عندما تخطو أقدامكم في قرى أو أحياء تحتضن مساجدها أضرحة أشخاص ماتوا، يقدسهم الناس، ويحفظون سيرتهم، ويتبركون بهم، فإنكم تودعون عالماً، وتدخلون في عالم آخر، له واقعه أو خياله الخاص، ومنطقه أو جنونه الخاص.
تل بني تميم، أو كما يطلقون عليها "قرية المائة ضريح"، إحدى قرى "شبين القناطر"، والتابعة لمحافظة القليوبية في مصر، عدد سكانها يتجاوز 12 ألفاً، ويغلب عليها الطابع الريفي، كثير من كبار السن ومتوسطي العمر يلبسون الجلباب الواسع، على محيَّا الناس الهدوء والسكينة، تجولت في شوارعها المتربة، الضيقة، لاحظت أن وجوه الناس فيها هدوء، وانشراح على النقيض من الوجوه التي أراها في العاصمة، القاهرة. اشتريت قارورة ماء، الجميع يعرف هنا أنك غريبة.
رحبوا بي واستضافوني حتى الغروب، ثم توجهت بصحبتهم لزيارة مقامات الأولياء.
عشرات المقامات في قرية واحدة، جميعها مطلي باللون الأخضر يحمل معنى الزهد والتصوف، وبداخل كل ضريح مقام لصاحب الضريح، مغطى بعمامةٍ خضراء، مصنوعة من الحرير، وبه إضاءة خافتة، وتغلب رائحة المسك على المكان.
شعرت بطاقةٍ إيجابيةٍ، هل هذه هي بداية "بركة" الروحانية التي يتحدث عنها الصوفيون؟
شعرت بطاقةٍ إيجابيةٍ عالية، هل هذه هي بداية "بركة" الروحانية التي يتحدث عنها الصوفيون والدراويش؟
تشكل "بركات" الأضرحة، ومساجد الأولياء هاجساً واعتقاداً راسخاً لدى كثير من الصوفيين في مصر، إيماناً منهم بالمنح الربانية التي يفوز بها كل زائر، ويصل عدد الأضرحة بالآلاف، ولا توجد إحصائيات رسمية حديثة، وتنشر تقارير صحفية أنها 6 آلاف ضريح.
حكاية تميم والتلّ
التقيتُ برجل في العقد السادس من عمره، عرفني على نفسه باسم أحمد صبحي الصعيدي، محامي من أهل القرية، تحدث بحماس عن قريته: "تعود تسميتها للعصر الإسلامي نسبة لتميم الداري الأنصاري، وهو من أوائل من بنوا مسجداً في الإسلام، وجاء إلى مصر وتحديداً إلى تل بني تميم، مع عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية، وقطن آل تميم القرية، وتعايشوا مع أهلها، وانخرطوا في المحيط الاجتماعي، وانصهروا مع الأهالي، وقاموا بتعليمهم القرآن وأحكام الدين، وأرفقوا كلمة تل لبني تميم لارتفاع مستوى القرية عما يجاورها من القرى المحيطة، وهي على نفس المستوى حتى الآن".
حكاية المائة ضريح
يشدد الصعيدي على أن قرية تل بني تميم تحتوي أكثر من مائة ضريح، العشرات منها ماتزال حتى الآن بحالتها السليمة، منها مقام سيدي دياب ومقام سيدي الأربعين، ومدفون فيه 40 صحابياً من أصحاب الرسول، ومقام سيدي دياب، ومقام سيدي علي المليجي، ومقام سيدي تميم.
ويتفق سعيد عمارة (61 عاماً)، ويعمل مستشاراً لنادي الخليج للسيارات بمطار القاهرة، وعضو مجلس محلي، مع الصعيدي في أصل تسمية قرية تل بني تميم بهذا الاسم، فترجع إلى عهد تميم الداري الأنصاري نسبة إلى عهد الرسول، وترجع أصولها لقبيلة بني تميم، وهي من أكبر القبائل العربية، وهي أكبر القبائل في الدول العربية، ويمتازون بالجاه والسلطان والقوة، بحسب سعيد.
ويعتقد سعيد أن قبيلة تميم اليوم منتشرة في عدة دول عربية، ومنها الجزيرة العربية والعراق والأردن وتونس والأردن والمغرب والجزائر.
