شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سكّان المقاهي... نعيشها كبيوتٍ للصداقات والعمل والاجتماعات السياسيّة أحياناً

سكّان المقاهي... نعيشها كبيوتٍ للصداقات والعمل والاجتماعات السياسيّة أحياناً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 27 يونيو 201901:52 م

أبدأ نهاري في المقهى محتسياً قهوتي، وقارئاً مقالات وفصول كتب وروايات ثمّ فاتحاً شاشة حاسوبي للشروع بالكتابة والتدوين، وكما يبدأ النهار في المقهى ينتهي فيه، متلذّذاً بأول كؤوس الأمسية، قبل الادّعاء أمام الذات بأن النهار قد أفل وحان وقت المرح.

وإن استطعت أن أقيس المسافات والوقت الذي أقضيه متنقّلاً بين مقاهٍ مختلفة اتخذتها مقرّاً لي، فأظنّ أن نصف عمري الآني قد بذرته على مناصي المقاهي.

وإن استطعت أن أقيس المسافات والوقت الذي أقضيه متنقّلاً بين مقاهٍ مختلفة اتخذتها مقرّاً لي، فأظنّ أن نصف عمري الآني قد بذرته على مناصي المقاهي. وهو أكثر بكثير مما قضيته في مكاتب الصحف، أو في نوادي الجامعة، أو داخل الشقق والبيوت التي عشت فيها. أنا الذي أعرف بين رفاقي بـ"كائن المقهى". وعلى الرغم من أن كائنات المقهى تبدو متبدّلة الأحوال والأمزجة، إلّا أنني أعدّ نفسي كائناً غير مرئي فيها. أمسي ظلّاً، متحداً بنفسه وبطاولته، إلى أن تحين المواعيد المتفرّقة، فيصبح المقهى مكتباً وملتقى لا أبرحه، واستبدل فيه ظلّي بآخر أكثر لطافة مما أكونه في العادة، حين أتمترس فوق كرسيي وفي مكاني الدائم.

الاغتراب الذاتي في المقهى

هنا ولا بدّ أن يكون طقس المقهى واحداً ولا طارئ فيه، فأختار طاولة دون أخريات. أميّز موقعها عن باقي مواقع شبيهاتها. اتخذها على الدوام ملجأ للساعات التي أسرفها خلف فكرة أو أسطر أو فصول أعمل عليها من شغلي الأدبي، أو مطارداً قراءات مبعثرة وشاردة لا أستطيع لملمتها إلّا في المقهى. كون المقهى ليس مكاناً عاديّاً يمكن للمرء أن يغترب فيه وحسب، بل نتمرّن في المقهى كي نمسي ما نحن عليه من كائنات فرديّة، لها صوتها وصمتها معاً.

كنت أتصوّر أن بداية علاقتي بالمقهى كمكان، ستتبدّى بمقهى واحد أو اثنين، وسيكون كلّ ما عداهما تكراراً أو انشغالاً بأماكن آنية لن يكون التعلّق فيها سارياً. لكني اكتشفت لاحقاً أنها سلسلة تتبدّل بين مدنٍ وأمكنةٍ ومسافاتٍ نقطعها مع الوقت والتجربة. ومعها تتكرّس المقاهي في يوميّاتنا وتصبح أليفة بشدّة، يصبح فراقها عسيراً. وحين تجد مقهى آخر، تجده بيتاً كامتداد لذاك البيت، أو بالنسبة لي لذاك المقهى القديم. فالمقهى في النهاية اختلاط لسيرورة الألفة والاغتراب الذاتي، بين غرباء لا يربطنا بهم إلا النادل أحياناً وابتسامات تمضي هنا وهناك، صوت "ماكينة الاسبرسو" أو الموسيقى الصادحة، وفي أحسن الأحوال مصافحات سريعة ومجالسات لا تعبر حدود المعرفة السطحيّة.

أوّل مقهى عمدت أن يكون مرتعاً للعمل، كان مقهى البينكي في طرابلس. هذا المقهى الذي عرف معظم صحافيي المدينة وكتّابها ونخبتها، خطوت فيه صبياً في السابعة عشرة من عمري. باحثاً عن مكاني بين الصحافيين.

