جاء في معجم لسان العرب في مادة صَفَعَ، بأنّ الصفع يكون ببسط الرجل كفّه، فيضرب بها قفا الإنسان أو بدنه.
ليس للصفع، أي الضرب باليد على الوجه أو قفا الرأس أو العجيزة، سمعة حسنة في زمننا هذا، ولربما يعود الأمر إلى وسائل التربية الحديثة التي منعت الضرب – ضمناً الصفع- ووصفته بالسوء، إضافة إلى البحوث النفسية عن الساديين والمازوخيين، ومن ناحية أخرى، لتعلّقه بالممارسات القاسية جدًا التي مارستها الدول الديكتاتورية على شعوبها.
الصفع أسلوب همجي مهما تلبّسته شياطين الأخلاق التي ترى فيه وسيلة تربوية أو زجرية أو عقابية، على الرغم من بعض الأمثال السائرة على ألسنة البشر كـــ (ضرب الحبيب كالزبيب) والكثير من الممارسات التي يُسمح بها بالضرب باسم الحب والتعليم، كأن يرى بعض الأهل أنه في حالات معينة لا بد من الصفع لتربية الطفل.
قد يفاجئ القراء بأن متون بعض القوانين في البلاد العربية تورد عدة من المواد القانونية التي تجيز "الضرب"، وتترك حالات واسعة منه خارج نطاق العقاب.
بعد ما ذُكر آنفاً، لن يتخيل أحد أن هناك فرقة تسمى (المنصَفِعة) وهي طبقة مندرجة ضمن حاشية السلاطين وأصحاب النفوذ، وتكون وظيفة هذه الفرقة تلقي الصفعات من أسيادها الذين يودّون التنفيس عن غضبهم أو التعبير عن مودتهم.
لحظ هذه الطبقة شرف الدين التيفاشي (تـ.651/1253) في كتابه (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب)، وقد قام بتبيان فضائل الصفع والامتيازات التي يحصل عليها المنصَفِع وعدد أقسام الصفّاع وفنّد الحجج التي قامت ضدّه، لأّنه وصف المنصَفِعة بأنهم طبقة جميلة بالإضافة إلى تعداده الفوائد الطبية للصفع على الصافع والمنصَفِع.
أقسام الصفع
صفع الطرب: ويكون بين الخلان والأصدقاء، وهو لعب جميل بين الندماء وممازحة مبهجة للقيان والفتيان. وقد وضع له التيفاشي من الفوائد ما ينوب عن زيارة الطبيب عند المرض، فالصفع يؤنس المستوحش ويبسط المنقبض، ويضحك الحزين ويقوي أعصاب الرأس ويصلب أوداج الرقبة، ويحط من رطوبة الدماغ.
وتحدث ممارسة الصفع بأن يقوم الأصدقاء الذين اجتمعوا على الأنس والمحبة، بصفع بعضهم البعض، فيصفع الصديق صديقه الذي يليه من جهة اليمين حتى تكتمل الدائرة، فيكون الصافع الأول آخر من يُصفع، فيترك عليهم تبادل الصفع الفرح والسرور.
والصفع جوهره التواضع من قبل الأعلى بحق الأدنى، فإذا تصافعا زال الكبر من الأعلى وانمحا الغل من الأدنى، ونما بينهما من المحبة والصداقة الكثير.
ومن أقسام صفع الطرب، قسم خاص بالملوك، يحدث الصفع فيه من جهة الملك بحق رجل قد اصطفاه نديماً له، فيتلقى صفعات الملك ضاحكاً باشاً، ما يغير من نفسية الملك من الغضب إلى المرح والانشراح. وفي مقابل تلك الصفعات التي نالها نديم الملك يهبه الملك العطايا ويسمح له بالقرب الشديد والحديث المتفلت من الرسمية، فيصبح النديم المصفوع كوزير الملك، قد ينجي رأساً من القطع أو الشنق.
الفوائد الطبية لصفع الطرب
الصفع يعالج أمراضاً كثيرة، نذكر منها بعضاً مما أورده شهاب الدين التيفاشي: الفالج واللقوة وتغلب البلغم على الدماغ وفيه أمان من البرص والبهق والجذام.
ومن فوائده على طالب العلم: تصفية الذهن، وتذكية القلب، وزيادة الحفظ ونفي النسيان ويزيل البلادة، ويلطف الفطنة. وتلك الفوائد لها علامات، فلا يمكن أن نرى مصفوعاً إلا عذب الخطاب، رقيق الطبع، صحيح الجسم، خفيف الروح، واسع الخُلق، أصيل الرأي، نافذ التدبير.
الصفع وسيلة لتسلق الطبقات الاجتماعية
الصفع يكسب الجاه، فما أن يشتهر المصفوع حتى يدخل على الملك، فيصبح من خاصة خاصته، أقرب إليه من القائد الجليل، فتحسده الأعين لِما صار إليه من عزٍّ وجاه.
يُعتبر صفع الطرب من الظرف، فالأحباب يتخامشون ويتصافعون ويتداعبون بالقرص والعضّ. وينوع الظرفاء بأساليب الصفع، فمنهم من يصفع حبيبه على بعض جوارح الجسد، وبعضهم يصفع الكتف أو القفا، ولهم في ذلك قواعد لا تورث البغضاء بينهم.
