"يا رايح بلدنا. يا بشير يا بشير يا رايح بلدنا.. قول لولدي العزيز يبيض عتبنا ببوهية وزيتي.. نقرش البوابة ببوهية وزيتي.. واكتب حجتي على باب بيتي"، مقطع من الأغنية الفلكلورية المصرية "يا هناه اللى انوعد"، والتي تعدّ ترجمة فنية لمدى تعلق المصريين بمراسم الحجِّ وتقديسهم لزيارة الأراضي المقدسة، ولكن الآن، يبدو أنّ الأمور تغيرت كثيرا.
"الحج كان الزفاف الثاني لنا"
"وقتما قرّرت الذهاب إلى الحج، كان بمثابة زفةٍ وعرس ثانٍ، وبعدها بما يقرب من ثلاثين عاماً، عندما حجّت ابنتي لم يهتم أحد، حتى بتوديعها أو إيصالها للمطار كما اعتدنا قديماً"، هكذا لخّصت السيدة نادية محمد الفارق بين ردِّ فعل الجيلين، القديم والحالي، على الحج، وربما ليست تلك حالة عامة أو ظاهرة اجتماعية، ولكن قطعاً الفارق ملحوظ وبقوة.
تقول نادية محمد، وهي صاحبة محل تجاري تسكن الاسكندرية، لرصيف22: "عندما أبلغت جيراني وأهلي من عشرين سنة تقريباً، أنني نويت الحج، كادوا أن يحملوني على أعناقهم، وظلوا يباركون لي ويرسلون السلام للنبي ويلحّون في أن أتذكرهم بالدعاء عند الحرم"، مكمّلة، "أما بعد 20 عاماً، عندما نَوَت ابنتي أن تذهب للحجّ هذا العام، لم يهتم أحد، ولم أجد سوى أولادها، أحفادي، هم من اهتمّوا بالتجمّع لتوديعها".
تتساءل نادية: "لا أعرف السبب وراء هذا، رغم أنه ظاهرياً المجتمع الآن أكثر تديّناً، ولكن يبدو أنه لا يهتم سوى بالعبادات السهلة المتاحة الواضحة للعيان، أما العبادات المكلفة والشاقة كالحج، والتي لن يعرف بها سوى الأقربون، فلم يعد يهتم بها أحد، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة".
بخط عريض أخضر اللون كانت تُزيَّن بيوت الحجاج بعبارات مثل "حجٌّ مبرور وذنبٌ مغفور"، مع رسمة سوداء اللون للكعبة، يتطوّع بها أحد الجيران أو الأقارب كنوع من الاحتفال بالحاج الجديد الذي ينضم لمن التقوا بالنبي في المدينة المنورة.
"يا جمل يابو الخف زينة.. رايح فين يا جمل.. دانا رايح أودي الحبيب يزور نبينا.. يابو دراع حديدي.. يا بابور يابو دراع حديدي.. رايح فين يا بابور.. دانا رايح أودي الحبايب يزوروا حبيبي".. وأغنية أخرى "وش الحاج منور ليه.. نور النبي هلّ عليه"، مقاطع غنائية، يودع الأهل والجيران بها الحجاج، أو يستقبلونهم بها أيضاً.
لو أملك تكلفة الحج، فسأضعها في وديعة بنكية باسم ابنتي لتأمين مستقبلها، أو أنتقل لشقة تمليك بدلاً من شقتي الإيجار التي أسكن بها حالياً"
ولم تكن كلمات الأغاني والزفّة والاحتفاء من نصيب الرجال فقط، بل كان الجزء الأكبر منها من نصيب النساء، فتغني الحاجة ورفيقاتها المحتفلات بها، "رايحة فين يا حاجة.. يام الشال قطيفة"، فترد الحاجة، "رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة"، فترد رفيقتها مرة أخرى، "يا رايحين للنبي خدوني خدام ليكو.. أشاهد نور النبي وأبقى من مراعيكو".
