"كرهت أن أكون صحافياً"... هذه العبارة المقتضبة تكفي لتلخيص واقع الصحافيين والصحافة في اليمن بعد أربع سنوات من الحرب المنسيّة التي شملت كل شيء ولم تستثنِ أحداً، فالتهمت فيما التهمت الصحافيين الذين يعملون على توثيق الحرب ومعاناة اليمنيين.
بين القتل والخطف والاعتداء، يعيش الصحافيون في بلد يُصنّف بأنه من الأسوأ في حرية الصحافة، لكن ذلك لم يبدُ كافياً إذ تُضاف لذلك معاناة جديدة أصبح الصحافي اليمني أسيرها بسبب قيود عديدة لم تعد تسمح له بمواصلة عمله.
قيود الموافقة
العاصمة صنعاء التي كان يجوبها الصحافي من شمالها إلى جنوبها دون أية معاناة و"لا يخاف إلا أن تنفذ بطارية كاميرته"، كما قال أحدهم مرة، تغيّر الوضع فيها، فبات الصحافي لا يقوم بأي شيء لأنه يخاف من كل شيء.
يحيى الحبابي، الصحافي والمراسل التلفزيوني السابق في قناة "اليمن اليوم" وقناتي "الدوري" و"الكأس"، كان قد قرّر أن يذهب إلى مدينة عمران (40 كيلومتراً شمال صنعاء) للعمل على إحدى القصص. ومن دون أية مقدمات، اعتُقل بحجة عدم التنسيق مع الجهات المختصة في المحافظة.
لم تشفع ليحيى بساطة القصة أمام القيود، التي فرضتها الحرب وليست القوانين. يروي لرصيف22 كيف تم إيقافه ثلاثة أيام وحجز معداته: "القصة التي كنت أعمل عليها قصة اجتماعية بسيطة وليست سياسية أو أمنيّة".
مع أن التنسيق لإجراء المقابلات يُعدّ أمراً طبيعياً، لكنه لم يكن عائقاً أمام الصحافيين اليمنيين في المراحل السابقة للعمل الصحافي حتى من بعد عام 2011، لكن منذ وقت قريب تغيّر الأمر.
يقول يحيى إنه لم يعد باستطاعته التصوير إلا بتنسيق وتصريح يستغرق الحصول عليه وقتاً طويلاً، معلقاً:"مع أنني أتفهم الوضع الأمني جيداً فإن الوقت الطويل الذي يستغرقه خروج التصريح قد يُعطّل إنتاج القصة".
يتساءل العديد من الصحافيين، من بينهم يحيى، كيف يمكن للصحافي الذي يريد أن يُنجز تقريراً بسيطاً لوسيلته الإعلامية أو حتى لقناة اليوتيوب الخاصة به أن يحتاج إلى تنسيق يستغرق أسبوعاً أو أكثر للحصول على تصريح من عدة جهات حتى لو كان التقرير خاصاً بصناعة الفضة في اليمن.
فترة ذهبية مؤقتة
مع بداية عام 2012، وبعد رحيل الرئيس السابق علي عبد الله صالح وانتخاب عبد ربه منصور هادي بديلاً عنه، عاش الصحافيون فترة ذهبية على صعيد حرية الصحافة والإعلام في اليمن.
امتدت تلك الفترة عامين، شهدت خلالهما حركة الإعلام اليمني زخماً واسعاً غير متوقع، فانطلق عدد من القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية وسط اهتمام المنظمات المحلية والدولية بالإنتاج الإعلامي، مستغلة هذه المساحة الواسعة من الحريات.
واستطاعت وسائل الإعلام الضغط حتى تمّ إصدار قانون حق الحصول على المعلومة، لتكون اليمن واحدة من خمس دول عربية فقط أصدرت مثل هذا القانون.
لكن مع دخول "أنصار الله" إلى صنعاء عام 2014، تعطّل العمل بالقانون، وانقسمت العاصمة بين الحوثيين والمؤتمر الشعبي العام الذي يرأسه صالح، ولم يعد هنالك مكان لوسائل الإعلام المحليّة الأخرى والصحافيين غير العاملين في وسائلهم، ثم ازداد الوضع سوءاً مع تدخل التحالف العربي في اليمن.
