المساحة الآمنة، المدينة الفاضلة التي يتقبّل فيها كلّ منا الآخر، دون انتقاص أو تقليل من مكانته أو حتى نفور وجزع منه، مساحة تُقبل فيها الآراء السياسيّة، المعتقدات الدينيّة، الميول الجنسيّة والهويّات الجندريّة المختلفة، مساحة خالية من الوصم والتحرّش، خالية من المعارك اليوميّة التي نخوضها من لحظة الخروج من قوقعتنا التي قد تكون البيت، الغرفة أو حتى السرير.
المساحة الآمنة في المجتمع المدني هي حلم كل شخص، ولكن هل يوجد مساحة فعلاً يمكننا إطلاق عليها صفة "آمنة"؟
هل يوجد مساحة فعلاً يمكننا إطلاق عليها صفة "آمنة"؟
على مدار 3 سنوات، وسط مجتمعات مختلفة ومتقاطعة، واصلتُ البحث عن المساحة الآمنة المزعومة، مساحة أعبّر فيها عن جنسانيتي، هويّتي، رأيي أو حتى انتقاد رؤسائي أو شركائي بحريّة، تنحصر تجربتي الشخصيّة في الكثير من القصص داخل المساحات الآمنة ومحاولاتي المستميتة لجعلها أكثر أماناً.
في خريف 2018 تمّ قبولي في ورشة موضوعها الأساسي عن الجنسانيّة، كانت الورشة من تنظيم منظّمتين/ مجموعتين معروفتين بالمهنيّة و التقدميّة، فنحن الآن مجتمعون للحديث ومناقشة أحد أكثر الموضوعات المحرّمة في المجتمعات الشرقيّة، فغالبية الحديث سيكون عن الجنسانيّة و بالتأكيد سنتطرق إلى الجنس، الميول والهوية.
في يومنا الأول تطرّقنا في حديثنا إلى المثليّة الجنسيّة، فيعبّر شخص عن رأيه المتواضع، ويخبرنا بأن أنسب حلٍّ للمثليّين هو الهجرة والخروج من البلد، ليس لأن هذا البلد يقوم بممارسة كافة أنواع العنف والقمع ضدّ مجتمع الميم، لكن لأن أستاذنا الفاضل الذي قرّر هَتْكَ عرض هذه المساحة الآمنة، أكمل جملته بأنه يحبّذ هجرة المثليّين، لأنه لا يريد أن يراهم هو أو أولاده. بعد جدال مطوّل وصل الأمر بأنه لم يكن يعني أيّ نوع من أنواع الإهانة للأشخاص أو الميول المختلفة.
لم تنته مفاجأة هذه المساحة هنا، في اليوم التالي تطرّق النقاش إلى موضوع أكثر شموليّة وهو النوع الاجتماعي، فإذا بشخص يعمل كطبيبٍ نفسي وعضو مؤسّس في مجموعة إلكترونيّة شهيرة، تناقش الجنس والجنسانيّة بطريقة مباشرة، قرر إسقاط آخر عمود يحمل سقف هذه المساحة " الآمنة" ليُخبرنا" بأنه، علمياً، الجندر راجل أو ست وأي حاجة تانية ديه تتصنّف على أنها personality disorder (اضطراب في الشخصية)".
يالها من مساحة آمنة، فالكلّ تقريباً يسعى لتخريب هذه المساحة، بل ونستطيع أن نشعر بالجهد المبذول للتخريب.
فكرة المساحة الآمنة تبدو غير منطقيّة أبداً، وبالتالي، أين يمكن خلق مساحة آمنة وسط بلاد غير آمنة؟ مساحة آمنة وسط الأصدقاء أو الزملاء؟ أظن أنّها فكرة غير سديدة، حتى وسط أشخاص من المفترض أنهم تقدّميون ويطالبون بالحريّة والتحرّر، قد يحوّلون أحياناً المساحات الآمنة إلى جحيم.
من الممكن تقابل أحد الأشخاص في مساحتك الآمنة، ويبدأ في بناء انطباع عنك، أو يصل إلى إصدار أحكام نتيجة تصرّفاتك بعفوية، فهم لا يعرفون أنه داخل المساحة التي نجد فيها أنفسنا، نفعل ما هو محرّم من قبل المجتمع خارج هذه المساحة، المشكلة هنا عندما يبدأ الشخص بتصدير أحكامه إلى أشخاص آخرين، فقد يراك هذا الشخص بأنك مستهتر، غير مهني أو غير أخلاقي.
أين يمكن خلق مساحة آمنة وسط الأصدقاء أو الزملاء؟ أظن أنّها فكرة غير سديدة، حتى وسط أشخاص من المفترض أنهم تقدّميون ويطالبون بالحريّة والتحرّر، قد يحوّلون أحياناً المساحات الآمنة إلى جحيم.
يخلق الأشخاص مساحتهم الآمنة بأنفسهم وبناءً على مقاييسهم، فالبعض قد يجد مساحته الآمنة إلكترونياً في مجموعة سريّة على فيسبوك، أو بعض المثليات يجدن أن المساحة الآمنة هي الخالية من الذكور، مهما كانت ميولهم الجنسيّة.
يخلق الأشخاص مساحتهم الآمنة بأنفسهم وبناءً على مقاييسهم، فالبعض قد يجد مساحته الآمنة إلكترونياً في مجموعة سريّة على فيسبوك، والبعض الآخر قد يجدها في مكان خاصّ به هو وأصدقاءه، أو بعض المثليات يجدن أن المساحة الآمنة هي الخالية من الذكور، مهما كانت ميولهم الجنسيّة، كما تجد النساء المساحةَ الآمنة في استخدام مترو الأنفاق، في العربات الحاملة لعلامة "للسيّدات فقط".
لا يوجد ما يمكن أن ندعوه بالمساحة الآمنة، فدائماً هناك من يهدّد أمن هذه المساحة، فيمكن لأحد أعضاء المجموعة السريّة على فيسبوك أن يأخذ منشوراً ويرسله في قائمة بريديّة تضمّ أكثر من 200 شخص، فقط لمحاسبة شخص على رأي عبّر عنه في "مساحة آمنة "، قد نجد في مجموعة نسويّة شخصاً ذكورياً مختبئاً، ينتظر الوقت المناسب ليُفصح عن رأيه الرجعي المبني على أساس ذكوري، ليعكّر صفو المجموعة، أو نجد زميلاً ينقل رأيك الشخصي إلى مديرك، عندما عبّرت عن غضبك تجاهه في "مساحة آمنة".
إجابة عن السؤال: هل يوجد مساحة آمنة؟ يبدو أن الإجابة هي لا يا أعزّائي، إن المساحة الآمنة هي ما نقوم بإيهام أنفسنا به، فقط للشعور بالأمان، حتى وإن قمنا باختيار أعضاء هذه المساحة، ستبقى المساحة مهدّدة لأسباب نعرفها وتلك التي لن نعرفها أبداً، وبالتالي فقد خدعوك حين قالوا: "مساحة آمنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...