كانت فاطمة (اسم مستعار)، فتاة نشيطة، مجتهدة، صاحبة فكر متجدد دائماً، ذهنها حاضر دائماً، ولا تتوقف عن تقديم الدعم والمشورة لكل من حولها.
التقيت بفاطمة أول مرة في بيروت عام 2015، في تدريب عن قيادة الحملات المناصرة لقضايا المرأة في الوطن العربي، ولكن عندما حكينا هذه المرة، شعرت بتغيير أصابها، تردّ باقتضاب شديد، لا تتفاعل مع الحوار كعادتها.
تقول فاطمة: "أدركت في نهاية المطاف أن لا شيء سيتغير في ظل الأنظمة العربية الحاكمة التي تصادر حريتنا وحقنا في الحياة، كل ما يريدونه هو إما الصمت أو التحدّث بما يلقنونك إياه، غير ذلك سيتم تشويهك، وربما حبسك".
وتضيف فاطمة (31 عاماً) التي رفضت الكشف عن هويتها، أنها خلال العامين الماضيين، تعرضت هي ومنظمتها التي أسستها منذ سنوات، لحملة هجوم ممنهجة، على الرغم من أن عملها لا يستهدف السلطة الحاكمة، ولكن تغيير القوانين الخاصة بالنساء، ومنحها المزيد من الحركة والحرية.
وتقول فاطمة: "الوضع في البحرين مختلف كثيراً عن مصر، نحن بلد صغير، والعاملون في المجتمع المدني وحقوق الإنسان قليلون جداً، وأي تشهير أو استهداف لأي منهم، سيأتي بنتائجه على الفور، خاصة لو كانت المستهدفة فتاة كحالتي".
"انتهى بي الحال بالدخول في اكتئاب مرضي، وطلبت مساعدة طبيب نفسي، بعد أن بدأت تدور في ذهني الأفكار الانتحارية طوال الوقت، وذلك بعد قراري التوقف عن العمل العام تماماً"، تقول فاطمة.
الإحباط، والخوف، والاكتئاب، ومحاولة الاختفاء من المشهد العام، ومحاولات الهروب المستمرة، هي أغلب المشاعر التي تدور حولها حالات نشطاء وصحفيين تعرضوا لقمع، أو ترويع تحدثوا لرصيف22، وهو التأثير النفسي الذي تحاول أن تحدثه الأنظمة المستبدة في نفوس المنشغلين بالشأن العام.
"حذرني الطبيب من الكلام"
الشاب المغربي عماد رشيد (29 عاماً)، كان من بين الذين شاركوا في انتفاضة الريف المغربي، التي أطلقها ناصر الزفزافي في أكتوبر 2016، حمل كاميرته، وقرَّر النزول في الشارع، لنقل التظاهرات والاحتجاجات عبر حسابه في "الفيسبوك" و"يوتيوب".
يحكي رشيد لرصيف22: "منذ اللحظة الأولى، بدأت في نقل الأحداث من الشارع مباشرة إلى المشاهد خلف الشاشة، ولكن بعد مرور الوقت، بدأ النظام المغربي يتعامل بشكل مختلف، وصل حد اعتقالات واسعة، شملت العشرات ممَّن شاركوا في الحراك".
"لا شيء سيتغير في ظل الأنظمة العربية الحاكمة التي تصادر حريتنا وحقنا في الحياة، كل ما يريدونه هو إما الصمت أو التحدّث بما يلقنونك إياه، غير ذلك سيتم تشويهك، وربما حبسك"
"انتهت التجربة على خير وخرجت من السجن بعد أيام قليلة، نتيجة ضغوط مارسها الصحفيون ونقابة الصحفيين، ولكن الندبة التي تركها الاعتقال في روحي لم تختف بمجرد خروجي"
"خلال الأسابيع التي سبقت هروبي من المغرب مباشرة، بدأت أدخل في حالة من الخوف والذعر المستمر، خاصة مع معرفتي بأن هناك حملات واسعة لاعتقال المشاركين في الحراك، وللأسف كان حسابي الشخصي، قبل أن أقوم بغلقه نهائياً، واحداً من الحسابات التي تفاعلت بقوة مع الأحداث، حتى قررت مواجهة كل الاضطرابات النفسية التي مررت بها، والهروب خارج البلاد، وقد كان".
رفض الشاب المغربي الحديث أكثر عن قصته، حيث ختم حديثه قائلاً: "حذرني طبيبي النفسي من الحديث عن الأمر، لا أريد سوى أن أغمض عيني وافتحهما وكأن هذا القمع لم يكن".
" لا أريد سوى أن أغمض عيني وافتحهما وكأنَّ هذا القمع لم يكن".
قصة أخيرة يرويها علي (اسم مستعار)، حقوقي مصري سابق قضى في السجن قرابة العامين، كان باحثاً في أحد المراكز الحقوقية، التقى بعدد من العمال لبحث تحركهم قانونياً ضد إدارة الشركة التي يعملون فيها، فاعتقلته قوات الأمن بتهمة التحريض على التظاهر.
قرر المحامي الحديث عما بعد فترة الاعتقال، وليس فترة الاعتقال نفسها، واختصر كل التفاصيل في عبارة مقتضبة: "بنام تحت السرير، مابخرجش من البيت، لو باب البيت خبط بدون ميعاد مسبق، أول حاجة بفكر فيها أني أجري على البلكونة، عشان لو الأمن هو اللي بيخبط، انتحر".
"أنام تحت السرير"
محمد عبد الناصر، صحفي مصري آخر ممن تعرضوا للحبس لأكثر من عامين، تحدث إلى رصيف22 من أمريكا، عن تجربته مع الاضطرابات النفسية نتيجة الاعتقال والانتهاكات التي تعرض لها في محبسه، وكيف استطاع تجاوزها.
