"القانون ينصُّ على أنني لا يحق لي ميراث والدتي الراحلة، بسبب اختلاف العقيدة"، هكذا أخبرني المحامي خلال مكالمة هاتفية.
بعدما توفيت والدتي رفعتُ دعوى إعلام وراثة، كما ينصّ القانون المصري، وكنتُ أتوقع أن يكون أطراف الميراث هم أنا وأبي وأخواتها، ففوجئت يوماً بمكالمة من محاميّ يقول لي إنَّ القانون ينص على أنني وأبي لا نرث من والدتي، نظراً لأنها مسيحية ونحن مسلمون، جَمَدَت الكلمات فوق شفاهي لثوان، ثم سألته: "ما علاقة عقيدة كل فرد، بشيء مادي وقانوني كالميراث"، فأجابني: "أنا لا أعرف ما العلاقة، ولكن هكذا القانون".
بحثت عن هذا القانون الذي يفرِّق بيني وبين أمّي بعد وفاتها فقط لأننا نعتنق أديان مختلفة، فوجدت في المادة 587 من قانون الأحوال الشخصية المصري بخصوص موانع الإرث، ما يأتي نصاً: "اختلاف الأديان، فلا يرث الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر"، كما جاءت المادة السادسة من قوانين المواريث المصري رقم 77 لسنة 1943 تقول نصّاً: "لا توارث بين المسلم وغير المسلم".
جمعهما الحب وفرّقهما القانون
قفزت عشرات الأسئلة إلى ذهني فور معرفتي، كان أولها: كيف ينص الدستور على أن مصر دولة مدنية يتساوى فيها جميع مواطنيها باختلاف عقائدهم، ثم يفرِّق بينهم على أساس العقيدة أيضاً حتى وإن كانوا أفراد عائلة واحدة، ثم كيف يمكن منعي من استلام ميراثي من والدتي لأنها مؤمنة بدين مختلف عني، في حين أن القانون نفسه لم يمنع زواجها من أبي مسلم العقيدة؟ وقبل كل ذلك، كيف يمكن للمشرِّع المصري أن يفرّق في التعامل القانوني بين والدتي ووالدي، رغم أنها عاشا معا وتشاركا الحب والحياة لما يزيد عن 4 عقود من الزمن؟
أسئلة كثيرة دارت في ذهني، لم أجد لها إجابة منطقية بعد معرفتي بالقانون، فهل يعرف هذا القانون أن أبي وأمي ظلّا يحبان بعضهما البعض قبل زواجهما لـ13 عاماً كاملة، والآن ينص هذا القانون على منع أبي عن إرثها؟ لو لم أكن على وفاق مع عائلتي، فكيف كان يمكن حمايتي من ضياع ميراثي؟
كيف ينص الدستور على أن مصر دولة مدنية يتساوى فيها الجميع، ثم يفرِّق بينهم على أساس العقيدة أيضاً حتى وإن كانوا أفراد عائلة واحدة، ويمنعني من استلام ميراثي من والدتي؟
"كانت صدمة بالنسبة لنا، كيف لأمي ألا ترث من ثروة أبي التي صنعها خلال الرحلة التي كانت تسانده وتدعمه وتشاركه كل لحظات الإخفاق والنجاح فيها، لم يكن هذا منطقياً ولا إنسانياً"
أطنان من الأسئلة ظلت تثقل رأسي وتفكيري يوماً بعد يوم، حتى أتت طامة أكبر مما سبقتها، فاتصل بي محامي ليبلغني أن القاضي يريد أن يستمع لشهادتي في قضية إعلام الوراثة، فتعجبت لأنه ليس شرطاً، وكيف سيستمع لشهادة طرف لن يرث من الأساس، حضرت يوم الجلسة لأجد القاضي يوجه لي سؤالاً حول وفاة والدتي على الدين المسيحي وأنها لم تنطق الشهادة وتُسلم في آخر لحظات حياتها، اندهشت وعقد لساني لثوان معدودة، ثم رددت: "لا، لم تتحول للإسلام، ودفنت في مقابر المسيحيين، وأقيم لها قداس العزاء في الكنيسة التي ظلت تتردد عليها طوال حياتها، وحتى شهادة الوفاة مدرج بها الديانة مسيحية"، فأخبرني القاضي أنه في تلك الحالة لن أرث، ولكن لو أخبرته أنها تحولت للإسلام قبل وفاتها فسوف أرث، فأجبت بنفس الاجابات.
