شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عن لعنة حبّ الأوطان التي تزرع بين أقدامنا القنابل

عن لعنة حبّ الأوطان التي تزرع بين أقدامنا القنابل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 28 أغسطس 201903:13 م

يبدو أن أوطاننا مهما قست علينا، مهما أشاحت عنا بوجهها، مهما أغرقتنا في أوحالها ودمائها، في دواخلنا، فمن الحبِّ ما يجعلها عصية على أن نتمرّد عليها أو نتجرّد منها، بل كلنا، لا سيما نحن العرب، نجاهد بحثاً عن سببٍ ما، عن قشّةٍ صغيرةٍ صفراء مهملة كي نتشبّث بها، فقط لنقنع ذواتنا أنه لا يمكننا القطع مع هذا الوطن، لا يمكننا ترك هذا البلد الذي يُدمينا بشدّة والبحث عن أوطان أخرى، غالباً ستقدم لنا الكثير مما لم توفره لنا أوطاننا.

قبل أيام التقيت أصدقاء مسرحيين من العراق، وفي جلسة وداع في مقهى على أطراف شارع الحبيب بورقيبة بتونس، دار بيننا حديث عن الوطن، عن سبل الرحيل عنه وطرق أبواب أوطانٍ أخرى. في الحقيقة ككل الناس في هذه الدنيا أحب وطني حدَّ العبادة، ولكن لا أدّعي أنني بذلك الهوس الذي قد يمنعني من الرحيل عنه والعيش خارجه، إذا ما أًتيحت لي الفرصة الملائمة في البلد الملائم، فليست كل البلدان مهيأة على مقاس رؤياي وأحلامي وأوهامي أيضاً.

رغم أن بلدي، قياساً بأوطان أخرى كالعراق مثلاً، لم يسقط في الكثير من المطبّات الدامية، لم أشعر فيه بعدم الأمن والاطمئنان، لم أمش في شوارعه بريبةٍ مخافة رصاصةٍ طائشة، لم تطأ أقدامُ غزاة ترابَه منذ نهاية الاستعمار، ولم أعان سنوات من الحصار، لم أنم على حربٍ واستيقظ على أخرى، ومع ذلك بوسعي حمل حقيبتي وطرق أبواب أخرى خارج أسواره وبحره وشمسه ودفئه ومطره.

متى تعرف الأوطان العربية أن الأوفياء فيها قلائل؟ متى تدري أنها قتلت الكثير من محبيها بقسوتها؟

على خلاف ذلك يعيش صديقاي في بغداد، ويمتلكان من الحرفية الفنية والزاد المعرفي الكثير، كما يمتلكان ذات القدر من المرارة والتعب من وطن أنهك أحلامهما ويسرق يومياً شيئاً جميلاً من أرواحهما المبدعة. يقولان إن لا أمل في إصلاح العراق في ظل سطوة الفاسدين ومسكهم بزمام كل الأمور، واتساع نفوذ ميليشيات الموت بطوائفها المختلفة. يقولان إن كل شيء يبدو قاتماً اليوم رغم أحلامهما الكبيرة. أتساءل وكيف تحبّان هذا الوطن؟ لماذا لا ترحلان عنه لوطن أكثر عدلاً، وطن بلا ألوان طائفية؟

هنا يقولان بما يشبه الاستنكار كيف نرحل عن بغداد؟ نحن لا نحب هذا الوطن ولكن نحب أشخاصاً في هذا البلد تجعل رحيلنا عنهم صعباً بل ربما مستحيلاً.

يقولان لا يمكنهما العيش بعيداً عن والديهما وأخواتهما وبعض الأصدقاء هذا كل ما في الأمر، لكن لا نحب هذا الوطن المؤذي. أضحك في داخلي بأسى وأقول يكفي يا صديقاي... أنتما ومن شدة قسوة وخذلان هذا الوطن تخجلان من الإفصاح عن عمق محبتكما له، تخجلان من القول نحن نحب وطناً شربنا فيه مع قطرات حليب أمهاتنا أصوات المدافع، جرّبنا فيه العيش بالقليل القليل حتى نتغلب على الحصار، لم نكد نغمض فيه عيناً ونفتح أخرى إلا وقد فتحت أبواب حرب جديدة، تخجلان من قول إنكما تهيمان بوطنٍ حمل إليكما تجار الدم وزبانية الطائفية ترتع كما تشاء، تذبح وتصلب صباحاً ومساءً دون خوف أو حياء.

