرات القليلة التي أشعر فيها بأن لي مساحة ما في هذه البلاد.

طوال هذه الفترة، لم أزر الجنوب ولا أي مكان آخر خارج حدود بيروت الكبرى، ولكنني كنت أشاهد ما يحدث في المناطق الأخرى. في الأيام الأولى التي شاهدت فيها التسجيلات المصورة من صور والنبطية، رقص قلبي فرحاً. مع كل صورة جديدة من الجنوب، كنت أحاول إمساك نفسي عن البكاء. دموعي سبقتني عندما رأيت صور الناس تقتحم مكاتب النواب. بكيت على سنوات قمع اعتقدت أنها لن تنتهي.

عندما تعرّض المعتصمون في صور لاعتداء، سألت نفسي: هل يجب أن أذهب إلى المدينة لأعتصم هناك؟ راودني شعور بأنه ربما لي شيء ما فيها.

خفت نبض الانتفاضة في الجنوب بعد الاعتداءات على المتظاهرين. عاد الناس فيه إلى "حياتهم الطبيعية" قبل باقي المناطق.

يقول لي أصدقاء يعيشون في الجنوب: "نيالك، استطعتي أن تعيشي هذه الانتفاضة الرائعة في بيروت، نحن هنا في الجنوب نعيش في دويلة منفصلة عما يحدث في لبنان الآخر". في رأسي صوَر لحظات لا تحصى من جمال هذه الانتفاضة، فائض حب لأنني عشتها وإحساس صغير بالأسى لأن هناك مَن يحاول منع الناس في هذا الجنوب من أن يعيشوا لحظات انتفاضتهم كما أرادوا.

"أكتب اليوم عن جنوب لبنان بشعور مختلف، سعيدة بأناسه القليلين الذين يقاومون وبأناس أكثر خلف الجدران تحاول بصمت ولكنني لم أتخطَّ بعد غربتي عنه. تفصلني عنه تراكمات سنوات من الغضب واللا انتماء والإحساس بالعجز"
"كنت وأنا في طريقي من بيروت إلى جنوب لبنان أشعر بغضب مكبوت ما أن أصل إلى أولى البلدات الشيعية وتستقبلني أعلام حزب الله وحركة أمل في صف لا ينتهي. على مدخل ضيعتي صور الزعماء وأقوالهم المأثورة تضاعف غضبي ولكنني أحتفظ به في داخلي"

واصل بعض المعتصمون والمعصمات نشاطهم ولكنهم حصروا تحركاتهم في نقاط صغيرة.

بعد هذا الانقطاع، جئتُ إلى مدينة صور بشعور متناقض من الغضب والفرح، فرح بأن هناك مَن يحاول رغم كل شيء، ومَن يغضب على مَن يريدون سجن المحاولة.

منذ يومين، تعرّض مكان الاعتصام في صور لاعتداء جديد من مناصري حزب الله وحركة أمل. في منتصف الليل، شاهدت فيديو حرق الخيم وهتافات المعتدين، رأيتهم يرفعون صورة الزعيم في الساحة نفسها ويقولون بكل ثقة أن صورته ستبقى فيها ولن يسمحوا بنزعها. تملكتني غصّة مع شعور بالإحباط لأننا لن نستطيع فعل شيء مهما حاولنا. لا يريدون أن يتركوا لنا ولو مساحة صغيرة للوجود.

أصرّ المعتصمون والمعتصمات على البقاء رغم الاعتداء. أعادوا خيمهم، نزعوا صورة الزعيم، وفي مساء اليوم التالي كانوا قد تجمعوا من جديد في نفس المكان بأعداد أكبر وبأصوات تعلو فوق كل خوف أو قمع.

أكتب اليوم عن الجنوب بشعور مختلف، سعيدة بأناسه القليلين الذين يقاومون وبأناس أكثر خلف الجدران تحاول بصمت ولكنني لم أتخطَّ بعد غربتي عنه. تفصلني عنه تراكمات سنوات من الغضب واللا انتماء والإحساس بالعجز. أحسد هؤلاء المنتفضين والمنتفضات على محاولاتهم وعلى تضامنهم مع بعضهم رغم الاختلاف. الوقوف في وجه هذا القمع، مهما كانت الطريقة، فعل مقاومة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image