شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف غاب الخوف من قلوب المحتجين العراقيين؟

كيف غاب الخوف من قلوب المحتجين العراقيين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 نوفمبر 201906:22 م

عند كل خط مواجهة، الجسور سابقاً، وساحة الخلاني قرب ساحة التحرير في بغداد حالياً، حيث يكون المتظاهر بخطر التعرّض لإطلاق رصاص حي، أو قنبلة دخان تفلق رأسه، أو تخترق صدره، تجد بؤرة الاحتجاج وكثافة العدد.

لا أحد يبحث عن منطقة آمنة في ساحات التظاهر، ولا أحد ينتظر الهدوء والسكينة لقضاء ساعتين من الواجب الوطني قبل عودته إلى البيت، الجميع يلاحق الموت والخطر، يتحدى السلطة بالوقوف أمامها وإخبار جنودها: إن كنتم رجالاً لا تقتلونا، لكنهم يفشلون بالتحدي.

قبل أن تتغير تسمية مبنى المطعم التركي المقابل لساحة التحرير إلى "جبل أحد"، عرفنا أن المرابطين فيه لا يملكون الوقت لمغادرته، لذا عمل المتظاهرون من المواقع الأخرى على توصيل الطعام والشراب والسجائر إلى طوابق المبنى الأربعة عشر. كان جسر الجمهورية المؤدي إلى المنطقة الخضراء مسرحاً لمناوشات مستمرة على مدار الساعة، والمطعم التركي يستقبل قنابل الغاز والرصاص المطاطي باستمرار، لذا كان وقتها أحد أخطر خطوط التظاهرات في بغداد.

اصطحبت أحد الأصدقاء وتطوعنا بمهمة توصيل كمية من علب السجائر إلى المطعم، في الطريق كنا نفكر بكم الخطر الذاهبين إليه، لكن فور الوصول إلى سلالم المطعم فوجئنا بطابور عظيم ينظّمه فريق من المقيمين هناك لتنظيم حركة الصعود على السلالم الضيقة والزلقة والمظلمة، العشرات من المحتجين لم يطيقوا انتظار دورهم في الطابور، فاختاروا تسلق المبنى من الخارج بشكل غاية في الخطورة.

وبعد أن وصلنا إلى الطابق السابع، وجدنا الشبان يفترشون الأرض ويلعبون الدومينو والكونكان، سألنا إن كان المكان آمناً والأخبار عن استهدافه المستمر مغلوطة، فقالوا: لا! هي صحيحة، لكن الضجر يدفعنا لقتل الوقت بهذه الألعاب نظراً لغياب خدمة الإنترنت.

انخفض منسوب الخطر في جبل أحد وجسر الجمهورية، وانتقل إلى ساحة الخلاني ومعه طابور المتظاهرين. صباح الـ 14 من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، استغلت قوات مكافحة الشغب، والتي أطلق عليها المتظاهرون اسم "مكافحة الشعب"، نوم العديد من محتجي الخطوط الأمامية، وحاولت تحت غطاء قنابل دخانية كثيفة اقتحام ساحة التحرير من جهة ساحة الخلاني، لكن الصحوة لدى شباب الساحة والسواتر لا تتأخر، بدأت المواجهة بين الطرفين: المتظاهرون بالحجارة، والمكافحة بقنابل الدخان والرصاص الحي، سقط ثلاثة شهداء وأصيب العشرات، ونجح المتظاهرون بإعادة قوات الشغب إلى الموقع السابق بعد أن تقدمت في الصباح إلى نفق ساحة التحرير، تبع النجاح بصد هجوم قوات الشغب احتفالات وأهازيج رغم سقوط الشهداء والجرحى.

لا أحد يبحث عن منطقة آمنة في ساحات التظاهر، الجميع يلاحق الموت والخطر، يتحدى السلطة بالوقوف أمامها وإخبار جنودها: إن كنتم رجالاً لا تقتلونا، لكنهم يفشلون بالتحدي

كيف استطاعوا الوقوف بوجه الموت عزلاً؟ وأتذكر أنهم جيل شاهد ما لم تعرضه هوليود في أكثر أفلامها إثارة وحركة، شاهدوا القتال مع الأميركيين، والحرب الأهلية، وداعش، تآلفوا مع الموت بعد أن زار بيوتهم مراراً خلال الأعوام الماضية

نحو 400 شهيد و18 ألف مصاب، حصيلة لم تنجح حتى اللحظة من تقليل زخم الاحتجاج أو إعادة المحتجين إلى بيوتهم. مساء اليوم سيجتمع العراقيون قرب نصب التحرير لمتابعة مباراة كرة القدم بين المنتخب العراقي والمنتخب الإيراني، في المحافظات الأخرى نُصبت شاشات مماثلة في أماكن الاعتصام والتظاهر، البعض يفكر بجلب أكياس البوشار معه، وآخرون سارعوا لشراء قميص الفريق العراقي الرسمي، حياة طبيعية كاملة تماماً تجري في ساحة التحرير، دون أي اكتراث لآلة القتلة المستمرة.

أفكر بكلمة خوف، هذا المعنى الذي يسحب يدك تلقائياً إن مست صفيحاً ساخناً، المعنى المرتبط كثيراً بغريزة النجاة والبقاء والتشبث بالحياة بحلوها ومرها، أفكر كيف غاب أثر هذه الكلمة في قلوب المحتجين إلى هذه الدرجة، وكيف استطاعوا الوقوف بوجه الموت عزلاً؟ وأتذكر أنهم جيل شاهد ما لم تعرضه هوليود في أكثر أفلامها إثارة وحركة، شاهدوا القتال مع الأميركيين، والحرب الأهلية، وداعش، تآلفوا مع الموت بعد أن زار بيوتهم مراراً خلال الأعوام الماضية، تآلفوا معه لدرجة أن حضوره صار يمنح لحياتهم المعنى والإثارة، وغيابه يصيبهم بالملل.

في البصرة، تداول الناشطون مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، يُظهر شاباً يتذمّر من ساحة الاحتجاج البصرية قبل نحو 10 أيام أو أكثر، عندما ساد الهدوء هناك، كان الشاب البصري يفتقد الملاحقة وإطلاق النار وقنابل الغاز والقنابل الصوتية، ويهدد بالعودة إلى بيته إن لم تبدأ القوات بقمعه، ورغم الكوميديا الشديدة في هذا الطرح، إلا أن المفارقة العميقة وراء ذلك تطلق السؤال الأهم: لمَ يسترخص الشاب العراقي حياته وراحته وسلامته إلى هذه الدرجة؟ وأي نظام قاده ليكون بهذا القدر من العدمية؟

شاب آخر من بغداد، وهو مدون معروف يدعى علي سمير، يظهر في أحد مقاطع الفيديو مصاباً قرب جسر الجمهورية، وهو يصرخ بلهجة عراقية شبابية صِرفة: "ترِّس ترِّس ترِّس"، بمعنى هات المزيد من القنابل والرصاص… أي رجال تقاتل يا رئيس الوزراء؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard