نصف ساعة انتظار، خمسون ليرة، تذكرة مصنوعة من ورقٍ رخيصٍ، والكثير من الاحتكاك هو ما ينتظرك في باص النقل الداخلي في هذه المدينة، نصف ساعة الانتظار لا تضيع هباءً، خاصّة إذا كان عدد المنتظرين كبيراً، تراهم يتنقّلون من جهةٍ إلى أخرى ينظرون في وجوه بعضهم، ثم يسترقون نظرةً خاطفةً إلى الأجساد، ليقلّبونها في رؤوسهم صامتين، عندها يبدأ التخطيط للهجوم: الوقفة الذكورية والعبوس المصاحب لها عند كل التقاءٍ للعيون، جهة الوقوف حين يأتي الباص، زاوية الانحناء، نظرة البراءة أو الانشغال بأشياء تمرّ الآن في البال عند أول احتكاك، الشرود التام والبعد عن العالم المادي والتأمل في الحال الذي وصلت له البلاد، أو البحث في أسباب الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم، أو حتى التمحيص في أسباب الخروج المذلّ للمنتخب الوطني في نهائيات كأس آسيا، كل هذه القضايا المصيرية قد تخطر على باله حين يحتكّ الجسد بالجسد، ولن يفكّر أبداً بالانتفاخ الفاضح بين فخذيه، طالما تستره مؤخرةٌ ما بسبب الزحام الوقح، القضية حين تكون الفريسة أقصر من اللازم، سترى الآن انحناء الركب وتقلّص عضلات الوجه والعضّ على الشفة السفلى في سبيل الوصول إلى الهدف، يمكننا تخيّل المشهد ببساطة ويمكننا تخيّل نظرة الضبع حين يصل إلى فريسته... وشمّ لعابه أيضاً، كما يمكننا التنبؤ بنظرات الغيرة والحسد من الضباع الأخرى التي، ولعدم قدرتها على الحصول على فريسة، تتظاهر بالشبع.
بدأ استخدام مصطلح (التحرّش الجنسي) عام 1973 عن طريق ماري رو الرئيس والمستشار لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، عُرّف حينها بأنه التعامل الودي غير المنطقي أو المرغوب، مثل تعمّد الاحتكاك بالشخص أو احتضانه، وقيل عن أسبابه بأنها تشمل الكبت وغياب التقاليد والقيم الدينية والإدمان على الكحول والمخدرات والتعنيف الأسري في الصغر ونقص التعليم.
وقُسّم المتحرّشون إلى نوعين، الأول متحرّش خفي يزرع صورة محترمة أمام الناس، ولكن عندما يكون وحيداً أمام الضحية يتغير سلوكه، والثاني متحرّش عام يكون فاضحاً في أفعاله الجنسية ضد زملائه في العمل وتلاميذه...إلخ.
كما عُرّف المتحرّش بأنه شخصٌ غير سوي على المستوى الذهني، وأن كل شخص في المجتمع لديه هذه الشخصية في داخله لسبب أو لآخر.
بالعودة للأسباب نرى أنها غير كافية باعتبار أن هذه الظاهرة منتشرة أيضاً في المجتمعات المنفتحة، فرنسا مثلاً، حيث تؤكد دراسة فرنسية أن 100% من النساء اللواتي يركبن وسائل النقل الداخلي قد تعرّضن للتحرش بطريقة أو بأخرى، إضافة إلى أن التجربة والبرهان والفضائح أثبتت أن أعلى نسبة تحرّش بالأطفال كانت من قبل رجال الدين على اختلاف دياناتهم، أمّا الإدمان على الكحول والمخدرات فأجده سبباً ضعيفاً لكثرة القيود والضوابط –ولو كانت ظاهرياً- على هذا الموضوع، خاصّة إن كان يمارس أمام العلن، وقضية نقص التعليم أو التعنيف الأسري كانت ومازالت سبباً للانكسار أكثر منه محرّضاً على الجريمة.
صاحب الأسنان الناصعة
يرتدي ربطة عنق ويدخّن سيجاراً فاخراً ويداه أنثويتان، لا أدري من قال أنّ أصحاب الوجوه البريئة هم الأقدر على ارتكاب الجرائم، لكنّ هذه العبارة تتطابق تماماً مع النوع الأول من المتحرّشين، كما أنها تتفق مع القسم الثاني من تعريف المتحرّش: "كل شخصٍ في المجتمع لديه هذه الشخصية لسببٍ أو لآخر"، هنا يكمن السبب وليس في الأسباب التي عددتها منظمة حقوق الإنسان، الشخصية التي نُظهرها لسبب أو لآخر أو نخفيها لسبب أو لآخر، في مكانٍ آخر قُلتُ أنّ الشياطين ملائكةٌ غابت عنها عين الرقيب، غياب الرقابة هو ما يفضح المحفوظ بعناية أم والمخبّأ بدهاء قرصان والمنسيّ ببراءة طفل، أن تشعر بأن لا أحد موجود، وتتأكّد من ذلك، هو ما يدفعك لحكّ المصباح وإخراج المارد النائم.
