شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"هاجس صناعة الأنبياء"... متى تتوقف الدراما عن تقديم الشخصيات التاريخية كأنها معصومة عن الخطأ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 20 نوفمبر 201906:48 م
Read in English:

Distorted Truths: TV Drama Peddling Fake Islamic History

أعترف أنني من هؤلاء الذين قضوا وقتاً طويلاً يظنون أن الصحابي عمرو بن العاص لم يقترف خطأ قط، وليس له أي دور في الفتنة الكبرى بين الصحابة، فحين جسّد نور الشريف شخصية الصحابي في عمل تلفزيوني، لم يسرد لنا أي شيء عن القصة.

لكنني كبرت وقرأت وصُدمت وانزعجت ورفضت تصديق أن عمرو بن العاص لم ينقذ عثمان بن عفان، زوج ابنة رسول الله، انزعاجاً وصل حد التشكيك في واقعة الفتنة الكبرى أصلاً، لكنني هدأت حين وجدت أن الواقعة حقيقية.

مسلسلات رمضان القادم

تلك الوقائع تجعلني أرتبك حين يتم الإعلان عن أي عمل يجسّد شخصية تاريخية، أتحسس عقلي وأهرول للكتب، حتى لا أقع في فخ "التقديس والتلميع" الذي يضفيه العمل الفني على صاحبه، أفتش عن مواقفه، آرائه، أحاول أن أنجو بنفسي قدر المستطاع.

ولأننا، كما يبدو، على مشارف حقبة لإنتاج أعمال تاريخية جديدة، فمنذ أيام بدأ مسلسل "ممالك النار" الذي يجسّد شخصية "طومان باي"، آخر سلاطين المماليك الذين حكموا مصر قبل الاحتلال العثماني، كما تم الإعلان عن مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، سيتم عرضه رمضان المقبل، هذا بالإضافة إلى "بابا العرب" الذي يحكي قصة البابا شنودة الثالث.

هل يمكن أن نرى عملاً فنياً عن شخصية "تاريخية" أو "دينية" لا يجعل من صاحبها "نبياً"؟ 

ومنذ الإعلان عن تجسيد "خالد بن الوليد" سألت نفسي: وماذا عن واقعة "مالك بن نميرة"؟ ذلك الرجل الذي قتله جند خالد بن وليد، فتزوج الأخير بامرأته في نفس الليلة، وهي واقعة اختلف عليها كثيرون ورأى عمر بن الخطاب أن محاسبة "خالد" واجبة، كما سألت نفسي عن قصة عزله من الجيش وهو أول قائد عسكري يُعزل في تاريخ المسلمين، فكيف سيتم تناول تلك القصة؟

وقبل الإجابة لنا، كان عليّ أن أسأل أولاً، هل سيتغير كتالوج الأعمال الفنية عن الشخصيات التاريخية؟ هل يمكن أن نرى عملاً فنياً عن شخصية "تاريخية" أو "دينية" لا يجعل من صاحبها "نبياً"؟ أم سنلتزم بالكتالوج الذي يبدأ مبكراً باختيار الشخصية المفترض تجسيدها، وبالطبع يجب أن تكون على وفاق مع الدولة، فلن نجد عملاً فنياً يجسّد ثائرين، إلا إذا تولوا السلطة، كما يجب أن تحظى تلك الشخصية ببعض الشعبية لضمان النجاح.

لا سلبيات في الشخصيات

أما الأهم والكارثي فهو السردية التاريخية للشخصية، فكافة الأعمال الفنية التي تنتمي لهذا النوع اختارت منذ البداية تسليط الضوء على الجانب الإيجابي في الشخصية، والابتعاد عن المناطق "القلقة"، حتى لو كلفها ذلك تلفيق أكاذيب ونفي حقائق، المهم ألا تصاب صورة البطل الملهم بأي خدش، بهذا تم إنتاج مسلسل عمرو بن العاص، مسلطاً الضوء على تقواه وورعه، ولكنه لم يناقش، ولو بمشهد واحد، دوره في قضية اقتتال الصحابة، وكيف أصبح والياً لمصر وهو أهم أدوار ابن العاص السياسية، وبهذا أيضاً تم الحديث عن عمر بن العزيز، فهو الحاكم العادل التقي، لكن لم يشر العمل الفني إلى بعض القرارات الديكتاتورية لـ"خامس الخلفاء الراشدين".

الحقيقة غير قابلة للحجب للأبد، يوماً ما سيفتش المشاهد الذي فرضت عليه الوصاية في وسائل أخرى ليتعرف على  الحقيقة.

هاجس التقديس

لا يتعلق الأمر بالشخصيات الدينية حتى نقول إن هذا يحدث عن وازع ديني يخشى تشويه رموزه، بل مع الشخصيات التاريخية أيضاً، ففي مسلسل "العملاق" عن حياة عباس العقاد تكرّر ذلك، فهو الكاتب الذي لم يخطئ قط ولم يُهزم، وهذا مناف للحقيقة، فهناك كثير من المعارك خاضها العقاد، وخرج من بعضها منتصراً ومن بعضها مهزوماً، أما مسلسل "الأيام" لطه حسين فلن تجد فيه أي حديث عن معاركه الفكرية وأشهرها كتابه "في الشعر الجاهلي".

