تُطلق السيارات العنان لأبواقها دون توقّف. صفّ طويل منها عالق في خط واحد لكن بدلاً من أن يكون صوت منبهاتها مجرّد تلوث سمعي، نُعاينه وهو يُصبح فعل مقاومة بصوت سيّدة متقدّمة في العمر تقف على ناصية الطريق، تُلوّح بيدها بوتيرة متسارعة وهي ترسم شكل الضغط على البوق وتقول لصاحب كل سيارة "امشي امشي، ما توقّفش (لا تقف)".
في اليد الأخرى، تحمل لافتة كُتب عليها "فليسقط الاحتلال". تُريح يدها أحياناً من التلويح، لتضعها في فمها مُطلقة صفارة تشجيع للسيارات، بينما تتوجه إلى العسكري الذي يسدّ الطريق لتُخاطبه بالعبريّة أن يوقف "تعذيب هؤلاء"، وتُخبره بنظرة اشمئزاز أنه "وجه الاحتلال".
"زمغّوا زمغّوا"، تخرج الراء بلدغة الغين من فم السيّدة. هي آرنا مير اليهوديّة التي وُلدت في الجليل لأسرة صهيونيّة شاركت في حرب الـ48، والتي عاشت حياة صاخبة بالأحداث منذ انضمامها إلى وحدة "البالماخ" القوات الضاربة في "الهاجاناه"، وصولاً إلى مشاركتها في الحوار العربي اليهودي ولقائها هناك بمن سيصبح زوجها لاحقاً، صليبا خميس، الفلسطيني الذي كان من قادة "الحزب الشيوعي الإسرائيلي".
بعد ذلك لم يعد لآرنا "ما تندم عليه" سوى ما قالت لاحقاً "مشاركتها السابقة في نقل البدو من قراهم"، فبعد زواجها من صليبا ودخولها الحزب تبنّت القضيّة الفلسطينيّة من قلب مخيّم جنين، الذي اتخذته موطناً وشاركت في ترك بصمتها في حياة الكثير من سكانه حتى وفاتها بالسرطان عام 1994.
نرى هذا المشهد في مطلع الفيلم الوثائقي الذي أنجزه جوليانو مير خميس عن والدته آرنا عام 2003، وحمل اسم "أولاد آرنا"(Arna's children). ونعود إليه اليوم في ذكرى اغتيال جوليانو في المخيم نفسه في الرابع من أبريل عام 2011.
قوت القضيّة وقوتها
لا يمكن استحضار ذكرى جوليانو دون المرور بآرنا، فهو امتداد لها، ليس فقط بفعل الولادة الطبيعي بل بفعل الحب الذي ورثه عنها في عمله مع أطفال المخيّم في مجال التعليم والمسرح، وبفعل العلاقة الإنسانيّة التي جمعتهما معاً بأهل جنين. جوليانو هو امتداد لآرنا بفعل التماهي مع قضيّة فلسطين، هذا التماهي الذي يُشّكل جزءاً من قوت القضيّة وقوّتها.
كان جوليانو قد وثّق تجربة والدته منذ بدء عملها في المخيّم في برنامج تعليمي للأطفال، حين دخلته خلال الانتفاضة الأولى، ثم حين حازت جائزة نوبل البديلة للسلام فأسّست "مسرح الحجر" بأموال الجائزة عام 1993. استقطب المسرح عدداً من الممثلين الصغار الذين حلموا بـ"قنديل الشمس" (اسم مسرحيّتهم الأولى)، قبل أن يُصبح بعضهم شهداء في مقاومة استثنائية واجهوا بها اجتياح إسرائيل المخيّم عام 2002.
عاد جوليانو إلى جنين بعد الاجتياح. كان قد تلقى مكالمة من أحد "الأولاد" وهو يوسف سويطات يطمئن فيها عليه، شعر أن ثمة شيئاً غريباً في الاتصال. سريعاً اكتشف أن يوسف هو منفذ العملية الاستشهاديّة في تلّ أبيب. وصل جوليانو إلى المخيّم ليجد الدمار أينما كان، المسرح والمنازل المحيطة. وصور"أولاد آرنا" على الجدران، بعدما كبروا وقاوموا واستُشهدوا.
