شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الرّسالة الأخيرة إلى زوجي الأسير في السجون الإسرائيليّة

الرّسالة الأخيرة إلى زوجي الأسير في السجون الإسرائيليّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 19 أبريل 201903:17 م

خلفيّة 

تقوم إسرائيل بتجريم ومعاقبة الأسرى السياسيّين وفق القانون الجنائي، إلا أنها خصّصت أنظمةً خاصّةً فيما يتعلّق بهم، حيث تشدّد من التعامل معهم وتضيّق على حرياتهم تحت إطار ما يُسمّى "الأمن" والذي يُعتبر "البقرة المقدسة" بالنسبة لإسرائيل. وقد شدّدت في السنوات الأخيرة، بعد سَنِّ قانون "مكافحة الإرهاب"، من العقوبات والتضييقات والتي تُشمل أثناء فترة الاعتقال، إمكانيّة منع المتهم من لقاء محامٍ، أو تأجيل ذلك لفترات أطول بكثير من المنع الذي ممكن أن يكون حول جرائم أخرى عادية، كالقتل والاغتصاب والسرقة، والتي تعتبرها إسرائيل أسهل من القضايا "الأمنية".

وبعد المحكمة وأثناء فترة السجن، تتبع سلطة السجون أنظمةً خاصّةً فيما يتعلّق بالأسرى "الأمنيين"، حيث تستعمل هذه التسمية بدل تسمية "أسرى سياسيّين"، لتحدّ من حقوقهم والممارسات المتبعة ضدّهم.

حيث أؤمن أن الشخصيّ هو سياسي

ضمن ما تشمله هذه العقوبات: لقاء العائلة من خلف الزجاج، والتواصل معهم من خلال سمّاعة هاتف، تحديد الزيارات للأقارب من الدرجة الأولى، فمن يقضي محكوميّةً طويلةً أو مؤبّدة لن يلتقي طيلة محكوميّته بأحد غير أفراد العائلة المصغّرة، فإن كان صغير السنّ لدى اعتقاله ولم يتزوّج، يعني ذلك أن الزيارة مسموحة للوالدين والأخوة، ولو توفي الوالدان خلال فترة الاعتقال من المحتمل ألّا يزور الأسير أي شخص.

تشمل التضييقات قائمةً طويلةً من الممنوعات، منها منع إمكانية الاتصال الهاتفي مع من هم خارج السجن، وهي القضية التي أُثيرت مؤخراً وكانت محور "إضراب الكرامة 2"، وفيه نجح الأسرى بتحقيق هذا المطلب، وهو يُعتبر إنجاز كبير لهم.

القطعة المرفقة هي خواطر أدبيّة، كتبتها من مكاني كزوجة أسير سياسي، درست الحقوق أثناء اعتقال زوجي وحصلت على رخصة مزاولة المهنة. أشارك بمشاعري ما تمرّ به عائلات الأسرى من خلال تجربتي بالتعامل مع الموضوع طيلة تسع سنوات، وهي تجارب خاصّة وعامّة، حيث أؤمن أن الشخصيّ هو سياسي، وأحاول من خلال كتاباتي أن أوصل للقارئ البعيد عن هذه التجربة، ما يمرّ به الأسرى السياسيّين في المعتقلات الإسرائيليّة، وبعض ما يمرّ به الأهل.

من العقوبات والتضييقات، إمكانيّة منع المتهم من لقاء محامٍ، أو تأجيل ذلك لفترات أطول بكثير من المنع الذي ممكن أن يكون حول جرائم أخرى، كالقتل والاغتصاب والسرقة، والتي تعتبرها إسرائيل أسهل من القضايا "الأمنية".

أثناء خروجنا من غرفة الزيارات نادى عليّ الضابط المسؤول في السجن عن استلام الرسائل وقراءتها وقال: قلّلي من عدد الصفحات التي ترسلينها، أحتاج وقتاً طويلاً كي أقرأها.. خُضت معه نقاشاً مبدئيّاً لا يفهمه، عن حريّتي بالكتابة.

هل أرسل آخر رسالة قبل تحرّره من السجن؟ هل تصل الرسالة قبل أن يتحرّر؟ إن لم تصل قبل أن يتحرّر، ماذا سيكون مصيرها؟ هل يبقيها ضابط السجن لديه، على مكتبه، مفتوحةً أمام كلّ ناظر؟

الرسالة الأخيرة.. 

علاقتي بالوقت ليست عاديّة، لفت نظري لذلك مرّةً صديقٌ قديمٌ حين قرأ لي نصّاً أدبيّاً، قال لي إنّه شعر أنّ عامل الوقت شكّل فيه محوراً أساسيّاً، وإنّ ما لفت نظره هو تعاملي مع الوقت، وبدأت من هناك أنتبه لعلاقتي بالوقت..

في إحدى المرّات التي اشتريت بها رواية لنفسي كنت نويت أن أقرأها، وكان لها أهميّة خاصّة بالنسبة لي، ومن ثمّ قرّرت إرسالها للسجن، استحوذ عنصر الوقت على تفكيري وعلى كلّ تعاملي مع الرواية، إذ كنت في سباقٍ مع الوقت. فقد كان عليّ أن أنهيها قبل موعد الزيارة التي تتكرّر مرّة كل أسبوعين.. وكان أمامي ساعة لموعد الزيارة، وقت غير كافٍ لإنهاء قراءتها، فدارت في رأسي أفكار عدّة: هل أقطع قراءتي إيّاها وأرسلها دون أن أكملها، فأفسد بذلك المتعة الكامنة في الوصول للنهاية بتوقيتي أنا؟ هل أكون أنانيّة وأُبقيها لنفسي؟ قمت بتصوير ما تبقى من صفحات للرواية، ثمّ أرسلتها وأبقيت بيدي أوراقاً مصوّرة من آخر فصل فيها! وبعد أن أنهيت قراءتها قمت بتمزيقها.. تلك الورقات المصوّرة.

كتبت نصّاً أدبيّاً عن لقاءاتنا في السجن أسميته خمساً وأربعين دقيقة، هو وقت الزيارة. كتبت فيه الكثير، نشرت مقاطعَ منه، وأخرى بقيت غائبة عن النشر... كان للوقت الضائع حضورٌ قويٌّ فيها..

مرّة كلّ أسبوعين هو موعد الزيارة العائلية.

على الحائط خلف الأسرى، ساعةٌ إلكترونيّة أرقامُها حمراءُ، تشير إلى الوقت المتبقّي للزيارة، أراها من خلال الزجاج الفاصل بيننا.. ندخل غرفة الزيارات لا نحمل في أيادينا ساعات- ممنوع.. أنشغل من بداية الزيارة بالنظر إلى ساعة معلّقة على الحائط تشير للوقت.. من السهل أن تحسب وقت الزيارة، إذا بدأت مثلًا في تمام الثانية، فتعدّ من وقتها خمساً وأربعين دقيقة. لكن المشكلة تكون إن بدأت مثلاً في الساعة الثانية وسبع دقائق أو وإحدى عشر دقيقة، إذ تتعقّد العمليّة الحسابيّة، فترى نفسك تنشغل خلال الزيارة بحساب ما تبقّى من الوقت. وإن أخطأت العدّ بدقيقةٍ فقد خسرت، إذ تنتهي الزيارة بإقفال مفاجئ للخطّ، فلا يعود الكلام يصل إليك أو إليه في الجانب الآخر.. يتوقّف الوقت، فيتوقّف الصوت. تفتح فمك لتقول كلاماً لا يصل.. بل يبقى عالقاً ما بين فمك والحنجرة.. كلاماً حين يفقد صوته، يتجرّد من كلّ معنى غير بالغٍ هدفه.

