"حالنا بقى يصعب على عبد اللطيف المناوي ولميس الحديدي"، نعم كصحفيين مصريين لا ينطبق علينا سوى تلك الجملة، يكفي أن اثنين من الكتّاب المعروفين بولائهم الكامل للسلطة، كانوا في طليعة المعارضين للائحة الجزاءات التي أقرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مؤخرًا.
واللائحة التي دفعت "المناوي" لأن يعارضها ولـ"لميس الحديدي" أن تقول إن من الأفضل أن نبحث عن عمل آخر، جاءت حاملة معها أكثر من عشرين مادة لتقييد العمل الصحفي بكافة أشكاله، وأضف إلى ذلك الكثير من "البهارات والتحابيش"، الاعتداء على سلطة حظر النشر التي هي في الأصل اختصاص النائب العام، إضافة جملة سحب ترخيص الوسيلة الإعلامية في حال ارتكاب أي أمر مما تعتبره اللائحة "جريمة"، كلمات فضفاضة على شاكلة "الفسق والفجور وإيذاء مشاعر المواطنين"، وغرامات على الصحفي تبدأ من 250 ألف جنيه في وقت يتقاضي فيه معظم صحفيي مصر ما يتراوح من 1500-2000 جنيه شهريًا.
بمجرد إصدار اللائحة كان الارتباك في الصحف والمواقع الإلكترونية هو الواضح، الجميع يبحث عن طوق نجاة، مخرج من الأزمة، على الفور دارت ماكينة الاجتماعات في المكاتب من أجل الخروج بأقل الخسائر، الكلمة التي على لسان الكثير من الزملاء "ما نقفلها أحسن" أو "إحنا مش عارفين نشتغل" ثم كثير من السخرية من مواد اللائحة في حالة تجسيد لمقولة "مساكين بنضحك من البلوة".
تجربة شخصيّة في الإعلام المصريّ
شخصيًا أعرف أن اللائحة قيّدت حتى هامش الحرية، وحاصرت ألاعيب الصحافة لمواجهة الرقابة، لكني أيضًا أعرف أنها لم تُقدم أو تأخر، وأن المتباكين على حرية الصحافة التي أهدرتها اللائحة عليهم أن يعيدوا النظر في مفهومهم لحرية الصحافة، كل ما في الأمر أن ما يحدث كُتب، وأن الخطوط الحمراء حُددت، وأن الأمر لن يخضع للغرف المغلقة بل "ع عينك يا تاجر"، وإننا في القاع فعلًا فلا خوف علينا!
10 أعوام هم حصيلة عمري في الصحافة، أكثر من صحيفة وتحت حكم أكثر من رئيس عملت، وكانت الأمور كما هي، الخطوط الحمراء تُعرف لا تُكتب، والرقابة ذاتية من خلال رؤساء التحرير الذين يقررون ما يُنشر وما يتم تناوله وما هو ممنوع الاقتراب منه، ولم يكن الوصول إلى تلك الصيغة من الرقابة بالأمر السهل، بل كان لها مخاضها أيضًا.
وحين بدأت العمل في صحيفة حزبية بعصر مبارك لم أكن أعرف شيء عن الرقابة والخطوط الحمراء، لكن تلك العملية يتم تعليمها للصحفي من أوّل يوم حتى يصبح بعد سنوات قليلة رقيبًا على نفسه دون أي إرهاق، فالتعلّم يبدأ كل لحظة تقريبًا، بداية من رفض أفكار صحفية بعينها، البعد عن مؤسسات - ليس شرطًا أن تكون سيادية - عدم الاقتراب من أسماء معينة -، ثم المناقشات مع الزملاء، المزاح على طريقة "عاوز يحبسنا"، كل ذلك يشكل في وعي الصحفي في النهاية ما هي الخطوط المسموح لها في العمل.
يتبقى جهد الصحفي نفسه، فكل ما سبق لا يكفي إن لم تكن متابعًا جيدًا لما ينشر في الصحف وسياسات الدولة لأن ذلك يحدد الكثير، ما هي الدولة التي يمكنك مهاجمتها وما هي الدولة التي لا يمكنك، ذلك ما تعلمته في أول عامين، لكن بعد ثورة 25 يناير وانتشار المواقع الإلكترونية وما توفره من إمكانية الحذف والتعديل، طرأت ضغوط جديدة على الصحفي، ففي الماضي ورغم كل التحذيرات فلن يطالبك أحد بسحب نسخ جريدتك الورقية من السوق إلا من أجل كارثة بحق، لكن المواقع الالكترونية جعلت الكثيرين يطالبونك بحذف خبر ما أو تعديل لأن هناك من تضايق.
وخلال الفترة الماضية باتت كل مؤسسة في الدولة، وزارة أو هيئة ترى النقد الصحفي مؤامرة عليها، ولذلك كل مؤسسة حصنّت نفسها ومجرد نشر خبر مسيء عنها يعني حرمان الصحفي من حضور فعاليتها، أو منعه من دخوله مقر وزارة وأحيانًا اللجوء إلى القضاء، شارك في ذلك معظم المؤسسات تقريبًا.
إن أضفنا هذا لمنع الكتابة عن الشركات أصحاب العقود الإعلانية مع الجريدة، والموضوعات التي تتعارض مع قيم المجتمع، وخطوط حمراء سياسية كثيرة، يمكن أن تصل إلى الحالة التي عليها الصحفيون الآن، لذلك قلت ليس هناك فرق ففي كل الأحوال معظم القراء عزفوا عن المتابعة لأن الكثير مما نقدمه لهم سخيف حتى وإن كنا مضطرين لذلك.
إن اللائحة قيّدت حتى هامش الحرية، وحاصرت ألاعيب الصحافة لمواجهة الرقابة، لكني أيضًا أعرف أنها لم تُقدم أو تأخر، وأن المتباكين على حرية الصحافة التي أهدرتها اللائحة عليهم أن يعيدوا النظر في مفهومهم لحرية الصحافة.
خلال الفترة الماضية باتت كل مؤسسة في الدولة، وزارة أو هيئة ترى النقد الصحفي مؤامرة عليها، ولذلك كل مؤسسة حصنّت نفسها ومجرد نشر خبر مسيء عنها يعني حرمان الصحفي من حضور فعاليتها، أو منعه من دخوله مقر وزارة وأحيانًا اللجوء إلى القضاء.
إن أوّل عدد من جريدة مصرية 1824 تضمن منشور "وأراد ولي النعم أن تكون الأخبار التي تُقدم للعباد تُنتقى ليبقى ما هو مفيد للعباد"، هكذا كانت الرقابة من أول يوم والذي أشرف على الوقائع المصرية كان محمد علي.
أداء الرقابة القديم
لائحة الجزاءات في نظري أعادت فقط أسلوب قديم، فالتفتيش في تاريخ الصحافة المصرية يحيلنا إلى العدد الأول من الوقائع المصرية، أول جريدة مصرية 1824، تضمن منشور "وأراد ولي النعم أن تكون الأخبار التي تُقدم للعباد تُنتقى ليبقى ما هو مفيد للعباد"، هكذا كانت الرقابة من أول يوم والذي أشرف على الوقائع المصرية كان محمد علي نفسه.
وبداية من محمد علي وحتى الرئيس الراحل أنور السادات، كان هذا النوع من الرقابة هو السائد، قوانين تعطي السلطة الحق في إغلاق الصحيفة وحبس الصحفي إن تجاوز الخطوط الحمراء، وأصحاب تلك المدرسة لم يكن هناك بينهم وبين الصحفي أي ثقة وإن كان هناك استثناءات بسيطة لعل أولها مع الخديوي إسماعيل أول من لجأ إلى أسلوب أهل الثقة فكان أحد عماله عبد الله ابو السعود من أوائل من انشأوا صحفاً خاصةً هي صحيفة "وادي النيل" وكان يستخدمها الخديوي من أجل مهاجمة خصومه من الأسرة الحاكمة، وفي عصره أيضًا صدرت صحف أخرى لكنه في النهاية لم يطق ذلك بعد أن تحولت تلك الصحف وهاجمته فقرر إغلاقها.
المدرسة الثانيّة للرقابة
المدرسة الثانية من الرقابة يمكن التأريخ لها في عصر "السادات"، وصحيح أن جمال عبد الناصر وثق في محمد حسنين هيكل ولم يجعل عليه أي رقيب لكن هذا كان استثناء، أما السادات الذي رفع شعار الحريات الأربع أعطى للأحزاب حرية إصدار الصحف وبات هناك انتعاشة صحفية في منتصف السبعينيات.
لكن لأن حرية الصحافة ترتبط أساسًا بالديمقراطية، لم يطق السادات هذا، ويقول موسى صبري في مذكراته "50 عام في بلاط صاحبة الجلالة" أن السادات حين أنشأ المجلس الأعلى للصحافة، أوّل رقيب على الصحف ومن يملك حق منح تراخيص العمل لها، قال له "رئيس الجمهورية لما بيغلط بيتحاسب، والوزير بيتحاسب، إلا الصحفي مبيتحاسبش"، ثم جاء قصر اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية - في وقت كانت هي الأكثر انتشارًا - من خلال مجلس الشورى طريقة مُثلى لأن يحقق السادات عصفورين بحجر، الأول وضع مواد دستورية تنادي بحرية الصحافة وترسيخ الحريات كما الحال في دستور 71، ومن ناحية أخرى فاختيار رؤساء التحرير من قبل السلطة ضمن لها عدم تعدي الخطوط الحمراء لأن ذلك يعني فقدان رئيس التحرير لمنصبه.
وما بين محمد علي والسادات كان تبادل الأدوار هو الحاضر، فترة تكون الرقابة من خلال قوانين، وأخرى من خلال اختيار أهل الثقة، يحدد ذلك أشياء كثيرة لكن الثابت أنه فترات الحرية قصيرة جدًا جدًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...