علاء وأشرف ويوسف… بعين جوليانو
"جول"، كما يُسميه كثيرون من أصدقائه الفلسطينيين كان قد بدأ مسيرته ممثلاً في فيلم أمريكي عام 1984 ثم في عدد من الأفلام والمسلسلات الإسرائيليّة، حاز الكثير من الجوائز العالمية، لكن محطته الأهم كفنان وإنسان تبقى جنين.
من المخيّم، خرج فيلمه البديع الذي أنسن فعل المقاومة ورسم على وجوه أصحابه ضحكة سعى كثيرون (احتلال ومتشدّدون) لشيطنتها.
علاء الصغير على أنقاض منزله المدمر ونظرات الغضب واضحة على وجهه الذي يعود ببراعة في فيلم جوليانو أكثر من مرة. علاء أصبح من قادة "كتائب شهداء الأقصى" في مخيم جنين وشارك ببسالة في الدفاع عن المخيم.
أشرف أبو الهيجا في مسرحيته الأولى كان يودّ أن يكون "روميو الفلسطيني" وأن يجد "جولييت من جنين". في مشهد له وهو صغير يقول "على المسرح، أشعر أنني أقذف جيش الاحتلال بالحجارة وعبوات المولوتوف، لن يبقينا الاحتلال في المجاري، أشعر بقوة وفخر وعزّ لأنني أمثل، وسنصبح ممثلين كباراً إن شاء الله". بعد هذه اللقطة نشاهد أشرف جثة داخل كيس أبيض.
أما يوسف سويطات الذي كان من المناصرين لعملية السلام، فقد غيّر قصف إسرائيل المدرسة الابتدائية للبنات في جنين حياته. وصل وحده ليجد الطفلة رهام وهي تنزف، توفيت بين يديه. لاحقاً لم يعد يوسف الضاحك الذي يُمازح الجميع. وحين أُذيعت وصيّته قبل تنفيذ العمليّة في تل أبيب، كانت صورة رهام تتوسط المشهد خلفه.
ردّد جوليانو مراراً إن "البندقية التي لا تحمل ثقافة، تقتل ولا تحرّر"، وقُتل أمام باب "مسرح الحريّة" في مخيّم جنين الذي تماهى مع أبنائه في قضيتهم... ثماني سنوات مرّت ولم تُكشف هوية القتلة
تقول المحامية عبير بكر، التي تمثل عائلة خميس، لرصيف22 إن القضية ما زالت نظرياً قيد التحقيق ولكنها تفترض "أنها ليست في سلم أولويات أجهزة التحقيق... فمنذ اللحظة الأولى للقتل لاقينا استهتاراً بالموضوع"
"العمليّة الفدائية" كما وصفها جوليانو في فيلمه، كانت السبب الذي أثار جنون الصحافة الإسرائيليّة ومنع قنوات أجنبيّة عديدة من بثّ الفيلم.
"البندقية التي لا تحمل ثقافة تقتل ولا تحرّر"
كان جوليانو متماهياً مع المحيط هناك، رغم أن هؤلاء ظنوا في البداية أن هذا اليهودي "جاسوس" واستغرقهم الأمر طويلاً حتى "وثقوا به". آمن بالمسرح كسلاح ثقافي، وقال في مقابلات عديدة إنه لم يعلمهم المسرح كبديل عن المقاومة، بل ليساعدهم كي يهدأوا وينضجوا ويدافعوا عن أنفسهم بشكل أفضل. ردّد مراراً "البندقية التي لا تحمل ثقافة، تقتل ولا تحرّر".
عام 2006، فتح جوليانو فصلاً جديداً من الحكاية. أسّس "مسرح الحرية" مع (المثير للجدل لاحقاً) زكريا الزبيدي، القائد العسكري السابق لـ"كتائب شهداء الأقصى" وأحد "أولاد آرنا"، وأراده باباً كي يعرف الأطفال والشباب ذواتهم من خلال العملية الإبداعيّة، ويُغيّروا ما يقمعهم من الاحتلال ومن المجتمع.
لم يكن "الحريّة" محل إجماع في جنين. كان التشدّد قد بدأ يمدّ جذوره، بينما تعرّض المسرح لمحاولات إحراق عدة وتلقى جوليانو كذلك تهديدات بالقتل، حتى سقط كبطل يُكمل حكاية بقيت مفتوحة على مدخل مسرحه. سقط صانع الحكاية ضحيّة لها، في حين كان العالم العربي يشهد بدء ثوراته.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com