شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما كشفت البوصلة

عندما كشفت البوصلة "انحراف" المسجد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 11 أكتوبر 201906:21 م
Read in English:

When I Told Them The Mosque Wasn’t Facing Mecca

التقى الأصدقاء الثلاثة وهم متجهون إلى مسجد الحيّ الذي يعتبر مقصدهم اليومي عند الفجر، قد يحصل اللقاء دون أي تحية، كما تلتقي الرياح وتندمج في حركتها، فعمر الصداقة الطويل يختصر الكثير من الكلام والسلام، لكن لا يخلو الأمر من بعض التهكّمات التعيسة على بعضهم البعض، هم يعلمون أن التعاسة هي الإطار الجامع لصداقتهم منذ فترة طويلة.

رغم أن أبو رافع في الأربعينيات إلا أنه يبدو أكبر بعشر سنوات، لأن أشعة الشمس حفرت تجاعيد عميقة في وجهه، بسبب عمله كبائع متجول، وأبو جهاد الذي فقد قدرته على المشي بسبب حادث حصل له في أحد مصانع المدينة، أما أبو جابر فهو كثير الكلام وكثير الشعر في رأسه وجسده مع تركيز كامل على رتابة شاربيه، فهو لا يخرج من منزله قبل أن يتأكد من وجود مشط الشارب في جيبه، لدرجة أنه أحياناً يتأخر عن الصلاة بسبب خلل ما في شاربيه يعمل على إصلاحه.

في طريقهم نحو المسجد يتناوبون على جرّ عربة أبو جهاد التي صنعها له حداد الحيّ، وعندما يستقيم الطريق يدفعها بنفسه أو حينما ينشغل الآخران عنه في الكلام، هو يعلم أنهم أحياناً يتلاعبون به ويتعمدون إسقاطه في الحفر بدافع الدعابة التي تسبب له ألماً في الظهر. كثيراً ما ينتهي طريقهم إلى المسجد ببعض الشتائم والتهكمات البائسة التي ضجروا من تكرارها، لأن أيامهم باتت نسخاً متطابقة.

بزغ الفجر والتقى الأصدقاء الثلاثة كما هي العادة في طريقهم نحو المسجد، وكانت سذاجة أبو رافع وخلطه بين الساعة والبوصلة حديث طريقهم

يخرج الثلاثة من المسجد وينتشرون لتقصي أرزاقهم، كل منهم يتجه إلى عمله أو ما نستطيع أن نسميه عمل، أبو رافع يسحب عربته المركونة في زاوية المسجد بعد أن ينشر الحلوى منزلية الصنع عليها، والتي عادة ما يأتي بها في كيس قماشي يضعه في عربة أبو جهاد، وأبو جابر يتجه إلى زاويته في الشارع المقابل للمسجد، لقد وجد رصيفاً نظيفاً يمدّ عليه بضاعته من الأحذية القديمة وبعض الثياب المستعملة بغرض بيعها، أما أبو جهاد فيبدأ عمله في الرصيف المقابل لأبو جابر، لقد استطاع أن يشتري آلة لصنع القهوة من التعويض الذي حصل عليه إثر حادثة المعمل.

عند الظهيرة وحينما كان أبو رافع يتجول بعربته رأى شيئاً يصدر لمعاناً على بعد مترين منه، اتجه إليه، انتشله ومسحه بقميصه ثم تفحصه، كانت على شكل ساعة لها عقرب واحد غريب، لكن لمعانها يدل على أنها غالباً من الفضة، لم يفكر كثيراً في ماهيتها، وضعها في جيبه وتابع دفع العربة.

قبل الغروب بقليل اتجه إلى زاوية الشارع حيث أبو جهاد وأبو جابر، جلس معهم وأخبرهم عن تحفته التي وجدها وكيف أن هذه الساعة الفضية بحاجة لبعض التصليحات قبل بيعها، قال ذلك وهو ينظر إليها ويقلبها بين يديه، ضحك أبو جابر عليه واستهزأ بما سمع منه ومدّ يده ثم أخذ الساعة وهو يقول له: "هل من المعقول يا رجل، ألا تعرف الفرق بين البوصلة والساعة، ما بك هل خرفت؟". أكّد أبو جهاد كلام صديقه: "هذه بوصلة وليست ساعة يا أبو رافع، كما أنها ليست معطلة، انظر، إنها تشير دائماً الى اتجاه الشمال"، أعاد ابو رافع بسرعة التفكير في كلام صديقيه ووجده صحيحاً هذه بوصلة تحدد الاتجاهات، هي صالحة وليست ساعة معطلة، عمّ الضحك على سذاجة أبو رافع لفترة قاطعها مرور سيارة رئيس البلدية في الحيّ، توقفت قليلاً، فُتحت نافذتها دون أيّ صوت أو حركة، غير صوت الأصدقاء وحركة أياديهم الملوحة لرئيس البلدية، ثم تابعت السيارة طريقها.

بزغ الفجر والتقى الأصدقاء الثلاثة كما هي العادة في طريقهم نحو المسجد، وكانت سذاجة أبو رافع وخلطه بين الساعة والبوصلة حديث طريقهم.

في داخل المسجد وبحركة عفوية من أبو رافع أخرج البوصلة ووضعها أمامه ليلاحظ أن اتجاه المسجد محروف عن اتجاه القبلة! تفاجئ ثم حاول مجدداً في زوايا مختلفة من المكان، إلا أن النتيجة لم تختلف، فهرول مسرعاً باتجاه أبو جهاد يخبره ويهمس له عمّا اكتشف من الخطأ في الاتجاه، ثم تقدما في خفة إلى أبو جابر وهمسا له أن اتجاه المسجد بحاجة للتعديل، هنالك خطأ اكتشفناه من خلال البوصلة، بات واضحاً للحاضرين أن هؤلاء الثلاثة يتمتمون بكلمات وحركات سريعة، في حينها دخل الإمام، فأخذ أبو رافع البوصلة إليه وصارحه بما اكتشف مع صديقيه.

تحدث أبو رافع بجرأة: "يا مولانا إن اتجاه المسجد غير صحيح، يجب أن ينحرف قليلاً إلى اليسار حتى نستقبل القبلة".

تجلّت قسمات الاستغراب على الشيخ الطاعن في السن، إمام مسجد الحيّ، وسأل بصوت متقطع: "كيف يكون خاطئاً، هذا المسجد عمره عشرات السنين وجميع من عاصره من سكان الحيّ لم يتطرق لمثل هذا الكلام؟"

قال أبو رافع: "اتجاه المسجد غير صحيح، يجب أن ينحرف قليلاً إلى اليسار حتى نستقبل القبلة". تجلّت قسمات الاستغراب على إمام مسجد الحيّ، وسأل بصوت متقطع: "كيف يكون خاطئاً، هذا المسجد عمره عشرات السنين وجميع من عاصره من سكان الحيّ لم يتطرق لمثل هذا الكلام؟".

فتح هذا الكلام المجال أمام آخرين ليشاركوا في رأيهم ولكن المسألة تعقدت فيما بعد، حين أشار البعض الى سخافة هؤلاء الثلاثة، بينما عارضهم آخرون بشدة، واتهموهم بخيانة الثقة بالأجداد، وبعضهم لم يكن يعلم ما هي البوصلة.

دفع أبو جابر عربة أبو جهاد إلى حيث الإمام تضامناً مع أبو رافع الذي قال: أنت ذكرت يا مولانا أن المسجد بني منذ فترة طويلة وربما بطريقة بدائية لذلك ليس من الغريب أن يكون هناك خطأ في الاتجاهات.

لم يعرف الشيخ بماذا يجيب غير تعابير الاستفهام التي لفتت نظر باقي الحاضرين وتجمعوا حول الأصدقاء، وحينها تابع أبو رافع: "ثم يا مولانا نحن لا نبتدع ذلك انظر لهذه البوصلة هي لا تجامل أحد، هي تحدد الاتجاهات فقط".

أبو جابر: "علينا تعديل اتجاه المسجد بالاعتماد على الاتجاهات التي تحددها البوصلة وأقترح أن يتم الأمر بسرية".

لاحظ الإمام تعابير الريبة والاستغراب التي علت وجوه الحاضرين، ولم يعرف كيف يتدارك هذا الموقف إلا بنفيه.

أيها الأخوة ولماذا لا تكون البوصلة معطلة واتجاهاتنا صحيحة؟

بصوت واحد خرج من الثلاثة بطريقة عشوائية:

|لا يا مولانا لقد قارناها باتجاه الغروب يوم أمس وهي صالحة".

فتح هذا الكلام المجال أمام آخرين ليشاركوا في رأيهم ولكن المسألة تعقدت فيما بعد، حين أشار البعض الى سخافة هؤلاء الثلاثة، بينما عارضهم آخرون بشدة، واتهموهم بخيانة الثقة بالأجداد من سكان الحيّ الأوائل، ووافق على كلامهم بعض الناعسين، وبعضهم لم يكن يعلم ماهي البوصلة ولماذا سببت هذه المشكلة، وآخرون اتهموا ابو رافع ورفاقه بالدجل وزرع بذور الشك، وارتفعت الأصوات بين منكر ومدافع ومتهم ومشكك، حتى عمّ الهدوء عندما اعتلى الإمام المنبر ودعاهم جميعاً إلى الصلاة.

في تلك الأثناء كانت ضابطة البلدية تتجول في أنحاء الحيّ، فقامت باحتجاز عربة بيع أبو رافع من خلف المسجد، وبضاعة أبو جابر المركونة في أكياس مربوطة بالعمود على الرصيف، وآلة القهوة الخاصة بأبو جابر، جمعت كمية كبيرة من البضائع والعربات التي تشغل الأرصفة والزوايا في شوارع البلدة، وأطلقت إعلاناً يطالب أصحابها بمراجعة البلدية لدفع قيمة المخالفات واسترداد بضاعتهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image