شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
خُلقنا لنتحرّك لا لنعبد الروتين

خُلقنا لنتحرّك لا لنعبد الروتين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 11 يونيو 201906:17 م

كان يصحو من نومه كلّ ليلةٍ باكراً عند أوّل صيحةٍ للديك، يصعد إلى سطح منزله كي يشاهد بزوغ شمس يومٍ جديد. يشعل سيجارته الأولى قبل أن يشرب الماء، قبل أن يغسل وجهه حتّى. يتأمّل الكون الذي يولد كلَّ يوم. يسأل كثيراً وسرعان ما تتلاشى رغبته الملحّة في إيجاد الأجوبة. غرضه من السؤال هو السؤال فقط، لا ينتظر أن يكتشف شيئاً بعد، على حدّ قوله إنّه اكتفى من قدر المعرفة الذي بحوزته.

كنت مثل هذا الرجل، أراقب التغيير الذي يصيب الجميع معتقدةً أنّني أنا الشيء الثابت الذي لا يتغيّر في هذا الكون، كأن حياتي لا تمرّ قربها رياح التجديد والمغامرة.

السيجارة مرّة أخرى، وبعدها يحين موعد الفطور. كسرة خبزٍ صغيرة مع مربّى المشمش وشاي مرّ، لأن السكّري اللعين لا بد أن يباغته فجأة وينقضّ على جسده الهشّ. الشاي الحلو سيكون هو السبب الرئيسي للإصابة بمرض السكّري، أمّا غيره فلا يهم. سكّان هذه المنطقة لا يموتون ولا ينقصون، اعتادوا جميعهم أسلوب حياتهم حتى بات الموت شيئاً دخيلاً غير مألوف.كلُّ شيءٍ حوله لم يتغيّر، منذ أن اتخذ عادة الجلوس على سطح منزله في المخيّم والتدخين ومراقبة الناس. البناء أمامه ثابتٌ، أثر الرصاص الشاهد على الحروب التي مرّت، لا يزال واضحاً على المبنى الملاصق له. الجيران لم يتغيّروا، كبروا قليلاً، لكنّ أحدهم لم يرحل من مكانه منذ فترةٍ زمنيّةٍ طويلة.

يحرّك مكان كرسيه كلّما انتصفت الشمس في عرض السماء، يتبعها ويُشعل سيجارةً جديدة. لا يودّ أن يحرّك عظامه حتى، كلّ يوم يبدأ صراعه مع نفسه ليكتشف قدرته على القيام عن الكرسي، والركض لأربع مرّات على سطح البناء والصراخ عالياً. كلّ يوم يقرّر أنّه سيفعل هذا الشيء غداً، ولا يأتي هذا الغد.

الشمس تدور حوله، وهو ثابت. لا يفعل شيئاً سوى التدخين ومراقبة الناس. يبتعد قليلاً عن عالمه الخاص ليشتري بعض أغراضه من الدكانة بجانب البيت. يركض نحوها ثمّ يتذكّر أن عليه المشي بهدوء كي لا يُجهد عظامه المهترئة، لا تزال الشظيّة داخل قدمه اليسرى تشهد على أفعاله وقوّته، عندما تطلب الأمر أن يحمل سلاحاً ويقف على سطح منزله ليحمي المخيم.

طوال عشر سنوات، كان الجلوس على سطح المنزل عمله الروتينيّ كلّ يوم. ينتظر مغيب الشمس كي يخلد إلى النوم ويصحو مجدّداً في اليوم التالي. يراجع جميع من رآهم، يتذكّر الوجوه وتأتي الأسئلة.

أنا أيضاً أقضي جلّ وقتي في طرح الأسئلة والتأمّل في وجوه الناس؛ كيف يستطيع شخصٌ أن يقضي حياته في إعادة للأحداث؟ كيف يستطيع كائنٌ حيّ أن يبقى مكانه بينما هناك الكثير في هذه الحياة لم يُكتشف بعد؟
لم نخلق يوماً آلات مبرمجة لفعل شيء واحد، لم يربط الله أقدامنا في أرضٍ واحدةٍ، لا يحدّنا شيء ولا ينكرنا شيء، ولسنا أقلّ من الحياة لكي نعيشها بسلام وحبّ وتجارب جديدة.