يعدّ المقهى في تاريخه صحافيّاً مكاناً لتبادل الأخبار ونسجها. ففي بيروت عرفت المقاهي مكانتها في الصحافة. المقهى يصبح مكان سجالٍ ومركزية لنقل الخبر وطبخه قبل تحويله إلى كلمات ومصادر ومن ثم طباعته لصباحات البلد.

المقهى أسلوب حياة لكثيرين، أما نحن كائنات المقهى، كتبة زمن "الفريلانس"، فهو موقعنا الوحيد.

سكان المقهى

وأوّل مقهى عمدت أن يكون مرتعاً للعمل، كان مقهى البينكي في طرابلس. هذا المقهى الذي عرف معظم صحافيي المدينة وكتّابها ونخبتها، خطوت فيه صبياً في السابعة عشرة من عمري. باحثاً عن مكاني بين الصحافيين. تردّدت لاحقاً على مقهى بحري، لأبدأ فيه القراءة والعمل لساعات طويلة، مقهى "الشيخ عفان". مقهى يعدّ للعائلات لكنه يترك لي مساحةً منسيّة لاحتساء القهوة العربيّة، والشروع بمقال أمام لجّة البحر. وحين اكتشفت زاويتي الخاصّة في مقهى "أهواك" تعلّمت كيف أصوغ علاقتي مع "أهل المقهى" وسكّانه. إذ يتيح المقهى أن نختلط فيه ونعيشه، كسكّان ووافدين ولاجئين. فهناك سكان المقهى الذين لا يبرحونه إلا قليلاً كأمثالي، وهناك وافدون إليه باستمرار متقطع، وهناك من يلجأ إليه لاحتساء فنجان قهوة "على السريع". فهو مهرب ومستقرّ في الوقت نفسه. مهرب من حياة أخرى خارجة عنه وعن صلاته وعلاقاته، ومستقرّ لمبنى خاص بنا، نحن سكّانه، بعيداً عن انشغالات اليوم العاديّة واهتماماته الروتينيّة وشبكة علاقاته المكرّرة، ومنفصلاً عن بنية حركتنا وأمكنتها. فهو الفاصل الصغير لعوالمنا الخاصة، في المدن.

نسج الصداقات

في المقهى تعلمت نسج صداقات وعلاقات يمنحها المكان دون سواه من أماكن الترفيه والشغل، معنى آخر وبعداً ثقافيّاً وأنثربولوجيّاً، لا تتيحه أماكن أخرى، كالسينما مثلاً أو الملهى الليلي أو صالة البلياردو. وحين أقصد المقهى، أقصد البار أيضاً. إذ تتخذ مقاهي فرنسا (حيث أعيش) كمعظم بلدان أوروبا الوظائف بين بار ومقهى ومطعم أيضاً. ويفتح المقهى للزائرين مساحةً للحديث والمباشرة في التعليق على أمور وأحداث (سياسيّة أو فنيّة أو إنسانيّة)، ثم يجعل من التفاعل رموزاً وأساليب تزيد من الخبرة الشخصيّة ومن السؤال والحجج والنقاش والمقارعة.

في المقهى تعلمت نسج صداقات وعلاقات يمنحها المكان دون سواه من أماكن الترفيه والشغل، معنى آخر وبعداً ثقافيّاً وأنثربولوجيّاً، لا تتيحه أماكن أخرى، كالسينما مثلاً أو الملهى الليلي أو صالة البلياردو.

وربما كجماعة الكتابة والصحافة، نجد في المقهى مسارب وحاجات لا يتعاطى معها زوّار آخرون بالجديّة واللزوم اللذين نجد أننا نحيط بهما أنفسنا، فنجد المقهى مساحة لتبادل "اللغة الصحافيّة". لغة شارع ولغة تواصل. نستقي منه الخبر كصيغةٍ أولى وردّة فعل مباشرة. ويعدّ المقهى في تاريخه صحافيّاً مكاناً لتبادل الأخبار ونسجها. ففي بيروت عرفت المقاهي مكانتها في الصحافة. المقهى يصبح مكان سجالٍ ومركزية لنقل الخبر وطبخه قبل تحويله إلى كلمات ومصادر ومن ثم طباعته لصباحات البلد. وفي طرابلس الأمر لم يتبدّل، إذ كان المقهى مكاناً سياسيّاً أيضاً لخوض النقاش ومناكفة الخصوم والتيارات والأحزاب، وعرفت بعض المقاهي بتحزّبها وبنوعيّة زوارها. ففي مقهى "النغريسكو" عرفت المدينة وجود رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الجد، وعرفت مؤسّس السينما اللبنانيّة وعميدها الراحل جورج نصر، الذي كتب بروفات من سيناريوهات شغله على طاولة في هذا المقهى.