مع ذلك، ظلّ هناك هامش معقول من حرية التحرّك للصحافيين في ظلّ وجود أكثر من طرف قوي على الأرض. لكن عندما شهدت صنعاء صراعاً قصيراً، يُعرف بأحداث الثاني من ديسمبر 2017 وانتهى بمقتل صالح على أيدي شركائه، تغيّر الوضع كثيراً.
فوجئ الصحافي جميل الصامت، أثناء تلقيه العلاج في أحد مستشفيات تعز، بجنود من البحث الجنائي يعتقلونه… قصته بين قصص عديدة يرويها صحافيون يمنيون عن دوامة الأذونات الصعبة و"البحث الجنائي"
لا تبدو الصورة في مناطق سيطرة الحكومة المُعترف بها دولياً أقل قتامة منها في صنعاء… حيث يُسيطر "أنصار الله" يعرف الصحافي من يعرقل عمله، في المناطق الأخرى الأطراف متعددة والمعرقلون كثر والمنتهكون حقوق الصحافي غير معروفين
لم تعد صنعاء إلا مدينة الصوت الواحد والنظام الواحد، إذ سيطر "أنصار الله" على مفاصل المؤسسات، وبات الصحافي مُحاصراً بالإجراءات الروتينية المعقدة لإنتاج أي قصة، حتى القصص الإنسانية والاجتماعية.
الصحافية أمل عباس، كانت قد قررت أن تتابع قصة تزايد تسرّب الطلاب من المدارس الثانوية وتوجههم نحو سوق العمل، إلا أنها لم تتمكن من ذلك لسبب يبدو بسيطاً لكنه أصبح من المتطلبات المعقدة.
تُخبر أمل رصيف22 عن تواصلها مع أحد المديرين في إحدى الوزارات لتطلب منه إجراء لقاء صحفي تسأله فيه عن الأرقام فقط، لكن الوزير طلب أن تأتي بتصريح من وزارة الإعلام كي يجري اللقاء، وإلى الآن لم تتمكن من الحصول على التصريح.
تختم أمل بالشكوى كيف أن هذه الإجراءات الجديدة جعلت إنتاج القصص الإنسانيّة محدوداً، فلا مانع من الحصول على أي تصريح من أي جهة إلا أن إجراءات ذلك باتت معقدة وتستغرق وقتاً طويلاً.
وسائل إعلام خاصة
كان الصحافي حسن عبد الرحمن يعمل على تحقيق استقصائي حول فساد المساعدات الإنسانية في اليمن. عند توجهه إلى إحدى المؤسسات الحكومية المدنية، والتي من المفترض أن تنشر تقاريرها بشكل دوري عبر موقعها الالكتروني، التقى حسن مدير هذه المؤسسة وطلب منه معلومات، فأتاه الردّ بأنهم "لا يحبون الإعلام ولا يثقون بالصحافي".
لم يستسلم حسن وحاول التواصل معه عبر أشخاص معروفين لديه إلا أنه أصرّ على رفضه حتى إنه رفض إجراء حوار قصير لتوضيح بعض الحقائق. مما قاله مدير المؤسسة: "قمت قبل أيام بمقابلة مع قناة المسيرة (القناة الرسمية لأنصار الله)، ارجع إليها وخذ ما تريد منها". ورغم توضيح صالح أن موضوعه مختلف، بقي الرد "ارجع لقناة المسيرة وخلاص".
الصحافة والبحث الجنائي
لا تبدو الصورة في مناطق سيطرة الحكومة المُعترف بها دولياً أقل قتامة منها في صنعاء.
في مناطق سيطرة "أنصار الله" يعرف الصحافي على الأقل من يعرقل عمله، أما في المناطق الأخرى فالأطراف متعددة والمعرقلون كثر والمنتهكون حقوق الصحافي غير معروفين في كثير من الأحيان.
