كان زهير بن جناب بن هبل الكلبي، رأس قبيلة قضاعة، سيداً مُطاعاً شريفاً في قومه، إلا أنه قرر إنهاء حياته منتحراً، بعد أن ضعفت مكانته وضُربت هيبته في مقتل إثر تجرؤ ابن أخيه عليه ومخالفته رأيه.
يروي أبو حاتم السجستاني في كتابه "المعّمرون والوصايا" أن زهيراً الذي توفّي حوالي عام 564، أي قبل الإسلام، قال يوماً: "ليظعن الحي (أي ليرتحل)، فقال ابن أخيه عبد الله بن عليم بن جناب: إن الحي مقيم، فأعادها مراراً، وأعادها ابن أخيه مراراً، فقال: مَن هذا يرد عليّ؟ فقالوا: ابن أخيك. فقال: وما أحد ينهاه؟ قالوا: لا، فقال: شر الناس للرجل ابن أخيه، فشرب الخمر صرفاً (أي بدون طعام) حتى مات".
قبل سيادة الإسلام... قلق من اهتزاز المكانة السياسية
يذكر خليل محمد الشيخ في دراسته "الانتحار في التراث العربي" أن زهيراً وآخرين مثله قبل الإسلام اتجهوا نحو الانتحار عن طريق شرب الخمر مع الامتناع عن تناول الطعام، وذلك كردة فعل على الهزيمة أو الإخفاق. هذا ما حدث أيضاً مع عمرو بن كلثوم التغلبي وأبي براء عامر بن مالك.
ابن كلثوم، اعتادت الملوك أن تبعث إليه بالهدايا وهو في منزله من غير أن يفد إليها. ولما ساد ابنه الأسود بن عمرو بعث إليه الملوك بهداياهم مثلما بعثوا إلى أبيه، فغضب عمرو لمساواة ولده به، وحلف ألا يذوق دسماً حتى يموت، وراح يشرب الخمر صرفاً حتى مات، بحسب ما يذكره جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
وعلى نفس النهج سار أبو براء عامر بن مالك الذي سأل الرسول محمد أن يبعث معه قوماً يعرضون على قومه الإسلام، ويفقهونهم في الدين، فبعث إليهم عدداً من أصحابه، فتعرّض لهم عامر بن الطفيل يوم بئر معونة وقتلهم أجمعين، فاغتمّ أبو البراء غماً شديداً لنقض عهده، ودعا بنو عامر إلى قتال ابن الطفيل، فلم يجيبوه، فشرب الخمر صرفاً حتى مات وهو القائل: "لا خير في العيش وقد عصتني عامر"، حسبما روى الشيخ نقلاً عن كتاب "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" لأبي المنصور الثعالبي.
مرحلة ظهور الإسلام... انتحار لعدم القدرة على تحمّل الألم
شهدت المرحلة الأولى من ظهور الإسلام حالات انتحار رغم أن القرآن نهى عن قتل النفس، وتناولت الأحاديث النبوية هذه الحالات التي كانت وفاتها مرتبطة بالقتال والمعارك، ولم يستطع أصحابها تحمل ألم جراحهم الشديد.
فقد قتل شخص نفسه بعد أن جُرح جرحاً شديداً "بأن وضع سيفه على الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه". وقتل آخر نفسه بأن "أهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه"، حسبما نقل الشيخ عن صحيح البخاري. وقتل رجل آخر نفسه بمشاقص (سهام ذات نصل عريض).
وذكر الشيخ أن الرسول تنبأ للاثنين الأولين بأنهما من أهل النار، ورفض الصلاة على الثالث.
ولفت إلى أن الحدثين الأول والثاني يرتبطان برجلين كانا في قمة الشجاعة وأسهما في القتال إسهاماً لفت نظر المسلمين حتى قالوا للرسول: "ما أجزأ منا اليوم أحد كما أُجزأ فلان"، فقال الرسول: "أما إنهما من أهل النار".
وجاء انتحارهما مصداقاً لقول الرسول الذي أراد أن يكشف أن قتالهما لم يكن عن إيمان حقيقي، بل عن رغبة في الشهرة، ولهذا تُجرّدهما الأحاديث من هذه الشهرة فتصفهما بـ"فلان".
ابن الأشعث... الهروب من الذل والمهانة
في بعض الحالات، كان الإقدام على الانتحار مدفوعاً بالخوف من الوقوع في أسر العدو وملاقاة صنوف الذل والمهانة. هذا ما حدث مع عبد الرحمن بن الأشعث سنة 704 بعد فشل ثورته على عبد الملك بن مروان وعامله الحجاج بن يوسف الثقفي.
