لا يختلف اثنان في العالم العربي على عدم ثقتهم في قدرة جامعة الدول العربية، في الفترة الحالية، على حل أية أزمة من أزمات المنطقة، بل ظهرت المنظمة الإقليمية العربية في كثير من القضايا كجسر للتدخلات الأجنبية في شؤون الدول الأعضاء.
في العديد من الأزمات بين الدول الأعضاء، أظهرت الجامعة انحيازاً لأحد الأطراف، ما أفقدها دور الوسيط في حل القضايا الخلافية، كما سجلات انحيازاً ضمنياً إلى جانب الحكومات في الدول التي شهدت تظاهرات غاضبة ضد الأنظمة الحاكمة، ما جعلها في موقف عداء مع الشعوب العربية.
يُلقي كثيرون باللوم في ضعف الجامعة على قيادتها الممثلة في أمينها العام أحمد أبو الغيط ومجلسه، وعلى ميثاقها الذي وضع في أربعينيات القرن دون إجراء أي إصلاح له.
أبو الغيط... الدبلوماسي المتحفظ
يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة حسن نافعة أن أبو الغيط تولى منصبه في فترة صعبة جداً شهدت تدهوراً كاملاً للجامعة بسبب انهيار النظام العربي، ويرى أن سلطته محدودة جداً ويستمدها من مجلس الجامعة وقدرة الدول الأعضاء على العمل معاً.
ويضيف لرصيف22 أن أبو الغيط لا يعرف عنه أنه مقاتل عروبي أو لديه لغة خطاب قومي عربي، مضيفاً أن الأمانة العامة تحتاج إلى شخص سياسي أكثر مما تحتاج إلى "شخصية دبلوماسية هادئة الطبع" مثله.
ويشير إلى أن شخصية الأمين العام الحالي "الدبلوماسية المحترفة الزائدة" خلقت خللاً في بنية الجامعة العربية، واطفأت دورها، مضيفاً أن الأمانة العامة كانت في حاجة إلى خطيب وسياسي متكلم وليس إلى "هذا التحفظ الدبلوماسي الشديد".
ويلفت نافعة إلى أن أبو الغيط لا يؤمن بالعمل العربي المشترك وليس ذو توجه عروبي قومي، ويختلف من هذه الزاوية عن كثيرين من السفراء والشخصيات الأخرى التي شغلت منصب الأمين العام أو كانت مرشحة له، إذ كانت تتبنى خطاباً قومياً.
ويعتبر أن أبو الغيط ما زال أسيراً للدبلوماسية المصرية التي عمل فيها ويسير في فلكها، ولم يستطع أن يكون أميناً عاماً لكل العرب، وهو ما يفسر عدم قدرته على أن يكون وسيطاً لحل الخلافات الداخلية.
ويؤكد نافعة أن حجم الأزمات العربية كبير للغاية، بما يتجاوز قدرة أي أمين عام على التعامل معها أو حلها، لذا فإن كثرة نقد أبو الغيط ربما يكون فيها ظلم له، لكن "لو كانت هناك شخصية أخرى أكثر لباقة وحركة لربما نجحت في تحريك الأمور بشكل أفضل".
في المقابل، يرى مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير جمال بيومي، أن شخصية أبو الغيط أدت أفضل ما يمكن القيام به، في مختلف القضايا، رغم أنه مقيد، وهو ليس الشخصية الضعيفة التي أضعفت الجامعة، لكن الأوضاع المتدهورة في سوريا وليبيا وغيرها من الدول الأعضاء أكبر وأقوى من قدرات أيّة شخصية عربية.
منظمات أجنبية لحل القضايا العربية
في 13 يونيو الجاري، انتقد أبو الغيط مجلس الأمن الدولي بسبب عدم اتخاذه إجراءات واضحة لحل الأزمات العربية، في تصريح يرى خبراء أنه يعكس عجز وضعف قيادة الجامعة التي تصدّر مشاكلها لمنظمة أخرى.
يعتبر حسن نافعة أن الجامعة تحولت بالفعل إلى جسر للتدخل الأجنبي في شؤون الدول العربية، سواء في عهد الأمين العام الحالي أو حتى قبله، مشيراً إلى أن سياسة تصدير الأزمات إلى مجلس الأمن الدولي الذي تسيطر عليه قوى غير عربية تعكس هروب قيادات الجامعة من حل الأزمات وتركها لأطراف أخرى لم تسهم في حل أيّة أزمات.
وأشار نافعة إلى أن هذه السياسة برزت في عهد الأمين العام الأسبق عمرو موسى، خلال الأزمة الليبية، حين صدر تفويض لمجلس الأمن يطالبه بالتدخل، ثم عاد واعترف بأن المجلس تجاوز التفويض واستغله عسكرياً.