وأغنية أخرى تقول: "نفسي أشوفك يا نبي، وأقعد حداك ياما، وأشرف حمام الحمى، حول الحرم ياما، تحت ضل الجبل، وأريح شوية، تركبوا البواخر وأنا أمدح نبيا".
"تأمين مستقبل ابنتي أهم"
بعد مرور عقدين أو ثلاثة على تلك الطقوس، كما يتذكرها ويحكيها أجدادنا وآباءنا لنا، تغيَّر الوعي الجمعي تجاه مناسك الحج، فلا تريد أمنية الحسيني، 35 عاماً، مدرّسة للمرحلة الابتدائية، أن تكون خادمة لزائري النبي، فتقول لرصيف22: "كل تلك الأجواء الاحتفالية بالحج في طريقها للاختفاء، لأن المجتمع نفسه لم يعد به مكان للاحتفال بأي شيء، فمثلما كانت قديماً تقام الأفراح لعدة ليالٍ متصلة، قد تصل لأسبوع كامل، وتقلصت الآن لساعتين في إحدى القاعات المستأجرة، هكذا الحال مع كل مظاهر الحياة، لم يعد هناك الوقت أو الرفاهية للاحتفال بجاري المقبل على الحج، لأنني مكبلة بكل مسؤولياتي المادية والاجتماعية تجاه أسرتي، وتيرة الحياة سريعة ولابد من مواكبتها".
وعند سؤالها عن مدى رغبتها في الحج، تضحك أمنية وتقول، "بالطبع أحلم بالحج وزيارة البيت الحرام، ولكنني لو أملك تكلفة الحج، فسأضعها في وديعة بنكية باسم ابنتي لتأمين مستقبلها، أو أنتقل لشقة تمليك بدلاً من شقتي الإيجار التي أسكن بها حالياً"، منهية حديثها قائلة: "قلت لكِ أننا مكبلون بالمسؤوليات المادية والاجتماعية التي جعلت من بعض الفرائض الدينية رفاهية لا نقوى عليها".
"لن أشارك في قتل اليمنيين"
يقول هشام فريد، 30 عاماً، مهندس ميكانيكا، "والدي حجَّ إلى الأراضي المقدسة، وكان عمري 10 أعوام تقريباً، وأتذكر كيف كان المنزل لا يخلوا من المهنئين والمبارِكين لوالدي، والذي يوصونه بضرورة أن يُحضر لهم ماء زمزم حتى لو زجاجة صغيرة، وكيف حرص والدي على ارتداء العباءات البيضاء من بعد ذهابه للحج وحتى وفاته"، متابعاً، "ولكنني لست متحمساً مثله، ولم أرث منه هذا الاشتياق لأداء مراسم الحج، فأنا أؤمن أنني سأجد الله في كل مكان أذهب إليه، سأجده في فعل خير أو مساعدة ضعيف، أو ستر محتاج، كل هؤلاء سأجد الله فيهم".
"لا أعتقد أن الإيمان متوقف على أداء مناسك الحج، التي تتكلّف ما يقرب من ربع مليون جنيه مصري (حوالي 15 ألف دولار)، خاصة في وقت أنا أعلم يقيناً أن أموال الحجاج يُشترى بها أسلحة تقتل أطفالنا وأهلنا في اليمن"
فريد يتبني وجهة نظر لها أبعادٍ سياسية أيضاً، فيقول، "لا أعتقد أن الإيمان متوقف على أداء مناسك الحج، التي تتكلّف ما يقرب من ربع مليون جنيه مصري (حوالي 15 ألف دولار)، خاصة في وقت أنا أعلم يقيناً أن أموال الحجاج يُشترى بها أسلحة تقتل أطفالنا وأهلنا في اليمن"، ويتابع في حديث لرصيف22: "من المؤكد أن الحجَّ فرض من فروض الإسلام، ولكن الله حدّد أنه لمن استطاع إليه سبيلا، وأنا لا أستطيع أن أعاون النظام الملكي السعودي على تدمير اليمن وقتل وتجويع المزيد من الأطفال، كذلك إن كنت أملك مئات الآلاف، فأعتقد أنني سأتبرع بها لأحد المستشفيات الخيرية أو المراكز الصحية التي تعالج الفقراء بدون مقابل".