يروي محمد بن جرير الطبري، في كتابه "تاريخ الأمم والملوك"، أن الحجاج أمر ابن الأشعث بالخروج على رأس جيش سُمّي بـ"الطواويس" للانتقام من الترك بعدما هزموا جيش عبيد الله بن أبي بكرة أثناء حملته على بلادهم. وتقدم ابن الأشعث بحذر شديد، واحتل قسماً من بلاد الترك وأرجأ احتلال المتبقي منها بسبب دخول موسم الشتاء.
لكن الحجاج خالفه الرأي وأمره بالمضي وهدده بالعزل، فأعلن ابن الأشعث تمرداً دام ثلاث سنوات ولقّب نفسه بـ"ناصر المؤمنين"، وهدد الدولة الأموية، وكاد يقضي على مستقبل الحجاج الذي خرج لملاقاته على رأس جيش كبير.
وبعد هزيمة ابن الأشعث في دير الجماجم (بين الكوفة والبصرة)، لجأ إلى زونبيل، زعيم الأتراك، فسلّمه الأخير إلى الحجاج وفقاً لاتفاقية الصلح بينهما، كما تقول بعض الروايات، فألقى ابن الأشعث بنفسه من فوق قصر كان مسجوناً فيه، وفارق الحياة.
وبحسب الشيخ، فعل ابن الأشعث ذلك حتى يتجنب المذلة والعار، خاصة أنه لم يكن هناك ود وثقة بينه وبين الحجاج الذي كان يقول عنه "ما رأيته قط ماشياً أو راكباً إلا أحببت قتله"، بحسب ابن الأثير الجرزي في كتابه "الكامل في التاريخ".
ولكن محنة ابن الأشعث لم تنتهِ بانتحاره، فقد بُعث برأسه إلى الحجاج، وظل رأسه يطوف ليستقر أخيراً تبعاً لبعض الروايات في وادي برهوت في حضرموت، حيث تتجمع أرواح الكفار، طبقاً لمعتقدات شعبية كانت سائدة حينذاك.
صالح بن مدرك... اليأس من الخلاص
تتكرر قصة الخروج فالهزيمة فالانتحار في العصر العباسي. يروي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، أن الخليفة أبا العباس أحمد المعتضد بالله أمر عام 899 أبا الأغر خليفة بن مبارك السلمي القرشي بقتال مجموعات على طريق مكة، فقتل بعضهم وأسر قائدهم صالح بن مدرك الطائي، فاجتمعت بعض القبائل العربية لقتال أبي الأغر من أجل إنقاذ صالح من يديه، فواقعهم وقتل رئيسهم جحيش بن ذيال وجماعة معه.
ولما علم ابن مدرك بقتل ابن ذيال يئِس من الخلاص، ولما نزل المنزل المعروف بمنزل القرشي أتاهم غلام بطعام فأخذ منه سكيناً وقتل نفسه.
مقاتلون مسلمون شجعان انتحروا لأنهم لم يستطيعوا تحمّل ألم جراحهم خلال معارك المسلمين الأوائل، ولكن الروايات والأحاديث لا تصفهم إلا بـ"فلان" لحرمانهم من الشهرة
كان زهير بن جناب بن هبل الكلبي، رأس قبيلة قضاعة، سيداً مُطاعاً شريفاً في قومه، إلا أنه قرر إنهاء حياته منتحراً، بعد أن ضعفت مكانته وضُربت هيبته في مقتل إثر تجرؤ ابن أخيه عليه ومخالفته رأيه
المغرب... هروب من سوء المصير
في تاريخ المغرب، لم يجد سياسيون وقادة بُدّاً من الانتحار بعد أن استنفذوا كل وسائلهم أمام أعدائهم. روى الدكتور عبد الإله بنمليح في دراسته "الانتحار في تاريخ المغرب الوسيط" أن عرب وبربر صقلية تمرّدوا عام 898 ضد حكم إبراهيم ابن أحمد بن الأغلب المشهور بجوره ودمويته.
استطاع الأمير الأغلبي إخماد التمرّد، فأمّن أهل صقلية مستثنياً منهم زعماءهم، وهم أبو الحسن بن يزيد وولداه، فضلاً عن زعيم آخر يُعرف بالحضرمي، ثم قُبض على الثلاثة الأخيرين ونقلوا إلى إفريقيا حيث قُتلوا.
أما رابعهم وهو أبو الحسن بن يزيد، فقد "تناول سُماً فمات من ساعته وصُلبت جثته"، حسبما روى أبو العباس ابن عذاري المراكشي في "البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب".
وبحسب بنمليح، انتحر ابن اليزيد خوفاً من سوء المصير من عذاب وتنكيل، فقد قُتل الحضرمي بالمقارع، وهي أداوت خشبية تُضرب بها الدواب، بين يدي الأمير الأغلبي.