يقول الصحفي محمد عبد الناصر (اسم مستعار) إنه لأكثر من 6 أشهر، منذ لحظة خروجه من السجن، وهو "ينام أسفل السرير"، وكلما حاول النوم في مكانه الطبيعي، لا يستطيع أبداً.
ويضيف: "لم أخرج من البيت أول 3 أشهر إلا لقضاء التدابير الاحترازية المفروضة عليا، يومين في الأسبوع ساعتين كل يوم، بخلاف ذلك لم أر الشارع، حتى نصحني صديق بزيارة طبيب نفسي والتحدث معه".
ويروي عبدالناصر بعض ما دار بينه وبين الطبيب النفسي في مصر قبل سفره إلى أمريكا: "كانت أزمتي وأكثر ما يؤلمني، هو شعوري بالحسرة نتيجة الاعتقال كل هذه المدة بدون أي سبب، في حين أن المجرمين والقتلة يمارسون جرائمهم باستمرار دون أن يعاقبهم عليها أحد، عندما قلت ذلك للطبيب، صمت قليلاً ثم قال بكل هدوء: هل المجتمع هو من يتحمل هذا الذنب أم السلطة التي حرمتك حقك؟ منذ هذه اللحظة قررت التوقف عن معاقبة نفسي بالعزلةـ وتحميل الناس مسؤولية ليست مسؤوليتهم".
ويقول عبد الناصر: "بعدها بشهور، تلقيت دعوة لزيارة أمريكا من أحد الأقرباء، أشعر بالتحسن كثيراً، طالما أعرف أنني أبعد ساعات طويلة عن أي محاولة لاعتقالي مجدداً، ولكنني سأعود رغم كل الألم الذي أعيشه، إلى مصر".
"أعيش في منتجعات سياحية"
من ناحية أخرى، تمكن صحفيون ونشطاء من تجاوز الأزمة، دفعوا ثمناً غالياً من صحتهم النفسية، ولكن في النهاية استطاعوا تجاوز الأمر.
يقول الصحفي أكرم محمد عبد الظاهر (32 عاماً) لرصيف22 إنه غادر القاهرة منذ 4 سنوات، وقرَّر ألَّا يعود إليها مرة أخرى، بعد سنوات من الأزمة النفسية التي عصفت به.
يحكي عبد الظاهر تجربته التي مر بها في 2012: "تعرضت للاعتقال في إحدى فعاليات الثورة، لم تكن فقط تجربة اعتقال، فتعرضت للتعذيب وللانتهاك لسحب الاعترافات حول مشاركتي في محاولة اقتحام مبنى إحدى الوزارات الكبرى في مصر، بالإضافة للتعذيب والضرب بهدف الإذلال".
"الندبة التي تركها الاعتقال في روحي لم تختف بمجرد خروجي".
ويضيف: "لأكثر من 4 أيام، منذ القبض عليّ وحتى وصولي سجن طره، وأنا أتعرّض للضرب والإهانة، انتهت التجربة على خير وخرجت من السجن بعد أيام قليلة، نتيجة ضغوط مارسها الزملاء ونقابة الصحفيين، ولكن الندبة التي تركها الاعتقال في روحي لم تختف بمجرد خروجي".
"طلبت المساعدة النفسية، وذهبت لأحد الأطباء النفسيين، ساعدني على تجاوز الأزمة بعد فترة طويلة من الاكتئاب والألم والتفكير في إنهاء حياتي، ولكن في النهاية تجاوزت الأمر، ومن هنا قررت مغادرة القاهرة للأبد".
يعيش عبد الظاهر، منذ مغادرته القاهرة، في عدة مناطق ساحلية، أغلبها مطل على شواطئ البحر الأحمر، يعمل صحفياً حراً في عدة صحف ومواقع عربية وأجنبية، إلى جانب عمله كمتطوع أحياناً في الفنادق، والكامبات السياحية هناك، مقابل إقامة على البحر مباشرة.
"ينتقمون من نشطاء يناير"
"زيادة التعذيب والانتهاكات التي تحدث في مصر، سببها توفير الحماية للقائمين عليه"، قالت الدكتورة عايدة سيف الدولة، مديرة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، أحد أشهر المراكز الحقوقية في مصر، والتي تقدم الدعم النفسي لضحايا التعذيب وإزالة آثاره النفسية.
وتقول عايدة سيف الدولة، إن ما يحدث في ملف التعذيب، سواء الجسدي أو النفسي، أو استعمال أسلوب الضغط والترهيب للعاملين في المجتمع المدني في مصر حالياً، غير مسبوق على الإطلاق، خاصة وأن التعذيب والانتهاكات تحدث بنمط انتقامي من ثورة 25 يناير ومن قاموا بها.
"يفقد الناجي من العنف أي أمل في المستقبل، ويصاحب ذلك اضطرابات في النوم وكوابيس"
وعن أبرز الآثار النفسية، تقول الدكتورة عايدة سيف الدولة لرصيف22، إن "الاكتئاب" هو الأبرز، وما يصاحبه من أعراض نفسية، حيث يفقد الناجي من العنف أي أمل في المستقبل، ويصاحب ذلك اضطرابات في النوم وكوابيس، ويفقد القدرة على الدخول في النوم أو ينام بشكل متقطع.
كما تشمل الآثار النفسية، الشعور بالإجهاد وانعدام الطاقة، وشعوره بالاضطرابات الجنسية، حيث في أغلب الأحيان يفقد الرغبة الجنسية، وفي بعض الأحيان يفقد القدرة الجنسية، فضلاً عن شعور بعدم القيمة والعجز، وهو ينتج بسبب عجزه عن الدفاع عن نفسه أثناء تعرضه للتعذيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين