شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من يضغط على الزرّ: يد الإنسان أم النزعة البيروقراطيّة التي أنتجتها المجتمعات الحديثة؟

من يضغط على الزرّ: يد الإنسان أم النزعة البيروقراطيّة التي أنتجتها المجتمعات الحديثة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 12 أبريل 201905:39 م

في خضمِّ الترف الذي نعيش فيه، تخيّلوا للحظةٍ أن تغيب عن حياتنا فكرة الضغط على الأزرار....

باتت اليوم عملية الضغط على الأزرار، أمراً أساسيّاً يدخل في صلب حياتنا اليوميّة، سواء كان ذلك في العمل، المنزل، أو حتى في التواصل مع الآخرين، وتقريب المسافات بين الأفراد.

غير أن موجة الاعتراض على وجود أزرار الضغط تعود إلى حقبةٍ تاريخيّةٍ قديمةٍ، فمن المصاعد وصولاً إلى أجهزة الآيفون، لقد أثار ظهور هذه الأزرار موجات من القلق والخوف من فقدان "اللمسة الإنسانيّة".

هل تؤدي عملية الضغط على الأزرار إلى فقدان اللمسة الإنسانيّة وتعزيز البيروقراطيّة؟

سادة العالم

اضغطوا على الزرّ المناسب لتشغيل التلفزيون، جهاز الراديو، المكيّف، لصبِّ فنجان قهوةٍ أميركيّة، أو انقروا الزرَّ للتعبير أيضاً عن مشاعركم على مواقع التواصل الاجتماعي... لمسةٌ واحدةٌ من إصبعكم قادرة على تشغيل أي جهاز، حتى ولو كنتم لا تفهمون الخوارزميّات المستخدمة.

ومن الملاحظ أن الناس يضغطون طوال الوقت على الكثير من الأزرار دون أن ينتبهوا لذلك.

تخيّلوا للحظةٍ أن تغيب عن حياتنا فكرة الضغط على الأزرار

يوضّح موقع aeon أنه في العام 1903، أعرب الفرنسي "ماركيز دو كاستيلان" في افتتاحيّة الصحيفة، عن أسفه لما وصلت إليه الأمور، قائلاً:" لم يعد من الضروري التحدّث لكي نحصل على الخدمة. تخطون إلى الفندق، تضغطون على الزرّ، ويظهر فجأة غذاء شهي... وبعد مرور عشر ثوانٍ، تشعرون بالبرد، فتضغطون على زرٍّ آخر وبسرعةٍ يُضاء الموقد الخاصّ بكم كالسحر"، هذا ويضيف:" لقد أصبحت الأزرار الكهربائيّة سادة العالم، بحيث أنها تغلّبت على المسافة، وتخلّصت من ضرورة التروّي والتفكير على أي حالٍ".

وكحال العديد من المراقبين في مطلع القرن العشرين، الذين وقعوا بين التفاؤل الرومانسي والفزع الأخلاقي بشأن التصنيع، تساءل "دو كاستيلان":" ألا تعتقدون أن هذا الانتشار المذهل للآلات الميكانيكيّة، من المحتمل أن يجعل العالم رتيباً ورهيباً، وعوض التعامل مع البشر، يصبح الاعتماد على الأشياء؟

لقد جعلت أزرارُ الضغط حياةَ الناس سهلة للغاية، وبسيطة وروتينيّة، خاصّة حين أصبح بإمكان المرء تحقيق رغباته من خلال "كبسة زرّ"، على اعتبار أن ذلك يرجّح كفّة الأشياء على حساب البشر، وقد يساهم هذا التبسيط المبالغ به في قمع مباهج الحياة تماماً.

التمرّد على البيروقراطيّة

في كتابها Power Button: A History of Pleasure, Panic, and the Politics of Pushing، تتحدّث الكاتبة "راشيل بلوتنيك" عن أصول مجتمع ضغط الأزرار اليوم، من خلال دراسة كيفيّة صنع هذه الأزرار، توزيعها، استخدامها، رفضها وإعادة صياغتها عبر التاريخ.

أثار ظهور هذه الأزرار موجات من القلق والخوف من فقدان "اللمسة الإنسانيّة"

في الواقع أنه بجانب الشعور بالحنين إلى الماضي، وتحديداً إلى فترة ما قبل الزرّ، والاعتقاد بأن العمل ينطوي على اتصالٍ مباشرٍ بالعالم، واصلت هذه "النقمة" على الأزرار بالظهور في الخطاب الشعبي، لفترةٍ طويلةٍ من القرن العشرين.


وأيضاً رواية Push-the-Button Man للكاتب "فرانك دورانس هوبلي"، أتت بمثابة تحذيرٍ ضدّ البيروقراطيّة، وضدّ المدراء الذين يقومون بالضغط طوال النهار على الأزرار، لفرض شروطهم واملاءاتهم على الموظفين، إذ تمثّل الأزرارُ الكسلَ، والضغط عليها يدلّ على أسلوبٍ إداريٍّ هرميّ وغير متكافئ، وقد أراد "هوبلي" من خلال هذه القصّة الدفاع عن الأفراد العصاميّين والطموحين، الذين شقّوا طريقهم إلى القمّة دون الاستعانة بأحدٍ أو بأي شيءٍ، غامزاً إلى أن المخرج الوحيد للبيروقراطيّة، هو العودة إلى عالمٍ خالٍ من الأزرار.أزرار.

استعادة قوّة اليد البشريّة

لقد ساهمت الظروف الاجتماعيّة والتقنية والتاريخيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بشكلٍ خاص، في زيادة حدّة الانتقادات تجاه عملية الضغط على الأزرار، خاصّة في ظلّ تطوّر بعض التقنيات التي تهدف أساساً، إلى "تقديم يد العون" للإنسان، وتسهيل بعض المهمّات التي تُعتبر شاقّة.

يعتبر نقّاد هذه الغييرات التكنولوجيّة، أن القيام بنشاطٍ يدوي لا يعني بذل المزيد من الجهد فقط، إنما المشاركة أيضاً في نشاط بشري أساسي، من هنا تحدّث الكاتب "جو ميتشيل شابل" في العام 1908 عن المفاهيم الدينيّة والاجتماعيّة الكامنة وراء اللمس، سواء كان ذلك في عملية الشفاء، في العلاقات الحميميّة أو في إظهار "اللمسة الشخصيّة".

المخرج الوحيد للبيروقراطيّة، هو العودة إلى عالمٍ خالٍ من الأزرار

وبالتالي يعتبر نقّاد استبدال اليد العاملة بالآلات، أن الضغط على الزرِّ يهدّد استقرار العلاقة بين اليدين والإنسانيّة، وهو قلقٌ تبنّاه كارل ماركس وفريديريك إنجلز في"The Communist Manifesto ، البيان الشيوعي" نتيجة الاستخدام المُفرط للآلات وتقسيم العمل، فإن عمل البروليتاريين قد خسر الشخصيّة الفرديّة، وبالتالي كلّ سحر العامل، والذي أصبح ملحقاً بالماكينة".

ومن خلال هذه "التبعية" للآلة، اعتبر كل من "ماركس" و"انجلز" أن الآلات ساهمت في إبعاد البشر عن الإنتاج وعن منتجات عملهم، ما يعني أن الأزرار تمثّل الإنتصار المثالي للعمل الفني والتقني على حساب العمل البشري.

هذه النظريّة تبنّاها بدوره عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "جان بودريارد"، والذي اعتبر أن الأزرار "حوّلت الناس إلى مجرّد ممثلين في عمليّةٍ عالميّةٍ، يلعب فيها الإنسان دوراً بسيطاً أو يكون متفرّجاً"، ما يكشف حقيقة العجز البشري، إذ يقوم الإنسان بالضغط على الزرِّ، ويكتفي بمشاهدة الآلات وهي تقوم بالعمل، أما الأخطر من كل ذلك فيتمثّل بقدرة هذه الأزرار على شنِّ الحروب: زرٌّ واحدٌ قادر على وضع القنبلة النوويّة في مسارٍ يصعب الخروج عنه، وعلى الرغم من أن الإصبع الروسي أو الأميركي يمكن أن يكون حافزاً، إلا أن القوّة الحقيقية تكمن في القنبلة نفسها.

نحو عالمٍ خالٍ من الأزرار؟

على صفحات الويب، حيث ترتبط مشاعر الإعجاب والحبّ والحزن بـ"كبسةٍ"، وتستمرّ آفة الأزرار في الظهور على المصاعد، ماكينات القهوة، أجهزة التحكّم عن بعد وعجلات القيادة...وبالرغم من انتشارها الكثيف، إلا أن منتقدي الأزرار يعلّقون آمالهم على عالمٍ خالٍ من أزرار الضغط، وتتجه التكنولوجيا الحديثة أكثر فأكثر، نحو استبدال هذه الأزرار بالإيماءات، أو التنشيط الصوتي، أو تقنية التعرّف على الوجه.

الأزرار حوّلت الناس إلى مجرد ممثلين في عمليّةٍ عالميّةٍ، يلعب فيها الإنسان دوراً بسيطاً أو يكون متفرّجاً

هذه الجهود تنطلق من الاعتقاد بأن العالم قد يكون أفضل حالاً دون الضغط على أي زرٍّ، من خلال التوجّه نحو التفاعلات "الطبيعيّة" مع تكنولوجيا الحياة اليوميّة، خاصّة وأن الأزرار لها قيود تقنيّة معيّنة، وتقيّد خيارات المستخدمين في ثنائياتٍ محدّدةٍ: تشغيل/ايقاف، نعم/لا، بدء/ توقّف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image