أشياء كثيرة يحكيها الصوفيون في قرية "المائة ضريح" لا يصدقها عقل، يرى أحدهم شخصيات أسطورية مثل "الخضر"، ويتحدث معه، يحلم آخر بأشياء كثيرة تحدث، وفي العبادات تتجلى الحضرة الباطنية
"القلب يرى الأساطير والخوارق"
زيارة الأضرحة وحب الصحابة وآل البيت، ظل الشكل الديني السائد في مصر لعقود طويلة، حتى بداية سفر كثير من المصريين إلى دول الخليج، خاصة السعودية منذ السبعينيات، التي تبنت الشكل الوهابي المتشدد، الذي يصم تلك الأشكال من التعبد بالكفر والوثنية.
يقول الصعيدي أن تهافت الأهالي على زيارة الأضرحة يعود لقناعتهم الشخصية، وحبهم لأولياء الله الصالحين وحبهم لآل بيت رسول الله، فهم يقبلون على زيارة الأولياء والانتفاع ببركاتهم، في هذه القرية، وما حولها من القرى والمحافظات المجاورة.
يشدد الصعيدي على أنَّ زيارة الأضرحة لا تعني الشرك بالله، كما يعتقد "الوهابيون"، يقول: "الدعوة واللجوء للمولى عزوجل في أي مكان، ولاسيما إذا كان المكان طاهراً كمسجد به ضريح أو لا، فلا فرق بينها، فالدعاء والتوحيد لله وحده في كل مكان، فروحانيات الأولياء لا يعلم عنها الكثيرون إلا من ذاق".
أشياء كثيرة يحكيها الصوفيون في قرية "المائة ضريح" لا يصدقها عقل، يرى أحدهم شخصيات أسطورية مثل "الخضر"، ويتحدث معه، يحلم آخر بأشياء كثيرة تحدث، وفي العبادات تتجلى الحضرة الباطنية، التي يقال إن القلب يشعر بالكثير، والعين ترى الكثير، ولكنه شيء خارق وأسطوري لا يعرفه إلا من ذاقه، ويطلقون عليها "الحضرة الباطنية".
لا مكان للعقل هنا، إذا نجا شخص من الفاقة سيذكر لك بركة الولي، ويحكي لك آخر حكايات غرائبية رآها، وأحلام النوم تحدث في النهار، وكأنكم تعيشون في رواية من روايات الواقعية السحرية
يقول الصعيدي معرفاً الحضرة الباطنية بأنها مصطلح صوفي يطلق على "مجالس الذكر"، فيؤديها المسلمون المنتمون للطرق الصوفية، لاسيما السنية، وسميت بذلك لأنها سبب لحضور القلب مع الله.
يؤمن الصعيدي بالفكر الصوفي والتصوف عن تجربة شخصية منه، ولكن يتعمد ألا يذكر ذلك جهراً فيفسره البعض بالجنون، ولكن ما يعتقده الصعيدي أنها روحانيات يمنحها الله لعباده الذين اختصَّهم.
استطرد الصعيدي في حديثه لرصيف22، مؤكداً على بركات الأولياء الصالحين، مستدلاً بتجربته الشخصية، فكانوا عوناً له في فكِّ كربه وتفريج همومه، فيجزم أنه أثناء الحضرة الباطنية الروحية يشعر بوجود آل البيت حوله بالمكان، فتنفرج الهموم والكرب وينشرح الصدر، يقول: "لا يعلم كثيراً عن بركات الحضرة إلا من أنعم المولى عز وجل عليه بلذتها، وإن الأفضل عدم التحدث في ذلك الأمر، لأن الكثيرين يصفونه بالجنون".
طقوس دينية ترفيهية
يتذكر عمارة مظاهر حفلات الذكر والموالد في طفولته، يقول أنها كانت طقوساً دينية وترفيهية، تقام على الدوام بالقرية، وكان الأهالي يقومون بجمع الأموال، ويحضرون المنشدين، ومن أشهرهم العربي فرحان البلبيسي، فكان الأهالي يتهافتون على سماعه والترديد خلفه.
يتابع عمارة حديثه مشيراً للدور البارز للقصصي آنذاك، كان يخاطب عقولهم، ويداعب قلوبهم بحكاياته الجذابة، ويأخذون العظة منها، غالباً ما تكون قصصاً اجتماعية منبعثة من الواقع الحياتي والاجتماعي للأهالي، فكان يقوم بعرض المشكلة بأسلوب قصصي متميز، وينشرون من خلالها القيم والأخلاق، كغرس قيمة الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، ونبذ العنف والظلم.
يضيف عمارة: "كانت القصص في الموالد منصة إعلامية توصل الرسالة المنشودة ببساطة، ويسر، يسهل على الأهالي استيعابها".