خرجت من قاعة المحكمة وأنا مصدومة من كل هذا العبث: هل لو لم أحترم تمسك والدتي بديانتها وأخبرته أنها أسلمت بالفعل، كنت سأتسلم ميراثي؟ فإما أن أشهد زوراً أو أحرم من ميراثي، بناء على القانون؟
"عانينا بسبب اختلاف الديانة"
لم أكن وحدي التي تعاني في تلك الدائرة العنصرية والطائفية، فروى شريف يوسف (36 عاماً)، مهندس مهاجر خارج مصر، لـرصيف22 أنَّ والده مسلم أحب زميلته في الجامعة "ايريني"، حباً فاق كل التصورات الروائية والخيالية، ظلت مشاعرهما غير معلنة، حتى أدركا أن حبهما أكبر من كل محاولات الإخفاء، بعد التخرج تزوجا، فكان محظوظاً بأن عائلة شريكته علمانية التوجهات، تؤمن بالحب والإنسان وتضعهما قبل أي اعتبارات طائفية، وظلا متحابين متشاركين في الضراء قبل السراء لثلاثة عقود، أنجبا فيها شريف وأخته، بعد وفاة الأب بدأت رحلة التصادم مع القانون، ذلك أن الأم التي ظلت تشارك أباهما حياته لا يحق لها الميراث.
ويتابع يوسف: "كانت صدمة بالنسبة لنا، كيف لأمي ألا ترث من ثروة أبي التي صنعها خلال الرحلة التي كانت تسانده وتدعمه وتشاركه كل لحظات الإخفاق والنجاح فيها، لم يكن هذا منطقياً ولا إنسانياً، ولا حتى يتوافق مع الشعارات الزائفة التي تروجها الدولة حول المساواة بين الأفراد دون النظر لمذاهبهم أو طوائفهم، ولكن لم يكن بيدنا شيئاً نفعله، بعد جلسة إعلام الوراثة بأسبوع، خرج الإقرار بالأطراف المستحقة للميراث وهم أنا وأختي فقط، وطبعا أنا ضعف مقدار ميراثها، فقط لأنني ذكر وهي أنثى".
"حرمان أمي من الميراث عبثي ومثير للاشمئزاز"
ويكمل المهندس شريف: "كان الأمر كله عبثياً ومثيراً للاشمئزاز، سواء في حرمان والدتي من الميراث أو في توريثي ضعف أختي، فلجأت لمحام صديق، اخترته ذا توجهات علمانية، حتى أرحم نفسي وعائلتي من أي مناقشات رجعية، وبدأت في توزيع إرث والدي من جديد بالتساوي بيننا، أنا وأمي وأختي، فرددت لوالدتي حقاً سلبته منها الدولة التي لازالت تنتمي للعصور الوسطى، ورددت لأختي حقها الطبيعي الذي حرمت منه بناء على تشريعات لا تساير الواقع ولا الظروف، لكن بعدها والدتي اقتطعت نصف ثروتها ووهبتها لنا عن طيب خاطر، نظراً لما قالته عن عدم حاجتها سوى لما يكفيها، وإننا قادرون على الحفاظ على تلك الأموال واستثمارها أكثر منها".
ينهي شريف حديثه لرصيف22: "في الحقيقة، أنا وأختي عانينا كثيراً طوال حياتنا، بسبب اختلاف ديانات الأب والأم، وكان يتم نبذنا والتعامل معنا على أننا أقل إيماناً وإسلاماً من أبناء الأم المسلمة، لذلك بعد كل ما دار في قضية الميراث واصطدامنا بالقوانين الآتية من عصور الظلام، قررنا الهجرة والخروج من مصر، وهو ما فعلناه بالفعل".