لماذا صرنا بهذا الثبات والجميع حولنا يتحرّك؟

كنت مثل رجل الشمس هذا، أراقب التغيير الذي يصيب الجميع معتقدةً أنّني أنا الشيء الثابت الذي لا يتغيّر في هذا الكون، كأن حياتي لا تمرّ قربها رياح التجديد والمغامرة.

قبل سنة من الآن، كانت الأشياء مختلفة كثيراً عما هي اليوم، لكنني لم ألحظ هذا التغيير إلا عندما قرّرت أن أصعد على سطح منزلي، وأتأمّل الشمس منذ لحظة شروقها حتى مغيبها، كأنّني أشاهد فيلم حياتي أمامي، وأكسر قاعدة يومي بأن أذهب إلى العمل يوم الإثنين، وأن ألتقي أصدقائي في مقهى بسيط في بيروت. كانت الشمس صديقتي في هذا اليوم، تؤدّي عملها كما لو أنّه أجمل شيء تقوم به. أمّا أنا، فأعتقد بأن أجمل ما تفعله الشمس لنا هو وجودها على حفّة السماء في وقت المغيب، تماماً كما يتصوّرها ويرسمها طفل في صفّه الأوّل.

 كلّنا راحلون، لا تكونوا عباداً للعادة واكسروا روتين يومكم بأيِّ شي، أصرخوا بصوت عالٍ عندما تحزنون، وقولوا بأنّنا خلقنا لنترك أثراً، لا لنرى الموت كلَّ يومٍ ونبقى على قيد الحياة.

أنا أيضاً مثل هذا الرجل، أقضي جلّ وقتي في طرح الأسئلة والتأمّل في وجوه الناس. أضيع بينهم وبين ما اعتادوا فعله. كيف يستطيع شخصٌ أن يقضي حياته في إعادة للأحداث؟ كيف يستطيع كائنٌ حيّ أن يبقى مكانه بينما هناك الكثير في هذه الحياة لم يكتشف بعد؟

لا أنكر بأنّني وصديقي رجل الشمس هذا نفكّر كثيراً، ونضيّع الكثير من أيامنا في هذه الأشياء. ماذا لو فكّرت بالذهاب لأسهر منتصف الأسبوع لا في أيام العطلة، وماذا سيحدث لو محيت أثر هذه الرسمة على حائط الصالون وأعدت طلاءه بلونٍ أحمر فاقع؟ ماذا لو أكملت دراستي الجامعية في سن الثلاثين، وماذا لو قلنا في عزاء الميت "عقبال عندك" بدل "البقية بحياتك"؟ لنكن منطقيين، إذا كانت حياتنا عبارة عن تكرار الأيام وعدّها، ألا يكون من الأجدر بنا أن نموت لنكتشف تجربةً جديدةً نكتشف أحداثها ونعود للحديث عنها؟

لم نخلق يوماً آلات مبرمجة لفعل شيء واحد، لم يربط الله أقدامنا في أرضٍ واحدةٍ، لا يحدّنا شيء ولا ينكرنا شيء، ولسنا أقلّ من الحياة لكي نعيشها بسلام وحبّ وتجارب جديدة.

غداً سيعرف رجل الشمس بأن السكّري قد أصابه منذ عشرين عاماً، حتى قبل أن يتقاعد ويصبح صديقاً للشمس كما أعرفه أنا. سيدرك أن الشاي المرّ لن يقيه المرض، وأن السكّري غدّار كما الروتين والوحدة، وأن نظرةً واحدةً لهذه الحياة من بعيد تجعلنا قادرين على فهم أنّها لا تدوم، وأن علينا أن نعيشها كما هي، من دون قواعد ومعارف وعادات وممنوعات.

غداً سأنظر إلى وجهي عن طريق الخطأ، وألحظ التجاعيد الجديدة وانتفاخ عيني، وشعرة بيضاء لا تكاد ترى، لكنني أستطيع أن أراها بين ألفين غيرها. غداً ستصبح الحياة عبارةً عن ندمٍ كبيرٍ نشعر به في كلِّ يوم نقضيه من دون فعلٍ رائعٍ وذكرى جديدة.

يا أصدقائي كلّنا راحلون، لا تكونوا عباداً للعادة واكسروا روتين يومكم بأيِّ شي، أصرخوا بصوت عالٍ عندما تحزنون، وقولوا بأنّنا خلقنا لنترك أثراً، لا لنرى الموت كلَّ يومٍ ونبقى على قيد الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image