تفتح التجربة اللبنانية في مجال النضال الجندري، خصوصاً في مجتمع الميم، النقاش على مفاهيم وأنساق لا بدّ من تفكيكها وإعادة صياغتها على نحو يتناسب مع الواقع المعيوش بين الجمعيات الناشطة من جهة والأفراد المنتمين الى هذا المجتمع المُهمّش من جهة أخرى، وبين فئة لا بدّ من إشراكها في عملية التبادل والمناصرة من المواطنين كجزء من هذا التفاعل المدني والحقوقي والاجتماعي والإعلامي.
ولكون الإعلام في عداد أبرز الأدوات المساعدة في دعم قضايا الهوية الجندرية والميول الجنسية، من المهم اليوم رصد "منطق" هذا الإعلام وخطابه تجاه هذه الفئة وتصحيح لغته المستخدمة وسيميائيتها.
والبدء بعملية تصحيح أول خطأ يقع فيه الإعلام والناشطون في مجال الجندرة باستخدام كلمة "تسامح" للتحدث عن واقع لبنان اليوم، باعتباره أكثر البلدان العربية انفتاحاً على قضايا الجندر والميول الجنسانية.
وأطرح من هذا المنطلق ألف سؤال وسؤال عن ماهية وشكل هذا الانفتاح بالأصل وتجذراته وتحولاته في توقيت ظرفي يعيش فيه البلد تناقصاً في الحريات خلال ما بات يُعرف بـ"العهد القوي".
ومن مصائر التضييق على المثليين، إصدار وزارة الاتصالات اللبنانية مذكرة تفيد بـ"حظر كامل لموقع المواعدة غرايندر"، والذي بدأ العمل به هذا الأسبوع. وتعد هذه المذكرة انتهاكاً صارخاً للحريات الشخصية وحقوق المواطنين المثليين، وهي مخالفة لما ينص عليه قانون المعاملات الرقمية وحماية البيانات الذاتية الذي أصدره لبنان قبل عام فقط.
إلغاء كلمة تسامح
أبدأ بكلمة "تسامح" التي تُستخدم كثيراً في الإعلام اللبناني للحديث عن واقعنا كمثليين في لبنان، لأنها الأكثر استفزازاً. فليس قدرنا نحن المثليين/ات والعابرين/ات جنسياً أن يسامحنا المجتمع، لأننا لم نرتكب خطأ بحق أحد.
على العكس، لقد مورست ولا تزال تُمارس علينا، أفراداً ومؤسسات ناطقة بهذا المجال، كل الأخطاء الممكنة والمستحيلة لإسكاتنا وتكدير حياتنا والتعرّض لنا بأدوات السلطة كلها (سياسية وعسكرية ودينية واجتماعية)، ومنعنا من ممارسة حقوقنا الطبيعية كمواطنين باقين في البلد أو هجرناه. فالتسامح إساءة لنا وعلينا إلغاء هذه الكلمة من قاموسنا الجمعي والفردي، والتعاطي معنا كجزء لا يتجزأ من هذا المجتمع.
ومن منطق المساواة، نحن لا نحتاج إلى أن يتسامح معنا المجتمع بل أن يعترف بنا قانونياً أولاً، ويعتذر منا لما اقترفه بحقنا كلنا، ومن ثم التعامل مع قضايانا من باب دستوري وقانوني وعبر أجهزة الدولة والوزارات، مثلنا مثل فئات أخرى.
وبالعودة إلى فكرة النضال، فإن هذا الحراك لدى المثليين/ات والعابرين/ات جنسياً يتقاطع اليوم مع حركة عامة في البلد متناسق بعضها مع بعض، بدءاً من حملات ترتبط بقضايا نسوية وحقوق المرأة وقضايا التحرش الجنسي والاغتصاب وحماية الإرث الثقافي والتاريخي ومحاسبة الفاسدين.
هذه كلها قضايا تقاطعية تعيد لحركة نضال المثليين/ات والعابرين/ات ديمومتها وتخالطها مع الرأي العام كمسألة وطنية مهمة وليست هامشية، أو على الطرف كما يحب بعض الناشطين التعاطي معها من مبدأ: أن أبقى في الظل وأعمل مستوراً. أو كأن قضيتنا لا تعني سوى العاملين في المجتمع المدني أو "بعض" أبناء مجتمع الميم وناشطيه أو شلله الصغيرة الموزعة هنا وهناك.
تجاوز التركيبة الطائفية في لبنان
هنا لا بد من التنويه أن الحراك المدني في مجتمع الميم يُعدّ واحداً من النماذج المدنية القليلة التي تتجاوز التركيبة الطائفية والسياسية المُكرّسة منذ اتفاق الطائف سنة 1989، وهي من أهم تحديات العمل المدني وعراقيله وواحدة من أبرز أسئلة الهوية الوطنية ومركزيتها.