وفي القرن العاشر، انخرطت قبيلتا زناتة وصنهاجة بحدة في الصراع الفاطمي-الأموي في بلاد المغرب، وبرز اسم زيري بن مناد الصنهاجي حليفاً للمعز لدين الله الفاطمي، واسم محمد بن الخير بن محمد بن خزر حليفاً للحكم المستنصر الأموي، وأصبحت المواجهة بينهما حتمية.
ويذكر عبد الرحمن بن خلدون في كتابه "تاريخ ابن خلدون" أن صنهاجة اتخذت المبادرة فهاجمت زناتة انطلاقاً من مدينة أشير (تقع جنوب شرق الجزائر العاصمة)، ووقع الصدام في نواحي تلمسان (شمال غرب الجزائر) في فبراير 971، فمالت الكفة لصالح قائد صنهاجة بلكين بن زيري بن مناد.
وأمام أسر رجال عديدين من زناتة، ومقتل حوالي 17 أميراً منهم، وبقاء زعيمهم محمد بن الخير مع قلة قليلة من رجاله "مال إلى ناحية من العسكر وتحامل على سيفه فذبح نفسه"، حتى يجنّب قومه الإبادة على يد صنهاجة، بحسب بنمليح.
حالة انتحار أخرى شهدتها بلاد الأندلس. فبينما كان بنو الأحمر يرتبون شؤون إمارتهم الناشئة، عمد أميرهم أبو عبد الله محمد بن الأحمر إلى تثبيت سلطته في الجهات التابعة له، قبل أن يعلن بيعته للخليفة الموحدي أبو محمد الرشيد عبد الواحد بن المأمون سنة 1240، نيابة عن أهل غرناطة ومالقة ومرسية وغيرها.
وبحسب أبي عبد الله بن عسكر وأبي بكر بن خميس في كتابهما "أعلام مالقة"، تم القبض على والي مالقة عبد الله بن زنون، وكان موالياً للأمير عبد الله بن هود الذي كان يبايع العباسيين، كما أضر أهل بلده وأذاقهم شراً، فاقتيد إلى غرناطة، وعُذّب هناك، ثم أعيد إلى مالقة ليُخرج مالاً قيل إنه كان عنده، فلم يخرجه، وظلّ يُعاقب بالضرب حتى مات، وقيل إنه تناول موسى كانت عنده، فذبح بها نفسه، وقيل إنه ذُبح بها ولم يذبح بها نفسه.
عصر المماليك... سلب وعصيان ثم انتحار
في العصر المملوكي، تعددت أسباب الانتحار. فعام 1341، أصدر السلطان الناصر محمد بن قلاوون قراراً بالقبض على المستوفي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الملقّب بـ"النشو"، وكذلك على إخوته وأقاربه، فقبض على أخيه "المذعور رزق الله"، وتحفظ عليه القائد العسكري الأمير سيف الدين قوصون، ووكل به شخصاً برتبة "أمير شكار" (المشرف على أمور الصيد للسلطان) قام بسجنه في بعض الخزائن، وكان يحرسه حتى مطلع الفجر.
وأثناء قيام الـ"أمير شكار" لأداء الصلاة، استغفله رزق الله وأخذ سكيناً وضرب به رقبته حتى قطع وريده، ولم يشعر به الـ"أمير شكار" إلا وهو يغرغر للموت، حسبما نقل عن تقي الدين المقريزي في "السلوك لمعرفة دول الملوك"، الدكتور محمد عباس في دراسته "جريمة الانتحار في المجتمع المصري خلال عصر سلاطين المماليك/ 1250-1517".
وذكر ابن حجر العسقلاني في "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" أن رزق الله هذا كان كثيراً ما يقول لأخيه "النشو" قبل القبض عليهما: "إنْ جرت علينا نائبة لا يرحمنا أحد لمبالغتنا في نصح الملك وشمت الناس بنا، وإني والله إنْ وقع ذلك لا أمكّن أحداً من عقوبتي"، وكان كذلك.
أما الأمير سيف الدين قنق بن عبد الله العزي أحد مقدمي الألوف (رتبة عسكرية) بالديار المصرية، فانتحر على شاطئ بركة الحبش عام 1367، بعدما عصى السلطان الأشرف شعبان بن حسين (1362 – 1376) مع جماعة من المماليك.
وروى يوسف بن تغري بردي في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، أنه لما هُزم "قنق" سار نحو البركة، وأخذ يستف الرمل ويشرب من ماء البركة حتى مات، ويبدو من ظاهر الأمر أن الأمير قنق لم يتحمل الهزيمة المنكرة التي لحقت به، وربما أدرك سوء ما ينتظره من العذاب بحال القبض عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...