"الفرائض لا تُهذِّب الروح"
أما ريهام عبدالعزيز، 28 عاماً، تعمل في خدمة العملاء بأحد شركات الاتصالات الكبرى، فتروي القصة من زاوية أخرى، "فقدت اهتمامي بمن حجّ أو اعتمر منذ 15 عاماً، كان جارنا سيء السمعة، لا يترك امرأة تمرّ بجواره إلا ويتفحّص جسدها، وكان يملك محل بقالة، فكان يغشّ في الميزان ويسرق من ثمن البضائع التي يبيعها، ثم ذهب للحجِّ وزيارة بيت النبي، كنت أتوقع أنه سيعود إنساناً مختلفاً، ويحاول أن يرضي الله في تجارته وأخلاقه"، متابعةً، "ولكن لم يحدث شيء من هذا، اكتشفت مع تقدم العمر أن جاري، وغيره آلاف، لا يحجّون أو يعتمرون سوى للوجاهة الاجتماعية ولكسب ثقة المحيطين بهم فقط، كمن يتباهى بأداء صلاة الجمعة في المسجد، فقط لأن أهل الحي والشارع سيرونه، وغيرها من الأمثلة".
تتابع ريهام حديثها لرصيف22: "فقدت اهتمامي بمن يؤدون الفرائض الدينية، عندما اكتشفت أنها لا تهذّب النفوس أو تدفعها للورع والتقوى الحقيقيين، وإنما مجرد مظاهر مثلها مثل شراء سيارة أحدث موديل فقط للتباهي".
"عادات الاحتفاء بالحج اندثرت لأنَّ وتيرة الحياة أصبحت أسرع"
يعلق الدكتور فتحي الشرقاوي، رئيس وحدة الرأي العام بجامعة عين شمس، على تدني الاهتمام بفريضة الحج، والحجاج: "نظراً لارتفاع تكاليف وأسعار كل شئ، بالتالي اندثرت أشياء، وعادات، وتقاليد خاصة بالشراء والاستهلاك، ونظراً للضغط المادي الذي يعاني منه غالبية الشعب المصري، أصبحت الأفضلية للأولويات، فليس من المنطقي، أن يحج أحد الأفراد على حساب مثلاً زواج ابنته أو تأمين مستقبل ابنه وهكذا، وحتى عادات الاحتفاء بالحج، اندثرت لأنَّ وتيرة الحياة أصبحت أسرع، فلم يعد متاحا أن أعطل عملي أو حياتي ليوم أو أكثر لتنظيم زفة أو احتفال بأحد الحجاج سواء توديعه أو استقباله، فمثلما بعض المهن اندثرت مثل السقا أو السنان اندثرت أيضاً تلك العادات".
وتابع الشرقاوي، في تصريحات لرصيف 22: "لذلك يمكن القول أن ارتفاع تكاليف الحياة من جانب، ومن جانب آخر ارتفاع الوعي التعليمي والثقافي، وتسارع وتيرة الحياة، كل هذا نتج عنه، اندثار تلك الحتفالات التي أصبحت تصنف كمضيعة للوقت".
ويلفت الشرقاوي النظر لتأثير الاهتمام بالتدين الشكلي أو المظهري على احتفاء حتى المتدينين بالحج، يقول: "وهناك عوامل أخرى أيضاً، كانت سبباً رئيسياً في قلة الإقبال على الحج أو اندثار العادات المحتفية بعودة الحجاج على حد سواء، حيث أصبح المجتمع مهووساً بالتديّن الظاهري، ويكفي تربية الذقن للرجال، وحجاب أو نقاب للنساء، ليطلق لقب متدين عليهم، أما العبادات التي يمكن وصفها بـ"الشاقة" وتتطلب نية صادقة لم تعد مقياساً مهماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.