وعليه، فإن التعددية في مجتمع الميم من مراكز وجمعيات ومنصات ومجموعات، تضيف خصوصية "مواطنية" تتجلى في أبعاد المجتمع المدني خارج حدوده الطائفية والديموغرافية والتاريخية. وبالتالي يمكن التأسيس من هذا الخطاب الجامع، لتكون التقاطعية بالقضايا محورية تنطلق من مجموعاتنا المتعددة الهويات والميول الجنسية، وتستقطب القضايا الأخرى وتدعمها.
"نحن لا نحتاج إلى أن يتسامح معنا المجتمع بل أن يعترف بنا قانونياً أولاً... ومن ثم التعامل مع قضايانا من باب دستوري وقانوني وعبر أجهزة الدولة والوزارات"... مراجعة أداء المعنيين بمجتمع الميم تصويباً لتاريخية المسار النضالي ومستقبله
التعددية في مجتمع الميم من مراكز وجمعيات ومنصات ومجموعات، تضيف خصوصية "مواطنية" تتجلى في أبعاد المجتمع المدني خارج حدوده الطائفية والديموغرافية والتاريخية
لا بدّ من توسيع رقعة النقاش (نظرياً وعملياً) بين أفراد هذا المجتمع بأطيافه كلها، ما يجعلنا أكثر إلحاحاً لطرح الأسئلة (ليس في الضرورة إيجاد إجابات فورية بل بمنظور استشرافي). لأن في السؤال تولد الأفكار، وعبره يتموضع "خطاب المستقبل"، أو على الطريقة اللبنانية وبالسؤال العامي: "وهلق لوين؟".
تصويب تاريخية النضال
يُمهّد السؤال لعملية نقد ذاتية لهذه التجربة والمسيرة، من مبدأ تشاوري يضيف إلى المسار النضالي أفكاراً ومنهجية وتصورات وخططاً، ويُصوّب تاريخيته ومستقبله، وبالطبع واقعه الآني على ضوء متغيرات سياسية واجتماعية وقانونية متوافرة أو في طور التوافر، ومنها التغير الملحوظ في "عقلية" القضاء اللبناني (العسكري من ضمنه)، في التعاطي مع قضايا تجريم المثلية.
ففي لبنان، بلد التشريع (كما يتغنى بعض الساسة)، يُجرّم قانون العقوبات في مادته الفاضحة الرقم 534 المثلية الجنسية، ويعتبرها "مخالفة لقوانين الطبيعة".
لكن، على الرغم من إحقاق بعض القضاة الحق الطبيعي لفئة مهمشة في ممارسة حياتها، لم تزل هذه المادة عائقاً مهماً وخطيراً لحياة بعض أفراد هذا المجتمع (المثليين تحديداً)، وتعوق خياراتهم الجنسية وتهدد سلامتهم الشخصية.
وهنا يقع على عاتق "العمل الجمعياتي" تضافر الجهود لتحديد خطة مشتركة تسعى إلى إلغاء نهائي لهذه المادة، عبر "لوبي" ضاغط ولجان عمل في البرلمان ومع المشترعين والقانونيين والقضاة. وهذا ليس عملاً هيناً بل هو طريق صعب وشاق، لكن لا بد من تطوير الجهود والمراهنة على "السابقات" القانونية التي اعتمدها القضاة لعدم تجريم المثلية من أجل دفع هذا المطلب الحقوقي الى الواجهة.
تجاوز الرمزية
على الرغم من أهمية اليوم العالمي لرهاب المثلية فإن التغني به وببعض المكاسب اللبنانية التي حُققت (وهي مُقدّرة بالطبع)، من خلال مشاركات رمزية لا يحيدنا عن مسألة مهمة جداً تتعلق بتجاوز الترميز والابتعاد عنه والتحول الى شغل براغماتي هدفه تأصيل النضال وتمكينه من استهداف شرائح أوسع من هذا المجتمع.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العمل الجمعياتي في شؤون الجندر يتقاعس أحياناً في مناطق الأطراف والمدن اللبنانية خارج المركز بيروت، لأسباب تتعلق بصعوبة اختراق المجتمعات المحلية بفكرة مناصرة قضايا الميم.
لكن أبسط الإيمان أن يتم العمل الجدي في تشبيك خلايا مناطقية في المدن (طرابلس وصور وصيدا وبعلبك وغيرها) وعبر البلدات والقرى المهمشة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المثليين/المثليات/العابرين/العابرات جنسياً، والاطلاع على أحوالهم/هن. وذلك في ظل غياب أي جهاز مؤسساتي يساعدهم/ن على فهم واقعهم/ن وحمايتهم/ن، وأبسط الإيمان أيضاً، تكريس ورش وأعمال وأنشطة للتوعية الجنسية والجنسانية وحول الجندر.
للمثال لا الحصر، فإن الأرقام تشير الى انتشار الأمراض المنتقلة جنسياً في المناطق اللبنانية لعدم وجود ثقافة جنسانية في مجتمع الميم.