كتبت مرّة نصّاً أسميته "ربع ساعة هدية العيد"، ربع ساعة تتحوّل لمعركةٍ وإنجازٍ للأسرى وعائلاتهم، تتيح أنظمة السجن زيادة ربع ساعة، خمس عشرة دقيقة للزيارة العاديّة أيام الأعياد، وأحياناً تقرّر الإدارة عدم إعطائك هذه الدقائق، فيصير لهذه الخمس عشرة دقيقة معانٍ أكبر ممّا تحمله في الواقع خارج السجن.. خمس عشرة دقيقة تضاف إلى خمس وأربعين دقيقة متاحة مرّة كلّ أسبوعين.. هي أمر غير مفهوم ضمناً، أعتقد من الصعب أن يفهم الكثيرون كيف تصبح المعركة على الخمس عشرة دقيقة معركةً على معنى الحياة.

كتبت رسالة أبقيتها في حقيبتي لأيّام ثم مزّقتها.. ماذا كان سيحدث لو أرسلتها؟ بقاؤها في حقيبتي جعلني أتعامل معها بشكل مختلف.. بدأت أحبّ الرسائل البريديّة، فكّرت: ماذا لو كانت هناك إمكانيّة لإرسال بريدٍ إلكتروني، تفقد معه في كبسة زر، في ثانية من الوقت، كلّ إمكانية استرجاع، أو تصحيح.

أثناء خروجنا من غرفة الزيارات نادى عليّ الضابط المسؤول في السجن عن استلام الرسائل وقراءتها وقال: قلّلي من عدد الصفحات التي ترسلينها، أحتاج وقتاً طويلاً كي أقرأها.. خُضت معه نقاشاً مبدئيّاً لا يفهمه، نقاشاً عن حريّتي بالكتابة وحقّي بها، وحول مشكلته التقنيّة التي عليه حلّها، بطلب ميزانية لتشغيل أشخاص إضافيّين للعمل معه على قراءة رسائلي.

أكتب رسائلي الخاصّة وأنا أعلم أنّ أعْيُنَ السجّان ستقرأها، أشعر أحياناً كثيرة أنّ عيونهم تلامس جسدي.

انتبهت بعد أشهر من السجن، إلى أنّ هناك فجوة أحياناً تمتدّ لثلاثة أسابيع بين رسائلي ورسائله، بين ما أرسل له وبين رسائله التي تأتي ردّاً على رسائلي، فكثيراً ما كنت أُرسل رسالة إضافيّة أو أكثر، فتصلني رسالته متطرّقةً إلى بعض ما قلت في رسالة نسيتها، أو نسيت ما كتبت فيها، فأجدني أضطرّ للعودة لتلك الرسالة كي أربط بين ما يقول وما قلت فيها، منذ ثلاثة أسابيع أو أكثر.

ما معنى أن أرسل رسالة غير متأكّدة أنّه سيقرأها؟ ربما لا تصل الرسالة... أو ربّما تصل ولا يسلّمونه إيّاها.. كيف يمكنني أن أعرف، وإن لم أعرف، ما فائدة أن أرسلها؟

هل أرسل آخر رسالة قبل تحرّره من السجن؟ هل تصل الرسالة قبل أن يتحرّر؟ إن لم تصل قبل أن يتحرّر، ماذا سيكون مصيرها؟ هل يبقيها ضابط السجن لديه، على مكتبه، مفتوحةً أمام كلّ ناظر؟ أو هل يُلقي بها في سلّة المهملات؟

تسع سنوات مرّت... كيف مرّت، ماذا حملت معها؟ هل حقّا مرّت تسع سنوات؟ بقيت ثلاثة أسابيع.. كيف أتعامل مع الفكرة؟ كيف أواجه هذه الأسابيع الثلاثة؟

الوقت، يسيطر عليّ الوقت، فكرة الوقت، الوقت الضائع، الوقت الباقي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image