كان مراسل "العربي الجديد" في مدينة تعز وجدي السالمي يعمل على توثيق العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، حين تلقى استدعاء من البحث الجنائي في المدينة للتحقيق رغم أن تهمته ليست جنائية.
يروي وجدي لرصيف22 ما حدث يوم 19 فبراير الماضي. في ذلك اليوم، تلقى اتصالاً من ضابط في البحث الجنائي يطلب منه الحضور للتحقيق، وفقاً لمذكرة من النيابة بتهمة الإساءة للجيش والأمن، مع تهديد بتحرير أمر قبض بحقه إذا تخلّف عن الحضور.
يقول وجدي: "العمل الصحافي في اليمن يواجه العديد من التحديات والحرب الحالية تؤثر في البيئة الصحافية، وقد انحرفت الصحافة عن وظيفتها الاساسية المتمثلة في كشف الحقيقة، في حين يواجه العديد من الصحافيين الذين رفضوا الانحياز للأطراف المتصارعة القمع والاعتقال والملاحقات القضائية".
ووفقاً للقوانين، فإن محكمة الصحافة هي المحكمة المتخصصة في النظر إلى هذا النوع من القضايا، وقد أُنشئَت عام 2009 للنظر في جرائم العلانية والنشر وجميع الدعاوى المتعلقة بقضايا الصحافة والمطبوعات المنصوص عليها في قانون الصحافة والمطبوعات، بحيث يشمل اختصاصها القضايا المُشار إليها في جميع محافظات اليمن.
وفقاً لتقرير أصدره "مركز الإعلام الاقتصادي"، قُتل 42 صحافياً منذ انطلاق الأحداث عام 2014 وليس هناك طرف واحد يقوم بهذه الانتهاكات وإنما أطراف الصراع جميعها
من جهته، فوجئ الصحافي جميل الصامت، أثناء تلقيه العلاج في أحد مستشفيات مدينة تعز، بجنود من البحث الجنائي يعتقلونه بحجة التحقيق معه في تهمة نشر قضايا تتعلق بالجيش الوطني.
وبالرغم من مطالبة العديد من المنظمات الحقوقية الإفراج عن الصامت، لم يستجب البحث الجنائي فوراً وظل محتجزاً الصامت أكثر من ستة ايام.
اليمن… في المرتبة 168
ما يحصل من تعديات، دفع نقابة الصحافيين اليمنيين للمطالبة، في بيان لها في فبراير الماضي، الحكومة الشرعية بإيقاف هذا التوجه المعادي للحريات.
يقول نبيل الأسيدي، عضو مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين لرصيف22، إن العمل الصحافي المستقل في اليمن دُمّر تماماً لأسباب عديدة، أبرزها الاصطفاف المخيف مع أطراف الحرب المتصارعة.
ويُضيف الأسيدي أن الاجراءات المتبعة في صنعاء وفي عدن وتعز أشبه بإجراءات الميليشيات، إذ ليس هناك دولة أو قانون وكل من يتعرض لأي انتقاد صحفي يلجأ إلى الاعتقالات والاعتداء.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي يعيش فيها مئات الصحافيين، فقد الكثير منهم حياته أثناء تغطيته الحرب.
ووفقاً لتقرير أصدره "مركز الإعلام الاقتصادي"، قُتل 42 صحافياً منذ انطلاق الأحداث عام 2014 وليس هناك طرف واحد يقوم بهذه الانتهاكات وإنما أطراف الصراع جميعها.
ويشرح محمد اسماعيل، المدير التنفيذي للمركز، لرصيف22 الأمر: "رصدنا في مرصد الحريات الإعلاميّة منذ بداية عام 2018 حتى مارس 2019 نحو 163 حالة انتهاك متنوعة ضد الصحافة".
ويُعتبر هذا الرقم مهولاً، انعكس في "تصنيف حرية الصحافة العالمي" للعام 2019، الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، إذ احتل اليمن المرتبة 168 من أصل 180 دولة، متراجعاً مرتبة عن عام 2018.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين