منذ مطلع التسعينيات، اعتاد صحافيون تونسيون اللقاء في حانة صغيرة تمّ تأسيسها في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، حملت اسم "دار الصحافي" ثم "بار الصحافيين" كما بات يحلو لروادها تسميتها لاحقاً.
اللافت في هذا المكان الذي أبصر النور بإذن شفهي من الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي، ليكون على غرار دار الكتاب ودار القضاة، هو موقعه قبالة مقر وزارة الداخلية التونسية في شارع الحبيب بورقيبة.
من موقعه هذا، يبدو "دار الصحافي" وكأنه تحوّل إلى شاهد على ما عاناه الصحافيون من قمع بوليسي طوال سنوات وما تضعه الوزارة من "عيون" (مُخبرين) على ممتهني الصحافة. وفي المقابل، كأننا أمام مشهد إخباري يراقب من خلاله الصحافيون كل ما تقوم به السلطة.
أما موقع الحانة فهو في عمارة قديمة دائمة الظلمة توحي في الغالب بما آل إليه قطاع الصحافة في المشهد التونسي.
قصة "بار الصحافيين"
"هذا هو ملجأ الصحافيين و المكان الوحيد الذي يحميهم"، هكذا وصف مدير "صندوق التآزر بين الصحافيين" محسن عبد الرحمن المكان، معلقاً: "جمع المكان كل أشكال الصحافيين قبل الثورة، فمنهم من كان يعارض النظام بشدة ولا يجد مكاناً للتعبير عن آرائه بحرية إلا هذا المكان، ومنهم من كان مقرباً من السلطة كان يأتي ليراقب كما المخبرين''.
ويشرح عبد الرحمن أن النظام السابق في أوج قوته لم يكن قادراً على دخول المكان، لذلك كان يعوّل على عدد من المخبرين الصحافيين.
يعود عبد الرحمن، وهو صحافي في جريدة "الشروق"، إلى قصة تأسيس الدار عام 1992 بعد الحصول على ترخيص شفوي من بن علي، حيث تقرّر أن تشرف عليها "جمعية الصحافيين التونسيين" التي تغيرت لاحقاً لتصبح عام 1997 "نقابة الصحافيين"، فأوكلت مهمة الإشراف على الحانة إلى "صندوق التآزر بين الصحافيين" الذي أصبح يخصص جزءاً من مداخيل الدار لدعم الصحافيين الذين يعانون صعوبات مادية جمة.
أبصر "دار الصحافي" النور عام 1992 بإذن شفهي من الرئيس التونسي آنذاك، وبقي موقعه قبالة وزارة الداخلية شاهداً على ما عاناه الصحافيون من قمع وما تضعه الوزارة من "عيون" على الصحافيين... قصة الدار الذي يحلو لروادها تسميتها بـ"بار الصحافيين"
تغيرت الأمور بعد الثورة، فأصبح "دار الصحافي" مجرد حانة تقدم المشروبات الكحولية حتى لغير الصحافيين بأسعار لم تعد رمزية... صحافيون قاطعوها، وآخرون يصرون على ضرورة الصراع لإبقائها شاهداً تاريخياً على نضال صحافيي تونس
بحسب عبد الرحمن، كانت الدولة تمنح الدار قرابة 40 ألف دولار سنوياً، لكنها توقفت عام 1997 عن دعمها وهو ما فرض على إدارة الحانة بيع المشروبات بأسعار أغلى مما كانت عليه.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فقد تغير حال الدار في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الثورة، إذ قام كثيرون بمحاولات متواصلة لإغلاقها، تحديداً إبان الثورة، بتهم عدة، من بينها أنها لا تملك ترخيصاً لبيع المشروبات.
يقول عبد الرحمن: "الترخيص الذي حصلنا عليه في وقت بن علي كان شفهياً، ولم يكن أحد قادراً على مطالبتنا بترخيص، لكن بعد الثورة أراد كثيرون إغلاق الحانة، وما زلنا إلى اليوم نعاني للحصول على الرخصة لتفادي محاولات غلق المكان التي تقوم بها السلطة الحاكمة"، لافتاً إلى أنه واجه حكماً ببيع الخمر خلسة على اعتبار أنه رئيس الصندوق المشرف على الدار، معتبراً ذلك من "نوادر ما بعد الثورة".
ومن الروايات المتداولة عن الدار أنها كانت فضاءً مثالياً للصحافيين في الماضي وشاهدة على تنظيم العديد من الندوات الصحافية وتواقيع الكتب الجديدة وحلقات الفكر والنقاش وعرض الأفلام.
تغيرت الأمور بعد الثورة، فأصبح المكان مجرد حانة تقدم المشروبات الكحولية حتى لغير الصحافيين بأسعار لم تعد رمزية كما كانت في السابق، على اعتبار مآلها إلى مستثمر خاص يملك حانات أخرى في وسط العاصمة، ويخصص جزءاً من الاستثمار لصندوق التآزر.
لم تكن السلطة هي الوحيدة الراغبة في إغلاق الدار، فقد بدأ الجيران يتذمرون منها حتى أن طبيباً يقطن العمارة نفسها رفع شكوى لإغلاق المحل على اعتبار أنه لا يملك ترخيصاً، واصفاً إياه بـ"بؤرة الفساد التي يرتادها المدمنون لتعاطي الخمر وممارسة الجنس"، بحسب ما نقله عبد الرحمن، مضيفاً: ''ربح الطبيب قضيته قبل سنوات لكن لم يتم إغلاق المحل بعد إصرار الصحافيين على حمايته''.
في الدار... جولة ودردشة
عند دخولك إلى "بار الصحافيين" عليك أن تمر بدرج قديم ملتو يصعد بك لمبنى توحي لك جدرانه أن ماضيه كان حافلاً بحكايات ومآثر خبأها الزمن في زواياه التي بقيت لوقت طويل مقصد الصحافيين. عند تجاوز الباب ذي المصراعين، تشدك لوحات فنية مرسومة على طول الجدار، ومقولات موزعة لفلاسفة وأدباء وشعراء.
ما إن تهم بالجلوس حتى يمتلىء المكان بالخلان الذين اعتادوا الجلوس فيه، بالإضافة إلى وجوه أخرى تعرف بمجرد رؤيتها أن لا علاقة لها بتاريخ هذا المكان أو مهنة رواده الأصليين.
يقول الصحافي رضا: "بت أرفض القدوم إلى هنا إلا في مناسبات قليلة، فقد أصبح المكان مرتعاً لبعض المنحرفين الذين يختارونه على اعتبار أن أسعار المشروبات فيه أرخص من بقية الحانات، حتى لم نعد نحس أنها دار للصحافيين من كثرة الغرباء فيها". رضا لم يكن الوحيد في موقفه هذا، فقد أكد آخرون أنهم قاطعوا المكان لكثرة الدخلاء فيه، إلا أنهم رفضوا الإدلاء بشهادتهم أو تصريحاتهم في العلن احتراماً منهم للمشرفين على المكان، حسب ما قالوا.
تحدثنا كذلك إلى مصور فوتوغرافي، رفض الكشف عن هويته، وقد أكد أن "دار الصحافي" تبقى المكان المفضل له برغم كل المشاكل التي يعانيها وحالة الإهمال التي يعيشها، لافتاً إلى أن الأسعار لم تعد رمزية وأنه لم يعد يحس بالأمان التام كما في السابق، إلا أنه يرفض تغيير مكان جلوسه الدائم، معتبراً أن على أبناء القطاع الصراع من أجل استعادة الدار التي ستبقى شاهدة تاريخية على نضال الصحافيين التونسيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين