جلستُ أشاهد فيلم "الممرّ"، كثيرةٌ هي الأسباب التي دفعتني لقطع تذكرةٍ في عيد الفطر، إذ أن دور السينما مزدحمة، والحصول على تذكرةٍ لفيلمٍ جماهيري نوعٌ من المعاناة، لكن ذلك يهون أمام فيلمٍ حربي، ومنذ زمن لم نر تلك النوعيّة في السينما المصريّة، أضخم إنتاجٍ سينمائي إذ تجاوزت تكلفته 65 مليون جنيه، أضف لذلك أن المشاركين هم كوكبةٌ من نجوم الصفِّ الأوّل، بجانب مخرجٍ كبيرٍ مثل شريف عرفة، وموسيقى تصويريّة بأنامل عمر خيرت، كلُّ مقوّمات النجاح تدفعك لمشاهدة الفيلم.
كان في داخلي إحساس آخر أن هذا الفيلم لن يُكرّر سذاجة معظم الأفلام الحربيّة السابقة، ولكن..
كان في داخلي إحساس آخر أن هذا الفيلم لن يُكرّر سذاجة معظم الأفلام الحربيّة السابقة، لن أرى شَعر محمود ياسين ثابتاً ومنمّقاً وملابسه "مكوية" وهو يحارب، ولن أشاهد حسين فهمي بـ"مكياج" يُنير وجهه وهو يعلن ساعة بدء حرب أكتوبر 1973، بما أن ما يناقشه "الممرّ" فترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 حيث الجنود مُهملون ومهزومون ومنكسرون ومُحبطون، وبالتالي، فمن المفترض إن المشاهدة ستكون ممتعة.
حوالي 120 دقيقة كانت كافيةً لتُصيبني بالإحباط، قصّة الفيلم عن فريقٍ من جنودٍ وضباطٍ مصريين بعد هزيمة يونيو 1967، يستعيدون همّتهم وترتفع روحهم المعنويّة، ويوكل إليهم مهمّة تدمير معسكرٍ إسرائيلي، لكن معلومات تفيد بوجود أسرى مصريين في هذا المعسكر، فيتمُّ إلغاء العمليّة لكن قائد الفريق "أحمد عز" يتمرّد على الأوامر، ويقرّر من منطلق البطل الأسطوري تنفيذ المهمّة ويستعين بدليل من أهل سيناء، وهكذا تنتهي العملية وينتهي الفيلم في ملخّص.
حوالي 120 دقيقة كانت كافيةً لتُصيبني بالإحباط.
إن كنتَ من محبّي مشاهد المعارك الحربيّة فهو من ناحية الإخراج فيلم جيّد، الصورة وزوايا التصوير ينطبق عليهما نفس الوصف، ستخرج من الفيلم بروحٍ معنويّةٍ مرتفعة تجعلك راغباً بالفتك بكلِّ ما يمس مصر بسوء، لهذا لا عجب من أن منتخب كرة القدم المصري شاهد الفيلم استعداداً لبطولة إفريقيا 2019.
لكن إن كنت من هواة الأسئلة المزعجة وعدم الانبهار المطلق مثلي، فكثيرة هي علامات الاستفهام، فأيّ فترة يناقشها هذا الفيلم؟ هل هذا حال الجنود بعد هزيمة يونيو؟ مع كلِّ مشهد شعارات حنجورية، وللأسف ملابس منمّقة أيضاً، وإقبال على الموت. لا خوف، لا تردّد، لا إحباط، مقابلة العدو بالنسبة إليهم سهلة، وعدم الانصياع للأوامر نوعٌ من البطولة، والتركيز على الهدف دقيقٌ، ذلك يحدث بعد حربٍ كان قرار الانسحاب فيها كلمةً واحدةً "انسحبوا" دون أيّ خطة؟
كثيراً ما تساءلت عن تلك الصورة التي ترسمها معظم الأفلام الحربيّة التي تناولت حروب مصر، بدءاً من المقاومة الشعبيّة أثناء عدوان 1956، ومروراً بهزيمة يونيو وحتى انتصار أكتوبر، فيلم "الممرّ" لم يكن استثناءً، الصورة كما هي بمعالمها الثابتة: جنود طرزانات، شعارات عالية، تركيز على الهدف، وإقبال على الموت، جميع الجنود على تلك الحالة، الحرب بالنسبة لهم نزهة، واستشهاد الرفاق بجوارهم لا يحرّك ساكناً لهم، وبالطبع لا مكان للخيانة والتردّد والتراجع، هذه صورة ضدّ الطبيعة البشريّة نفسها!
في حوارٍ سابق لي مع اللواء نبيل صادق، أحد أبطال حرب أكتوبر، قالها صراحة، الجنود "بالوا على أنفسهم" حين سمعوا أن الحرب ستبدأ، ذلك رغم الاستعداد الجيّد لمعركة العبور، قالها لي بكلِّ فخر ليؤكّد مدى الخوف الذي يجسّد حقيقة معنى البطولة والإنجاز.
لا يمكن إغفال دور السُلطة في كلّ ذلك، فالأفلام الحربيّة لا بد أن تخضع لموافقة القوات المسلّحة في الأساس.
في فيلم "حارس حقل الشوفان" الذي يناقش حياة الكاتب "ديفيد سالينجر" في شبابه خلال الحرب العالميّة الثانية، يخبره رئيسه في الجيش أن الطعام لن يكون فيه لحوم، قطعة اللحم ستظهر في الليلة السابقة للقتال فقط، وحين يدخل ذات يومٍ لتناول طعامه ويجد قطعة اللحم لا يستطيع أكلها من الخوف، جميع رفاقه ظهروا خائفين لا يأكلون طعاماً، رغم إنهم حقّقوا انتصاراً ساهم في تغيير مسار الحرب العالميّة الثانية بكلِّ بشاعتها.
في السينما المصريّة، هناك فيلم يناقش تلك الوجهة، من قبيل الصدفة أن اسمه "أغنية على الممرّ"، لكنه "ممرّ" مختلف، قصّة الفيلم الذي ظهر عام 1972، تتناول شاويشاً معه مجموعة من الجنود أثناء هزيمة يونيو 1967، تمّ قطع الاتصالات عنهم فأصبحوا وجهاً لوجه مع العدو الصهيوني، دون أيّ إمدادات أو دعم، ورغم إنه فيلم حربي إلا أن مشاهد المعارك قليلة جداً، لكن العنوان الرئيسي للقّصة هو حكاية كلّ فردٍ ومشاعره.
لم يعتمد مخرج الفيلم، علي عبد الخالق، على الصورة الأسطوريّة للجنود، بل تحدّث عن أفرادٍ من لحمٍ ودم، بداية من "شوقي" الذي جسّد دوره الفنان محمود ياسين، حامل مدفع يتميّز بدقّة التصويب، لكن أين "شوقي" قبل الحرب؟ إنه شاب ثائر على كلِّ النظم التقليديّة، حاول مناقشة أستاذه الجامعي في تطوّر شكل القصّة الحديثة فاتهمه بالفشل، حاول تطوير طريقة التدريس في عمله فُفصل منه، هذا الفاشل من وجهة نظر المجتمع هو الجندي الذي يدمّر دبابات العدو، الأهم إنه لا يصدّق ما يفعله حين يثنى عليه زملاؤه فيقول لهم "دي ضربة حظ"، أما الجندي الثاني فملحّن، يظلُّ طوال الفيلم يفكّر في لحنه الذي يريد أن يخرجه للنور، أما العسكري "منير" الذي جسّده الفنان الراحل صلاح قابيل، فهو الشاب الانتهازي، الذي تزوّج من مومِسٍ وعاش من كدِّ لحمها، ساخر طوال الوقت، لا يصدّق إنهم سينتصرون أو يصمدون، يضحك على أقوال زملائه عن البطولة، وفي النهاية يرفض الأوامر ويذهب للعدو من أجل شربة ماء فيلقى حتفه.