النقد الذاتي
لأن الترميز، لدى إفراطنا فيه، قد يُنسينا جوهر قضايانا، باعتبارها أداة ووسيلة، ويبعدنا أحياناً عن الخطة والمستقبل. لأن الحديث عن نضالات (عربياً ولبنانياً)، وهي لا شك مهمة جداً، لا يستبعد نقدها بعين مجردة.
كون هذا النضال الجمعي والفردي، يحثنا اليوم أكثر مما مضى على التعامل معه كوقائع يمكن تفنيدها والتعاطي مع حيثياتها بنظرة مستقلة بعيدة عن التعاطف والاحتفالية المجانية و"الترميز" كإشارة فقط.
لا بدّ لهذه "الرمزية" أن تتحوّل الى مرآة للنظر الى أحوالنا (مثليين/مثليات، عابرين/ات جنسياً) وتصويب وجهات النظر الى ما نحققه وما تحققه الجمعيات الأهلية العاملة في هذا المجال ونقد تجاربها وإنجازاتها ومحاسبتها أيضاً.
لماذا؟ كونها بالنهاية تتحدث باسمنا ويعتاش بعض العاملين فيها على حساب قضية المثليين والمثليات من خلال ما يسمى "فاندينغ" (تمويل) مخصص لقضايا المثليين من منظمات دولية وأوروبية وحقوقية ورسمية وغير رسمية. والنظر أيضاً الى خطط وحيثيات هذا التمويل من مركزها الأم (كمنظمات ودول) والتنبّه إليها.
ينبغي إقامة طاولة حوار بين العاملين في مجتمع الميم من مبدأ "تفاعلي" وخارج منطق التحدي والمنافسة، يُعيد طرح مسائل مهمة من باب "التكافل" و"المناصرة الجمعية" لأبناء البيت الواحد على سعة تنوعاته وهوياته وخصوصياته واستقلاليته
ولكون النضال حركة تفاعلية، وصيروة دائمة تنتمي إليها صيرورات أخرى، منها يتفرّع الحراك الكلي لمجتمع الميم، لا بد من عملية نقد. وعملية النقد كما يقول الفيلسوف ريموند ويليامز "ليس الإفراط في إيجاد الخطأ".
وليس الهدف هو البحث عن الأخطاء. لأن كل حركة نضالية، مورست ضدها كل أعمال العنف المباشر وغير المباشر والقمع، لا بد أن تشوب سيرتها ومصائرها أخطاء. وهذا أمر طبيعي.
لكن نحن حيال سؤال النقد الذاتي وكيفية التعامل مع فكرة النقد من دون حساسية شخصية أو تعتيم لبعض التجارب السيئة بحق ناشطين وعاملين باسم مجتمع الميم، أو التقاعس في بعض نقاط العمل، وكذلك نقد فكرة الاقتتال غير المعلن بين العاملين في مجال الجمعيات المثلية، حيث يفرط البعض في "تهديم" مشاريع الآخرين أو القفز عليها. كأن النضال مجرد تسابق إلى مصادر تمويل وإنجاز "ورش عمل" هنا وهناك.
ميكانيزم التفاعل
نحن إذاً أمام سؤال "أدوات الإشراك" و "ميكانيزم" التفاعل. لا بد من الخروج من ذهنية الترميز النضالي إلى مساحة العمل المشترك وتطوير ميكانيكية هذا النضال وطروحاته وأساليبه وأيضاً تصوراته عن مستقبل أفراد هذا المجتمع، ولا سيما المضطهدين فيه من العابرين/ات جنسياً.
وهنا ينبغي إقامة طاولة حوار بين العاملين في مجتمع الميم من مبدأ "تفاعلي" وخارج منطق التحدي والمنافسة، يعيد طرح مسائل مهمة من باب "التكافل" و"المناصرة الجمعية" لأبناء البيت الواحد على سعة تنوعاته وهوياته وخصوصياته واستقلاليته.
وحين أذكر العابرين/ات جنسياً، فهم الفئة الأكثر تهميشاً. ويعيش أفراد هذه الفئة ظروفاً ضيقة ومستحيلة ومميتة، وحياتهم/ن أشبه بجحيم معلق بين قوانين قاسية ومجتمع وحش.
باعتقادي، نحن أمام مرحلة مهمة إذ استطعنا استقطاب دعم أوروبي (يظهر جلياً من خلال رفع علم قوس قزح على أبواب السفارات الاجنبية في لبنان)، بالعمل من الداخل الآن ومن داخل منظومتنا الخاصة، جمعيات وأفراداً وفاعلين ونخبة وعاملين وأحزاباً أيضاً.
يُرافق ذلك التطلع إلى ثورة ذاتية داخل تنظيمات مجتمع الميم، والتكاتف والتعاون والخروج من سياقات التقاتل والتحارب، وإقرار سياسات توسعية ومدروسة وأعمال تشبيك، لجعل كل فرد في هذا المجتمع فاعلاً ومبصراً أن الأمل موجود. وكل هذا النضال ليس عبثاً ولنا الحق في أن نكون نحن، ومن نحب أن نكونه يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...