منظومة مدنية للقانون
من جانبه، علق محمد حافظ، المحامي بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، على تلك القضايا قائلاً: "يمكن وصف ذلك القسم من القانون بالمعيب، لأنه ليس منطقياً أبداً أن يتم حرمان الأبناء من وراثة آبائهم بحجة اختلاف الديانة، خاصة وأنه حتى الشريعة الإسلامية المستند اليها القانون، تنص على أنه لا يرث الذمي المسلم، وليس العكس، ولكن يبدو أن المشرع المصري أراد أن يستسهل فأغلق باب التوريث بين الطرفين نهائياً"، متابعاً: "القانون لا يتعارض مع مبادئ المساواة في الدستور، بل أن تلك المواد هي التي تتعارض مع المادة الثانية التي تنص في مجملها بأن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع".
يضيف حافظ لـرصيف22: "تأتي قضية المواريث بشكل عام وفي الزواج المختلط دينياً بشكل خاص، كأحد الأسباب القوية التي تدعم الأصوات المنادية بإلغاء المادة الثانية، فليس معقولاً أبداً أن يتم إجبار القضاء على الالتزام والأخذ بالآراء الفقهية التي خرجت منذ قرون مضت، ويتم فرضها على المواطنين حالياً من خلال القانون المصري"، مكملاً: "الأمر الذي يعيدنا لنفس المطلب وهو صياغة منظومة من القوانين المدنية الحديثة يساوى فيها بين المواطنين في الميراث إلى جانب ما تسنه الشريعة الاسلامية، وعندها يكون الاختيار الحر لكل مواطن للمنظومة التي يرغب في الخضوع والامتثال لها".
ويوضح المحامي في منظمة حرية الفكر والتعبير: "طبعاً من أهم ما يعيق تلك الحلول، هو كافة الأصوات التي ترهب المنادين بمنظومة مدنية للمواريث، ولكن تأتي العقوبات القانونية التي يحكم بها ضد كل من يمتنع عن تسليم المواريث والتي نصت عليها المادة 49 من القانون 77 لسنة 1943 المعدل بالقانون رقم 219 لسنة 2017، بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تتجاوز 100 ألف جنيه، لترد على كافة الأصوات، فالشريعة الاسلامية لا تحتوي على أي عقوبة دنيوية للتمنع عن تسليم الميراث، إذن فلماذا لجأنا للقوانين المدنية في هذا الشق، بينما يرفضها البعض فيما يخص المساواة في الميراث".
"قوانين المواريث تكشف الوجه الرجعي للدولة المصرية والمنظومة التشريعية "
يعتبر المحامي محمد حافظ، أن الدعوة لمنظومة مدنية لقوانين المواريث أولوية وليس رفاهية، فيقول: "الأمر ليس تافهاً وليس ثانوياً كما يدعي البعض، وإنما قضية المواريث تعد من أهم القضايا والملفات التي تكشف الوجه الرجعي للدولة المصرية والمنظومة التشريعية وتجعلنا مدركين تماماً، أنها ليس دولة مدنية الجوهر كما في المظهر"، متابعاً: "ليس منطقياً أبداً أن نجبر المواطنين المسيحيين على الامتثال لقوانين الشريعة الإسلامية في المواريث، وليس منطقياً كذلك أن نفرض عليهم أو على المسلمين الراغبين في توزيع الميراث بالتساوي أن يلجؤوا للطرق الطويلة من أجل تحقيق هدفهم".
ينهي حافظ حديثه لرصيف22 قائلاً: "الأمر ليس متعلقاً بميراث الأبناء والأزواج في الزواج المختلط دينياً فقط، وإنما هو يشكل عائقاً أمام المساواة بين كافة المواطنين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...