وأضاف أستاذ العلوم السياسية المصري أن هناك لجوء متكرراً إلى جهات خارجية في الأزمات الدقيقة والحيوية في الوقت الراهن، يظهر إفلاس الجامعة، وعدم قدرتها على العمل، إذ تترك مصيرها لقوى لها مصالح تختلف عن مصالح القوى العربية، مشيراً إلى أن الأمين العام حين يؤمن بالعمل القومي العربي سيكون لديه هاجس من الاتجاه إلى مؤسسات دولية تخدم مصالح أعضائها.
لكن لبيومي وجهة نظر أخرى، ويقول لرصيف22 إن انتقاد السفير أبو الغيط لمجلس الأمن لعدم حله للأزمات العربية، هو انتقاد مشروع، والتوجه إلى مجلس الأمن لا غبار عليه، لأنه مؤسسة دولية معنية بمصالح كافة الدول، مشيراً إلى أن القضية الفلسطينية حصلت على العديد من القرارات التي تدين إسرائيل من المجلس بعد التوجه العربي إليه.
ثلاثة أمثلة على العجز
في الأسبوع الماضي استقبلت الصحافة السودانية زيارة أبو الغيط للخرطوم، بلغة حادة وهجوم قاسٍ وعلامات استفهام، مؤكدة أنه جاء بدون دعوة من أية جهة رسمية في البلاد.
يقول الكاتب السوداني بكري الصائغ في مقال له في صحيفة النخبة السودانية: "إذا ما رجعنا بالزمن قليلاً للوراء، وتحديداً إلى الفترة من يوم الأربعاء 19 ديسمبر 2018 وحتى السبت 15 يونيو الجاري، أي خلال الـ178 يومً الماضية، نجد أن الجامعة العربية قد أبعدت نفسها تماماً عن أحداث السودان، على اعتبار أنه شأن داخلي لا يحق للجامعة التدخل فيه!".
ويضيف أن أبو الغيط، "وجد نفسه في إحراج بالغ الشدة بعد الزيارات العديدة التي قامت بها شخصيات كبيرة لها وزن دولي في الساحة السياسية. جاؤوا إلى الخرطوم للمشاركة الجادة في حل المعضلة السودانية التي تفاقمت بعد أحداث مجزرة ‘القيادة العامة’، جاؤوا وكلهم تصميم على تسليم كامل السلطة للمدنيين، جاؤوا للخرطوم وهم ممتلئين بالغضب العارم من المجزرة التي قامت بها قوات ‘الدعم السريع’ ضد المعتصمين الأبرياء".
ويتابع: "جاء أحمد أبو الغيط مسرعاً إلى الخرطوم بعد خراب مالطا!"، متسائلاً عما إذا جاء "ليساند باسم الجامعة العربية جنرالات المجلس العسكري في البقاء بالسلطة".
يضيف الكاتب السوداني: "جاء أبو الغيط كآخر ضيف حل على الخرطوم، وبالطبع ليس عنده أي جديد ممكن أن يشارك به في حل المشكلة السودانية، على اعتبار أن كل السياسيين الأجانب الذين سبقوه بالزيارة قدموا كل مقترحاتهم وآراءهم وتصورهم لإنهاء المشكلة بتسليم السلطة للمدنيين بدون قيود أو شروط... فهل أبو الغيط عنده رأي آخر مخالف لرأي السياسيين الأجانب؟ أم هو موافق تماماً مع مقترحاتهم، وفي الحالة هذه تكون زيارته تحصيل حاصل".
"اعتماد جامعة الدول العربية في تمويلها على الحكومات العربية التي لا ترحب بثورات الربيع العربي جعلها تقف إلى جانب الحكومات والأنظمة، كما أن ولاء القيادات المعينة في الجامعة هي لمَن قام بتعيينها وليس للشعوب"
"جامعة الدول العربية لم تتمكن قط من السيطرة على أي ملف من ملفات المنطقة لأنها مؤسسة حكومات، وليست مؤسسة شعوب، والحكومات العربية لم تتفق قط على أي ملف أو موضوع بسبب ارتهانها للخارج وغياب المشروع القومي"
ملف القضية الفلسطينية هو ملف آخر فشلت فيه جامعة الدولة العربية في العقود الماضية. يرى المحلل السياسي الأردني الدكتور إياد المجالي أنها حققت الفشل الأبرز في هذه القضية المركزية إذ لم تنجح في اتخاذ أية إجراءات ضد أخطر قرار في تاريخها وهو قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، إضافة الى استمرار الاستيطان في الضفة الغربية.
يرى المجالي أن أبو الغيط أخفق مهنياً في القضية الفلسطينية، لافتاً إلى أن ذلك مرتبط بتفاعله وتجاربه العملية السابقة مع إسرائيل كدولة في سياق اتفاقية كامب دايفيد حين كان وزيراً للخارجية المصرية، ما أثر سلباً على أنشطة الجامعة العربية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومضيفا أن تجاوبه مع الأحدث متأخر وغير مناسب ولا يلبي طموحات شعوب الدول الأعضاء وخصوصاً الفلسطينيين.