هناك فرقة تسمى (المُنصَفِعة) وهي طبقة كانت مندرجة ضمن حاشية السلاطين وأصحاب النفوذ، كانت وظيفة هذه الفرقة تلقي الصفعات من أسيادها الذين يودّون التنفيس عن غضبهم أو التعبير عن مودتهم
صفع الأدب
وقد رأى فيه شهاب الدين التيفاشي حِكماً ظاهرة ونعما غامرة، نذكر منها: إن الأئمة الراشدين والخلفاء المهديين، لما تدبروا ذنوب المذنبين وإجرام المجرمين وجدوا منازلهم متفاضلة، فلم يكن من الحكمة أن يعاقبوا من صَغُرت خطيئته بمثل من عَظُمت جريرته.
لقد جعلوا عقوبة الصفع لمن ليس له عقوبة جلد، وأدّبوا الغلمان والصغار به، وحجّتهم في ذلك أن الآباء والأمهات يؤدبون أطفالهم به على الرغم من المحبة القاهرة لهم تجاه أطفالهم.
"حجج" المعترضين على الصفع
قال المحتجّون على الصفع إنّ الصفع يُخرج المصفوع من رتبة الإنسانية وله في ذلك قول مأثور: "إن الفتى يعيش عزيزاً وإلا يُضرب عنقه، فيموت كريماً، ولا يعيش ذليلًا، فيُصفع قفاه"، فردّ عليهم شهاب الدين بأن ذلك خلاف أهل العقل، لأن الصفع لو كان يضع الشريف ويحط قدر النبيل لكان ضرب السوط يُخرج المضروب من جملة الإنسانية ويدخله في عداد الكلاب. ولو قارنوا بين الصفع وغيره من فنون التأديب التي تكسر العظم وترض البدن وتترك آثاراً تحتاج إلى تطبيب طويل، لكانوا رجّحوا كفة الصفع الذي لا يترك أثراً، بل يُحدث الطرب والسرور والتأديب الحسن دون شطط.
وقد ادّعى قوم، من أهل الجهل بأن الصفع يورث العمى وحجتهم في ذلك قولهم: "لأصفعنك حتى تعمى" فردّ عليهم: هاتوا دليلكم، فلم يقدروا. وأما معنى القول الذي احتجّوا به، فليس كما ذهبوا بل هو توكيد لوعيد المصفوع إن لم يرتدع، ستكون النتيجة استمرار الصفع ومن ثم ربط دوامية الصفع في حالة عدم الارتداع بمستحيل لا يحدث.
الصفع في زمننا
لم يكن شهاب الدين أحمد التيفاشي في (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب) إلا متندراً ساخراً وخاصة أنه أورد فصل طائفة "المنصفعة" في كتابه وجعل أكثره نكتة نادرة وحكاية مازحة وماجنة، وكان هدفه من ذلك الترويح عن الأنفس. لكن لا نستطيع إلّا أن نعجب ضاحكين من مراكز التجميل التي استوردت صيحة جمالية من تايلاند: ولقد جاء في الخبر بأنّ مراكز التجميل التايلاندية والأمريكية بدأت تعتمد الصفع على الوجه لفوائده في تنشيط الدورة الدموية وتأخير ظهور التجاعيد، إلا أن المحلّلين يرون بأن هذه الصيحة الجمالية لن يُكتب لها الاستمرار بسبب الآلام الجسدية والنفسية التي يسببها الصفع.
ومن عالم الجمال ننتقل إلى عالم الرياضة، فلقد استضافت مدينة كراسنويوسك الروسية أول بطولة هواة لـــ (ضرب الكفوف) أو الصفع على الوجه، حيث تناوب المشتركون على صفع بعضهم البعض حتى توّج أحدهم ببطولة الصفع على الوجه.
ذكريات، هل كانت سعيدة؟
الطيّارة مصطلح عامي، وهي صفعة على قفا الرأس يتبادلها الأصدقاء كي يضحكوا على صديقهم المصفوع، أو لتحقير المصفوع من قبل شخص حاقد عليه أو متكّبر، ممّا يورّث المصفوع الخزي والعار أمام من شاهدوه يصفع.
صفعة مدرب الفتوة، وهي صفعة لتأكيد الانضباط العسكري في مدارسنا الحكومية، ولقد جرّت هذه الصفعة وفق قانون أثر الفراشة الكثير من الويلات على مجتمعنا.
صفعة المعلم، وكانت صفعة محمودة وفقاً لقول الأهل للمعلم: "لك اللحم ولنا العظم" كان ذلك قبل أن يمنع الصفع والضرب في المدارس الحكومية والغريب في صفعة المعلِّم بأنها – يا للعجب- تُضحك من وقعت عليه بعد مضي الزمن، لربما هذا الضحك انتقام متأخر ممن كان يفترض فيه أن يكون قدوة في الإنسانية والرحمة.
صفعة المخابرات، وهي صفعة تذهب بك خلف الشمس...
صفعة القفا، وهي صفعة مستوردة من الغرب بعد شيوع الأفلام الرومنسية الغربية إلا أن هذه الصفعة مشهورة في تاريخنا غير أننا أحياناً ننسى أن تقرأ ونعرف ماضينا التليد.
الصفعة الدرامية، حيث يقوم أحد الممثلين بصفع الآخر، ولكي يوهمنا المخرج بصحة الصفعة لا بد أن يُسمع لها صوت، لذلك يقوم أحدهم بالتصفيق لحظة وقوع الصفعة على وجه الممثل المصفوع، وهنا يحق لنا أن نسأل: هل التصفيق المنتشر في بلادنا العربية صفعات مستترة تتلقاها الجماهير على وجوهها!؟
جاء في الأثر: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) ولأن تاريخنا مملوء بالمذابح من أجل الفوز بمقعد الفرقة الناجية، فهل تكون فرقة المنصَفِعة هي الفرقة الناجية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...