"تشويه" السردية العثمانية

"ممالك النار" ليس سوى حلقة في هذا الكتالوج، ولكن بمنظور مختلف يزيد الطين بلة، فشخصية "طومان باي" تم تجسيدها في أعمال من قبل مثل "على باب زويلة"، وليس هناك جديد في القصة، لكن المسلسل، من وجهة نظري، هو نوع من المكايدة السياسية لتركيا التي أنتجت "قيامة أرطغرل"، مشيدة بتأسيس الدولة العثمانية، ووقعت هي الأخرى في فخ "التلميع" وصورت القائد كـ"ملاك"، ليجيء الرد بإنتاج شركة إماراتية مسلسل عن آخر سلاطين المماليك، قبل الوقوع تحت الاحتلال العثماني، وبدا واضحاً من الحلقات الأولى أن "تشويه العثمانيين" ضرورة.

لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يصرون على صورة ملائكية لأي شخصية يجسدونها؟ يصفّونها من الشوائب ويخرجونها لنا في صورة "نبي"؟ أعتقد أن الإجابة تتلخص في أمرين: الوصاية والخوف من المعرفة. ليس هناك جهل بأي شخصية تم تقديمها حتى نقول إن ما يحدث لم يكن عمداً، فتلك الأعمال تخضع لرقابة وإجازة من عدة مؤسسات، على رأسها الأزهر ووزارة الثقافة، لكن أصحاب العمل الفني يخشون على المواطن أن يعرف أن صحابياً جليلاً كانت له شهوة للحكم، يخشون أن يعرف المواطن أن القائد العملاق الذي يدرسه في كتب التاريخ هو من ناحية أخرى دموي ويسفك الدماء، يخشون أن يعرف المشاهد أن هذا الكاتب الكبير لعق حذاء السلطة، يخشون أن يقولوا لنا إنه إنسان... فمن وجهة نظرهم هذا تشويه للشخصية، وإن كان الأمر كذلك فلماذا ينتجون عملاً فنياً أصلاً؟.. هكذا تكون الوصاية.

مع مسلسل ممالك النار سنضيف سبباً آخر، فيكفي أن يكون هناك "عداء" مع دولة بعينها، كي نستخرج شخصية ونضفي عليها صفة الملائكية، تماماً كما فعلت تركيا بنزعة شوفينية فأعادت إنتاج "مُحتل"، وجاء الرد بنفس الطريقة... وهو ما يجعلنا نسأل هل لو وقع خلاف بين ألمانيا وروسيا سنجد "قيامة هتلر" أو "إحياء ستالين"؟

الكارثي، أن كافة الأعمال الفنية التي تنتمي لهذا النوع اختارت منذ البداية تسليط الضوء على الجانب الإيجابي في الشخصية، والابتعاد عن المناطق "القلقة"، حتى لو كلفها ذلك تلفيق أكاذيب ونفي حقائق، المهم ألا تصاب صورة البطل الملهم بأي خدش

لماذا يصرون على صورة ملائكية لأي شخصية يجسدونها في الدراما؟ يصفّونها من الشوائب ويخرجونها لنا في صورة "نبي"؟ أعتقد أن الإجابة تتلخص في أمرين: الوصاية والخوف من المعرفة

الحقيقة لا تُخفى 

الحقيقة غير قابلة للحجب للأبد، يوماً ما سيفتش المشاهد الذي فرضت عليه الوصاية في وسائل أخرى ليتعرف على معلومات أخرى وأكثر حقيقية.

والأهم، سيأتي اليوم ويسأل المشاهد: وما الضرر أن يتم تجسيد شخصية تاريخية كما هي؟ بخطئها وصوابها، حسنها وقبحها، أنانيتها وعطائها... ما الضرر أن نقول للمشاهد: إن ما تراه هو إنسان من لحم ودم، يفرح ويحزن ويغضب ويركبه شيطانه ويُنجيه حلمه، أليس تلك صورة أكثر واقعية ستحميه من هاجس التقديس، وتعيد للإنسان قيمته؟

ورغم يقيني أن المشاهد الذي فرضت عليه الوصاية سيعرف يوماً، وأن جيلاً سيكتشف الحقيقة كما علمنا التاريخ، تظل خطورة تلك الأعمال الدرامية في إقامة جدار عازل حول عقل المواطن، يجعله يستغرق سنوات كي يكسره، والبعض يعيش حالة نكران بين ما تم تربيته عليه وبين الحقيقة... كما تظل تلك الأعمال بعيدة عن مفهوم الفن الذي يناقش الأمر من كافة جوانبه.

ما نشاهده هو أعمال "تفصيلية" أبوية، كل الغرض منها التأكيد أننا كنا عظماء، تماماً كما تفعل الجماعات الدينية، بلا إيلاء أهمية للحاضر، وأن الماضي والعودة للوراء أفضل من اليوم… لكن الحقيقة هي أننا سنكون أفضل عندما نوقف هاجس التقديس ونخطو قدماً نحو الأمام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image