الحقيقة يا صديقاي أنكما تحبان هذا الوطن للحد الذي تتمسكان فيه بخيطٍ رفيع جداً لإقناع ذواتكما بأنكما لا تستطيعان العيش بعيداً عنه. ليس ذنباً وليس عيباً هذا الوفاء... هذا الارتباط الروحي العصي عن التلف بالوطن، لكن أتساءل عنكما لماذا تخذل الأوطان دائماً محبيها؟

لماذا تشيح بلاد الرافدين خاصةً، بوجهها الجميل عن أبنائها الأوفياء وتفتح ذراعيها للقتلة وهواة الدماء؟ لماذا تتمسّك بلعب هذا الدور؟

يعيش صديقاي في بغداد، يقولان إن لا أمل في إصلاح العراق في ظل سطوة الفاسدين ومسكهم بزمام كل الأمور، واتساع نفوذ ميليشيات الموت بطوائفها المختلفة. يقولان إن كل شيء يبدو قاتماً اليوم رغم أحلامهما الكبيرة
الحقيقة أن صديقاي يحبان وطنهما للحد الذي يتمسكان فيه بخيطٍ رفيع جداً لإقناع ذواتهما بأنهما لا يستطيعان العيش بعيداً عنه. ليس ذنباً وليس عيباً هذا الوفاء... هذا الارتباط الروحي العصي عن التلف بالوطن، لكن أتساءل عنهما، لماذا تخذل الأوطان دائماً محبيها؟

يذكّرني صديقاي بالشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، الذي كان وطنه محور حياته وشعره، حلم بوطن يشبه أحلامه وتطلعاته، وطن يحتضن جسده النحيل وروحه التواقة للتغيير، لكن هيهات، لقد مارس "الوطن العراقي" قسوةً مجحفةً معه دفعته حدَّ العجز عن امتلاك ثمن الدواء، حدَّ اللجوء للكويت للعلاج.

تقول بعض الروايات إنه رغم بلوغ قسوة هذا الوطن حدَّ عدم الاكتراث لعلاج أحد رموزه الأدبية الكبيرة، ورغم اضطراره للبحث عن علاج مجاني في بلد مجاور، إلّا أنه سرعان ما عاد للبصرة بعد فترةٍ قصيرة لأنه لم يحتمل البعد عن الوطن الذي خذله بشدة، وواصل ذلك حتى مماته، فهذا الشاعر الذي قدّم الكثير لوطنه، مات في الكويت الذي عاد إليه مجدداً أكثر من مرة في فترة مرضه، لتلقي علاجٍ لم يمنحه إياه العراق.

وكان الشاعر علي السبتي قد ناشد وزير الصحة الكويتي في ستينات القرن الماضي، عبر مقالٍ صحفي كتبه في مجلة صوت الخليج الكويتية، طلب فيه أن يتبنّى علاج بدر شاكر السياب في أحد مستشفيات البلاد، وهو ما تم حتى الوفاة.

ووصلت جنازته من الكويت في يوم ماطر، كما روي عنه، ظهر الـ24 من ديسمبر 1964، وكان مع الجنازة بضعة أشخاص أغلبهم من الكويت، وعند وصولهم إلى البصرة توجهوا إلى بيت بدر شاكر السياب في دور الموانئ، لكن لم يجدوا أحداً في الدار، حيث كان هناك في ذات اليوم أمر بإخلاء البيت من قبل شرطة موانئ البصرة، لأن عائلة السياب لم تسدد الإيجار وفاتورة الكهرباء، فضلاً عن أن إجازات بدر شاكر السياب المرضية قد استنفدت، فعادوا مع الجنازة إلى أحد المساجد في البصرة القديمة ليغسلوه ويكفنوه فيه. لقد عبث العراق بالسياب الذي لم يحتمل الرحيل عنه حتى في آخر أيامه.

إلى هذا الحدّ يا صديقاي يكون خذلان الأوطان، إلى حدِّ تسول العلاج من أوطان أخرى، إلى حدِّ العبث بالجنازة، ومع ذلك لعنة حب وطنٍ لا يحبنا تأبى أن تتركنا.

السياب نقطة من بحر خيانات الأوطان لأبنائها الأوفياء يا صديقاي، فما أمر لعنة حب الوطن عندما تجد نفسك تقطف له الورود فيما يزرع بين قدميك القنابل، ما أشد خذلان الأوطان عندما تتمسّك بها إلى آخر النبضات فيما تتخلى عنا في أول امتحان، وتركلك إلى الهاوية دون التفاتة تذكر.

لماذا نتردّد كثيراً عندما نقرر الرحيل عن الوطن وقد نعجز في أحيان كثيرة عن امتلاك الجرأة لاتخاذ قرار المغادرة، فيما تدفعنا بلداننا، بل وتضعنا في أحيان كثيرة في مواجهة الموت بأشكال مروّعة، حتى تقنعنا بتركها والمضي لغيرها. كأنها تقول امضوا غير آسفةٍ على فراقكم، فيما قلوبنا المشدودة بأواصر عصية عن الشرح تأبى أن تفهم، تأبى أن تصغي.

متى تعرف الأوطان العربية أن الأوفياء فيها قلائل؟ متى تدري أنها قتلت الكثير من محبيها بقسوتها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image