يريد علي عبد الخالق أن يقول لنا إن هؤلاء هم جنود مصر، ثائرون وانتهازيّون ويفكّرون في المزيكا وآخرون يفكّرون في الزواج ويخافون من الموت، أيّ صورة بشرية 100%.
هل هذا حال الجنود بعد هزيمة يونيو؟ مع كلِّ مشهد شعارات حنجورية، وللأسف ملابس منمّقة أيضاً، وإقبال على الموت. لا خوف، لا تردّد، لا إحباط، مقابلة العدو بالنسبة إليهم سهلة؟
كثيراً ما تساءلت عن تلك الصورة التي ترسمها معظم الأفلام الحربيّة التي تناولت حروب مصر... فيلم "الممرّ" لم يكن استثناءً، الصورة كما هي بمعالمها الثابتة: جنود طرزانات، شعارات عالية وإقبال على الموت، جميع الجنود على تلك الحالة، الحرب بالنسبة لهم نزهة.
ففي بلدٍ يحكمها قادةٌ عسكريّون منذ أكثر من نصف قرن، باستثناءات بسيطة، ويقوم أساس حكمهم على حفظ البلاد من أي عدوٍّ خارجي، يصبح الاهتمام بالجيش وتصويره على أنهم وحوشٌ شرسة ضمن صورة دعائيّة لقوّة الحاكم.
لماذا لم يتكرّر هذا النموذج؟ لا يمكن إغفال دور السُلطة في كلّ ذلك، فالأفلام الحربيّة لا بد أن تخضع لموافقة القوات المسلّحة في الأساس، لكن هذا لا يكفي، ففي بلدٍ يحكمها قادةٌ عسكريّون منذ أكثر من نصف قرن، باستثناءات بسيطة، ويقوم أساس حكمهم على حفظ البلاد من أي عدوٍّ خارجي، يصبح الاهتمام بالجيش وتصويره على أنهم وحوشٌ شرسة ضمن صورة دعائيّة لقوّة الحاكم.
بل ربما فيلم "أغنية على الممرّ" نفسه قد تمّ تمريره بقرارٍ لتلك الغاية، فليس من المستبعد أن الرئيس الراحل أنور السادات أراد أن يقول لمن يتهمونه في عام صدور الفيلم 1972، بأنه لا يريد الحرب، أن الحرب بدون تخطيطٍ ستؤدّي لمصير هؤلاء الجنود المقطوع عنهم الاتصال وسيلقى أغلبهم حتفه، أراد أن يقول إن هذا جيش عبد الناصر، ولكن بعد انتصاره في حرب أكتوبر عاد لصورة الطرزانات.
الضرر الذي شعرت به حين خرجت من فيلم "الممرّ" وغيره، أن تلك أفلاماً تعبويّةً وليست سينمائيّة على الإطلاق، وهذه ليس سُبّة إن كان من جهته الصحيحة، فكلّ الجيوش تلجأ للتعبئة ورفع الروح المعنويّة بشتى الطرق، وعلى رأسها الأفلام، ولكنها أفلام موجّهة ولا تُطرح في دور السينما، أما الإنتاج السينمائي فله دورٌ آخر بعيد عن الدعائيّة، السينما يعني توصيف ما يحدث، وإظهار كلّ الجوانب بدلاً من إظهار جانبٍ واحدٍ، خاصّة أن ذلك لن يقلّل من التفاخر بالأبطال، وبالنسبة لي، الأهم أن أرى جندياً عادياً يفعل المستحيل، فذلك يعطيني كمشاهد، ثقةً في أني أستطيع أن أفعل مثله، لا طرزان أعجز عن أداء دوره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...