التقيت في القطار فتاة جميلة جدا. جدا جميلة. على الأقل حسَب ذوقي الخاص. لم تعرني أيَّ اهتمام. لكنني منحتها كل قطرة اهتمام كانت في متناولي. هل شرط أن نردّ على التجاهل بالتجاهل؟
ليس من عادتي أن أتمنى لو كنتُ غيري. وفي تلك اللحظة تمنيت لو كنت أخاها أو جارَها أو صديقها، أو أيَّ إنسان يتاح له أن يراها كل يوم.
أجزم أن رؤيتها تجعل الأيام سعيدة. والدليل أنني بمجرد أن لمحتها حتى نسيت كل متاعبي.
كنت ذاهبا على مضض للإشراف على فضاء «صدى الأقلام» في المسرح الوطني الجزائري. أقول على مضض لأنني كنت مثقوبا بتصحيح مخطوط كتاب جديد لي، وأنا لا أحب العمل المقطوع.
أنا طيب عموما، أعرف نفسي، لكن منسوب طيبتي زاد حين رأيتها.
أنا طموح عموما، أعرف نفسي، لكن منسوب طموحي زاد وأنا أتقرّب إلى نفسي بالنظر إليها.
أنا مؤمن عموما، أعرف ربي، لكن منسوب إيماني به وبقدرته على الخلق زاد وأنا أتأملها من أعلى الرأس إلى الأرضية المحظوظة بقدميها الصغيرتين.
سألني أستاذ الإنجليزية ونحن ندرس الفصول: ما هو فصلك المفضل؟ فقلت له: الصيف. سألني عن السبب، فخجلت من القول له إنه فصل يجعل النساء يكشفن عن أرجلهن، وأنا من النوع الذي يملك الاستعداد لأن يتخلى عن طعام الأسبوع مقابل أن يرى رجلين جميلتين. وقد كانت رجلاها كما أشتهي تماما.
قلت: أشتهي؟ هل كانت الشهوة هي خلفية كل ذلك الاهتمام؟ لا أستطيع أن أنفي ذلك. فأنا لا أعي حالتي بالضبط، لكنني أستطيع أن أقول إنني ندمت وأنا أتأملها على كل الأفعال القبيحة التي اقترفتها في حياتي. أعرف نفسي.. وأعرف أفعالها قبيحَها ومليحَها.
هل قلت إنني كنت أنظر إليها؟ علي أن أجتهد فأجد فعلا مناسبا، لأنني لم أكن أستعمل عينيّ فقط، الفعل نظر يحيل على العين فقط، أما أنا فقد استعملت جوارحي كلها. أعترف بكون معظم اجتهاداتي في اللغة كان بتحريض من امرأة.
وقد كنت خائفا من أن أسبّب لها حرجا فتحلَّ عليَّ لعنات السّماء.
إنني أدرك تماما أية لعنة تلحق بمن يحرج هذا الصنف من المخلوقات. ماذا لو حلّت علي مصيبة، وأنا رب أسرة لا تملك معيلا سواي؟
هناك حضرت في ذهني بناتي. فسألت نفسي بصراحتي المعهودة مع نفسي: هل تتمنى لو كانت أمَهنّ يا رزيق؟ هل أكذب؟ لست ملزما بالكذب، لكنني لست مستعدا أيضا لأن أذهب ضحية للصدق المبالغ فيه.
كدت أطير فرحا حين رنّ هاتفها. إنها فرصة ذهبية لأن أسمع صوتها. صوت المرأة مثل رجليها يجعلها قادرة على أن تفعل بي ما تشاء إذا حدث الإعجابُ. كان قلبي يهتز كلما فتح البابُ.
لا أعرف أين تنزل بالضبط. لذلك فقد كنت أدعو الله أن يسترني من نزولها. وفعلا فقد مارس معي نعمة الستر في خمس محطات. أما في السادسة فقد أحسست أنه يقول لي: اتبعها وسأسترك.
ليست محطتي حيث ينتظرني من ينتظرني في المسرح الوطني. وهي محطتي في الوقت عينه (استعملت التوكيد اللفظي «عينه» لا نفسه أو ذاته لأن عيني كانت أكثر حواسي استعمالا) حيث تنزل هذه الجميلة باعثة الروح في روحي.
لماذا لا أتبعها؟ قد أعرف عمارتها فأبحث لي عن شقة فيها للكراء. أنا كاري.. كاري، فلماذا لا أكتري بيتا حيث تقيم؟ على الأقل أضمن أن روحي لا تستقيل من التحليق.
ليس من عادتي أن ألعن الآخرين، حتى أولئك الذين يسيئون إلي. وفي تلك مارست شهوة أن ألعن كل من حال بيني وبينها وأنا أتبعها.
كم إنسانا تمنيت له الشلل؟ كم سيارة تمنيت لها الحرق؟ كم جدارا تمنيت له الهدم؟ فماذا لو حالت هي نفسها بيني وبينها بأن تختفي في مكان لا أملك أن أتبعها إليه؟ هل سألعنها؟ كيف أجرؤ على أن أفكّر مجرّدَ التفكير في ذلك؟ زريق مالك؟
دخلتْ محلا لبيع التبغ والعطور. هل تحتاج مثيلاتها إلى العطر؟ لقد طرحت هذا السؤال من قلبي ولم يكن مجردَ سؤال مفتعل.
لن أكذب فأقولَ إنني تمنيت في تلك اللحظة أن لو كنتُ زجاجة العطر التي ستحظى باختيارها. لكنني لن أخفي حلمي حينها بأن لو كنت صاحبَ المحل اصلا، كنت سأحظى بتحيّتها.. بسماع صوتها.. بلمس يدها ولو تقريبا وأنا أقدّم لها زجاجات العطر لتجرّبها، بالنظر في عينيها السماويتين عن قرب لأحلق بعيدا، باغتنام الفرصة لمعرفة بعض رغباتها، فقد يكون ذلك مدخلا لمعرفة اسمها ورقم هاتفها. لكنها ما أن دخلتْ حتى خرجتْ، ولا مجال لدي لأفعل مثلها وقد دخلتُ بعدها. هل أستدير؟
ارتبكتُ وقد سألني صاحب المحلّ عن حاجتي. تراجعت عن حلمي بأن لو كنته، فقلت: أعطني شكارة شمة وماصّة. (تبغ جزائريّ مطحون يوضع في ورقة شفيفة تحت الشفة).
كنت أبدو مستعجلا فعلا. ويدي تمتد إلى التبغ الملعون دخلتْ من جديد. هزتني كهرباء الخجل. لعنتُ نفسي بعدد المرات التي تناولته فيها. هممت بأن ألعن أبي الذي علمني هذه العادة، لكنني تراجعت في آخر لحظة.
كدت أقول لها: أنت جميلة فعلا. فعلا جميلة. لكنني لست مستعدا لأن ألعن أبي من أجلك. لن يكون جديراً بكِ من يلعن أباه.
سقط كيس التبغ الملعون على الأرض. هل أقول إن قلبي سقط كذلك وأنا أراها تنحني فتلتقطه؟
كدت أقول لها: ألا تعارضين مثل النساء الأخريات أنني أتعاطى هذا الشيئ؟ ثمّة حساسية للنساء الجزائريات من رائحة هذا التبغ.
قالت وهي تردّ خصلة تشاكس خدّها: الراجل اللي ما يستعملش ها التّبغ راجل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...