في الخامس من ديسمبر 2017، نشر الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي على فيسبوك منشوراً يطلب فيه من "الأصدقاء" استخدام هاشتاغ #القدس_عاصمة_فلسطين بشكل مكثف، في مؤشر على عجز وغياب أدوات الرد على قرار ترامب من قبل قيادة الجامعة.
سوريا ميدان آخر لفشل الجامعة الذريع. يعتبر الكاتب والأكاديمي السوري الدكتور مهيب صالحة أن أحمد أبو الغيط كغيره من الأمناء العامين للجامعة لا دور له في القضية السورية، مضيفاً أن دوره يقتصر على إدارة المقر فقط، ولا يمتلك صلاحيات ملزمة للحكومات العربية، عدا عن أن ميثاق الجامعة يتطلب الإجماع العربي في القضايا العربية.
وأكد صالحة أنه طالما العرب منقسمون حيال المسألة السورية فإن الجامعة العربية لن يكون لها أي دور أو تأثير في مساراتها وإنما الدور والتأثير هما للدولتين العظميين روسيا وأمريكا وللدول الإقليمية، إسرائيل وإيران وتركيا.
ولفت صالحة إلى أن موقف أبو الغيط المتأثر بالموقف السعودي، وشروط ترامب على إيران للخروج من سوريا ووقف تدخلها في شؤون جيرانها، أثرت سلباً على مساحة تحركه.
هل تعادي الجامعة الربيع العربي؟
يقول "المركز الديمقرطي العربي للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية"، في دراسة أعدها محمد ربيع محرم الديهي وهاني محمد عبد الرسول بإشراف نجوى إبراهيم محمود، إن أزمة الجامعة العربية زادت لأن أداءها مع الثورات جاء أقل من المتوقع، فلم تتمكن من فرض ذاتها في منطقة عملها الرئيسية. ففي مصر وتونس، لم تتعامل مع وضع الثورة الذي باغتها وفاجأها، وفي اليمن تركت الأمر لمجلس التعاون الخليجي.
وتعرض الدراسة دور الجامعة "في البلدين اللذين بدا فيهما أن دورها حيوي" وتقول إن "أداءها كان نشطاً، لكنها لم تكن لديها قدرة على تنفيذ قراراتها".
ففي ليبيا، تتابع، "كان دورها دعوة العالم إلى التدخل وفرض حظر الطيران، وهو ما بدا من تحضيرها وتأييدها لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، والذي أجاز التدخل العسكري في ليبيا بإقراره ‘فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين’، التي كانت تعني العمل العسكري".
أما في سوريا، "فقد كشفت عن مظاهر ومؤشرات قصور سياسي ومهني. وعلى سبيل المثال، فإن اللجنة التي شكلتها الجامعة لتقصي الأوضاع في سوريا، والتي رأسها الفريق مصطفى الدابي، أواخر 2011 وأوائل 2012، لم تكن محل رضا من قوى الثورة في سوريا، ومن بعض الدول العربية التي أعلنت سحب مندوبيها منها، وذلك على أثر تقرير اللجنة الذي اعتبره الكثيرون، ومنهم فصائل الثورة والمعارضة في سوريا، منحازاً إلى جانب النظام، ورصدوا العديد من جوانب القصور والتناقض والانحياز به، ومن ثم طالت الشكوك مواقف الجامعة".
يقول حسن نافعة إن أبو الغيط كان جزءاً من نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الذي أطح به الربيع العربي في ثورة 25 يناير وهو ما قد يكون أثر سلباً على تفاعل الجامعة إيجابياً مع الأحداث في السودان والجزائر مؤخراً، وهو ما يفسر زيارته المتأخرة للسودان، مضيفاً أن عودته ربما مثلت إحباطاً للشعوب العربية التي كانت تحلم بالخلاص من الرموز القديمة.
ويضيف أن اعتماد الجامعة العربية في تمويلها على الحكومات العربية التي لا ترحب بثورات الربيع العربي جعلها تقف إلى جانب الحكومات والأنظمة، كما أن ولاء القيادات المعينة في الجامعة هي لمَن قام بتعيينها وليس للشعوب.
من جانبه يقول المحلل السوري مهيب صالحة إن الجامعة العربية لم تتمكن قط من السيطرة على أي ملف من ملفات المنطقة لأنها مؤسسة حكومات، وليست مؤسسة شعوب، والحكومات العربية لم تتفق قط على أي ملف أو موضوع بسبب "ارتهانها للخارج وغياب المشروع الوطني أو القومي في مواجهة المشاريع الإقليمية، الصهيوني والفارسي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...