الموالد في قرية المائة ضريح مثل سائر الموالد في مصر، حالة تجمع بين الطقوس التعبدية، الحضرات والذكر، وبين اللهو والمرح، إضافة إلى ذلك في القرية يقدم الباعة الجائلون الطعام والمشروبات للأهالي بمقابل رمزي، كما يحكي سعيد.
يقول متذكراً الألعاب التي عاشها في أجواء الموالد بالصغر: "لعبة النشان كانت من أشهر الألعاب آنذاك فكان يحصل الفائز على جوائز رمزية من صاحب اللعبة وعروض الساحر التي لاقت إقبالاً جماهيرياً من الأهالي في كل مولد، وبرزت لعبة اختبار القوة فكانت من أصعب الألعاب وأكثرها تشويقاً، وكانت عبارة عن قطع مستديرة من الحديد، وكانت تزن كل قطعة عشرات الكيلو غرامات من الحديد، وتتفاوت أوزانهم ويوضعون بداخل عمود معدني مثبت على سير حديدي ومن يستطع دفعها بقوة هو الفائز، وكلما استطاع أن يدفع قطعة معدنية وضعوا له قطعة أخرى أكبر وزناً، فإن استطاع دفعها فهو الفائز، ويلتف الأهالي حوله مهللين في جو من المرح والبهجة".
الحياة في "واقعية سحرية"
لا مكان للعقل هنا، إذا نجا شخص من الفاقة سيذكر لك بركة فلان، إذا مرض آخر، وشُفي سيتحدث عن شفائه باعتباره كرامة "ولي من أولياء الله الصالحين"، الجميع هنا يجمع على ذلك، وكأنكم تعيشون داخل رواية من روايات الواقعية السحرية مثل "مائة عام من العزلة"، حيث لا وجود للواقع الذي نعرفه، أو المنطق الذي نحتكم إليه في خلافاتنا.
تحدثت للحاجة أم إبراهيم، امرأة مسنّة، في العقد السادس من عمرها، ترتدي جلبابا أبيض، يحوي نقوشاً سوداء، وحجاب أسود يحيط بوجهها، طريقة حديثها الممتع أرجعتني لطفولتي عندما كانت جدتي تروي لي الحكايات الغرائبية.
تقول أم إبراهيم بسرد لا يتوقف: "سأروي لكي سرا لا يعلمه أحد إلا أمي رحمة الله عليها، بيني وبين تميم الداري الأنصاري عهد؟!".
نظرت إليها متشككة، فضحكت وقالت: "لست مجنونة يا ابنتي، أقصد المقام، فكلما ضاقت عليّ الدنيا، ذهبتُ إلي هناك، وأخذت معي بعض النفحات من طعام أو شراب، وقمت بتوزيعها علي الفقراء، وأقرأ الفاتحة له فلايمر أيام إلا وتنفك العقد، وتأتي المنح".
تحدثت العجوز عن ظروفها الصعبة في شبابها، حيث توفي زوجها ولها 5 فتيات، وصبي، ولكنها "ببركة الأنصاري"، قامت بإيجار أرض، وعملت بها، ووفرت الغذاء، وباعت البقية، وهي الآن تعيش في وفرة، وقالت أنها كثيرا ما ترى في منامها "ما يسر العين ويشرح القلب"، خاصة بعد زيارة المقام، وأن بركة الأنصاري عمت جيرانها وأصدقائها.
"سيدي أبو العيال"
يتحدث كتاب "التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية" لشرف الدين يحيى ابن المقرعن، وهو من أوسع وأشمل المؤلفات التي تسرد لنا أسماء البلاد المصرية، عن تل بني تميم بأن مساحتها لا تتجاوز 1804 فداناً، والفدّان وحدة مساحة قديمة في مصر.
وبحسب كتب سِيَر الأسلاف، مثل "أسد الغابة" و "الطبقات الكبرى" وغيرها، سميت بني تميم نسبة لتميم بن أوس بن خارجة بن سود بن الداري، من قبيلة لخم، كنيته وأخوه نعيم بن أوس الداري، أسلم تميم في العام الـ9 هجرياً، له في الإسلام "مناقب" وامتيازات، منها أنه أول من قص القصص، وأول من صنع منبر النبي محمد.
وما يثير عمارة قصص إيمان الأهالي ببركات الأولياء، خاصة "سيدي أبو العيال" الذي يبعد عن القرية ببضع كيلو مترات، ويحكون عنه الكثير في شفاء الأطفال، ويتهافت الأهالي لزيارته كل يوم جمعة من كل أسبوع، ويصطحبون معهم أولادهم لينهلوا من بركات الولي، وهو ما لا يصدقه سعيد، ويزيد حيرته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...