كتبة الفريلانس

ونحن كتبة زمن "الفريلانس". يصبح المقهى ملجأ بديلاً وحلّاً حقيقياً للمكتب. وجلوسنا لساعات خلف اللابتوب يجعلنا نتمكّن من التقاط خصوصية المكان وروائح جالسيه وخصالهم، ومن ثم تكبر فينا حواس أخرى، تبدأ بالحشريّة وتنتهي بالتعارف. نتعرّف على آخرين. نتخذ صداقات. نسدي نصائح. نستمع إلى اقتراحات. وحينها يتحول المقهى إلى مختبر. نكتشف فيه الحكاية وما خلفها. ومن ثم نشتغل عليها في ظلاله.

لطالما عرفت المقاهي تاريخياً التنظيمات السريّة واللقاءات المنظمة الحزبيّة والنقابيّة وخرجت منها أيضاً التظاهرات.

والمقهى يقوم بدور سياسي موازٍ للدور الذي تقوم به المؤسّسات العسكريّة والاجتماعيّة، من إثراء للحركة السياسيّة اليوميّة. فالمقهى هو ملتقى النقاش وفكرة تحديثيّة عن الاجتماع السياسي. ولطالما عرفت المقاهي تاريخياً التنظيمات السريّة واللقاءات المنظمة الحزبيّة والنقابيّة وخرجت منها أيضاً التظاهرات. وفي باريس، وهي أشهر مدن العالم، كُرّس المقهى كمكان سياسي وثقافي، فعرف مقهى "دو ماغو" في حي سان جرمان، معظم الأدباء وعباقرة الكتابة الشعرية. هناك مرّ كلّ من رامبو وبروتون والسورياليّون الجدد، وفيرلين ومالرميه وغيرهم من كتاب طليعيين في الشعر والرواية والفلسفة. وأيضاً كان مقهى "دو فلور" مرتعاً لجان بول سارتر والكاتب الفرنكفوني المصري البير قصيري، ومقهى "كوبول" كان مستقرّاً لصموئيل بيكيت.

وكان المقهى بارزاً في حياة الروائي المصري نجيب محفوظ، ويقول محفوظ في مقابلة مع جمال الغيطاني: "المقهى يلعب دوراً كبيراً في رواياتي. وقبل ذلك في حياتنا كلّنا. لم يكن هنا نواد، المقهى محور الصداقة. في البداية اتسع لنا الشارع، حتى تجرّأنا على المقهى. عرفتُ المقهى في سن مبكّرة، وأشهر مقهى جلسنا فيه "الفيشاوي" ثم "عرابي" ومقهى "زقاق المدق" و"الفروس"، مضيفاً: "كان فيه شيشة مُعتَبَرة، كنا نشرب الشيشة، ونحتسي بعض كؤوس الويسكي، ونستمع إلى أم كلثوم، آه.. ذكرتني بمقهى "أحمد عبده" الذي ذكرتُه في الثلاثيّة، وكان كمال يلتقي فيه بصديقه فؤاد الحمزاوي، هذا المقهى كنت أحبه، الحقيقة أنا سميته قهوة "أحمد عبده"، لا أذكر اسمه الحقيقي". وإضافة إلى محفوظ، كتب أيضاً الروائي المصري محمد البساطي، رواية بعنوان: "المقهى الزجاجي" مرتكزاً على المقهى في بنيته الروائية.

المقهى أسلوب حياة لكثيرين، أما نحن كائنات المقهى فهو موقعنا الوحيد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image