حين يصل الباص بعد طول انتظار ستكون العيون معلّقةً على الباب فهو كوّة النجاة الطبيعية، أنت وحيدٌ الآن والكل مشغولٌ عن فريستك المنتقاة بعناية، أنت وزملاؤك الضباع طبعاً، كلٌ يصوّب باتجاه فريسته ويختار لحظة الانقضاض، لا فرق بين متعلّمٍ وجاهلٍ هنا، بين مثقفٍ وقليل معرفة، بين مهندسٍ أو طبيبٍ أو محامٍ وبين عتّال، طالما توحّدهم رعشاتٌ خفيفةٌ وإغماض عينين يرافقه ابتسامةٌ ونظرة ذهولٍ ممّن تقف لا حول ولا قوة في انتظار فرج الوصول، المبكي في الأمر هو تناوب الجلادين على نفس الضحية، إمّا بسبب ووصولهم إلى وجهاتهم أو بسبب انقضاء شهواتهم، فترى الواحد منهم يتملّص من الالتصاق بطريقةٍ يبدو من خلالها أنه تدرب عليها كثيراً ولو بينه وبين نفسه، ينسلّ بخفّةٍ وسرعةٍ وثقة، ليحلّ مكانه زميلٌ آخر، راكبٌ جديد، أو قنّاصٌ كان يتحيّن فرصته منذ زمن، وربما أفقَدَه أمله بالنشوة المجانية فرصة عملٍ كان يجب أن يتوقف ليحصل عليه في موقفٍ سابقٍ، فبادل متعةً مادية بمتعةٍ ماديّةٍ أخرى، وأقنع نفسه بأن الرزق على رب العباد.
أنت مكشوفٌ حتى حين تدير ظهرك وتغمض عينيك وتكتم نفسك، مفضوحٌ وأنت تطلق زفرتك الأخيرة، منحطٌ حين تنزل من الباص وتعود أخلاقياً ومحترماً وسيّد مجتمع، أنت عارٍ في عيونٍ تدمع الآن وأنت تخترق أمانها، مكشوفٌ مفضوحٌ ومنحطٌّ وعارٍ، وقحٌ تماماً، هذا ما أخرَجه أمانك يا زميلي.
قُسّم المتحرّشون إلى نوعين، الأول متحرّش خفي يزرع صورة محترمة أمام الناس، ولكن عندما يكون وحيداً أمام الضحية يتغير سلوكه، والثاني متحرّش عام يكون فاضحاً في أفعاله الجنسية ضد زملائه في العمل وتلاميذه...إلخ.
أنت مكشوفٌ حتى حين تدير ظهرك وتغمض عينيك وتكتم نفسك، مفضوحٌ وأنت تطلق زفرتك الأخيرة، منحطٌ حين تنزل من الباص وتعود أخلاقياً ومحترماً وسيّد مجتمع، أنت عارٍ في عيونٍ تدمع الآن وأنت تخترق أمانها، مكشوفٌ مفضوحٌ ومنحطٌّ وعارٍ
أمير الأماكن المغلقة
الآمر الناهي، صاحب الكلمة الفصل، له يعود القرار ومنه يبدأ التنفيذ، النوع الثاني، الفاجر، الخسيس، الخائن، سيّد الانتهاكات، كُتب فيه تسعٌ وتسعون نعتاً وحين انتهوا قالوا: "يحتمل أكثر"، المدراء، المسؤولون المباشرون، الأساتذة، من يعملون كوصلة بين طرفين، أصحاب الدكاكين الذين يبيعون بالدين، وكلاء أسطوانات الغاز، وكلّ من يملك ترف أن يُقرّر.
ليس أن تكون وحيداً وآمناً فقط، ليس أن تكون صاحب سلطةٍ فقط، أنت وحيدٌ وآمنٌ وصاحب سلطة، ماذا ننتظر منك الآن؟
الجميع شاهد الفيديو للفتاة التي وقفت عارية في أحد المولات وعلّقت لافتة مكتوبٌ عليها بأنها لن تقوم بأي ردّ فعل تجاه أي عمل يقوم به الآخر تجاهها، في أول ساعة كان الجميع ينظر إلها ويبتسم أو يضحك أو يلقي النكات حتى، بعد ذلك تطوّر السلوك ليشمل لمس الفتاة في وجهها ثم صدرها ثم فرجها، بعد ساعاتٍ قليلة أخذ الموضوع منحى أكثر جدّية فقاموا بضربها بقسوة وهم يطلقون صرخات وضحكات صاخبة، الغريب في الأمر أنّ الأشخاص الذين كانوا يبتسمون أول الأمر هم نفسهم من غيّروا سلوكهم تباعاً، حين تأكّدوا أنّهم أصحاب القرار ولا من عقابٍ لاحق.
يدخل الأستاذ غرفة الطالبة، التي ستقع في سحر عينيه مهما كان أحولاً، ولأنه صاحب السلطة الآن، ولأنه آمنٌ ومحصّن، لا يخجل من إظهار عريه وكأنه بَرَكةٌ من بركات الله وعلى الطالبات أن يمتثلن صاغرات، الويل لمن تُجاهر بالذي حدث فهي تقامر بعنوسةٍ ليس لها رادٌّ ولا شفيع، من سيخوض تجربة الزواج من فتاةٍ معبوثٍ بها من قِبل أستاذ يزيدها عشرين سنة على أقل تقدير، من يصدّق فتاة في موقف كهذا؟ لا يقتصر الأمر على طالبات المدارس، حدثت هكذا مواقف مع طالباتٍ جامعياتٍ من قبل أساتذةٍ يمكنك أن تحلف أغلظ الأيمان بأنّهم لم يقربوا إلا زوجاتهم.
يمكننا إسقاط هذه الموقف على مدراء ومسؤولين مباشرين في العمل وأصحاب دكاكين منتشرة في الأحياء الفقيرة، والذين يعملون كواسطةٍ بين طرفين، لا مجال لكبح الخيال الآن دعه ينطلق واترك الذاكرة تساعده في إتمام واجبه.
هناك حكمة إفريقية تقول: "إلى أن يتعلّم الأسد الكتابة ستبقى كلّ القصص تمجّد الصياد".
للأسف، كل هذا الكلام كُتب في وصف الصياد، الصياد فقط... لا غير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون