شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كولاج: يا ورد من يشتريك...ليتنفسك؟

كولاج: يا ورد من يشتريك...ليتنفسك؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 11 أبريل 201907:43 م

من البراري إلى قارعة الطريق فالبوتيكات الفاخرة...

تعمل شنتال فهمي فوتوغرافر. أسّست c.fauve  لفنّ تنسيق الزهور في أيلول الفائت، تحكي عن تجربتها كأنها تروي قصةً من أدب الأطفال، يلتقي فيها الواقع بالسحر. تربت ابنة عكّار، القرية الشماليّة في لبنان، بين المزارع والحقول، هناك في البعيد حيث لا تزال الطبيعة فطريّة، كثيفة، غضّة كما لم يعرفها سكان المدن من قبل، كانت، على غرار أترابها، تقصد البراري مع أمّها، شقيقتها الكبرى وجدها، فيطيب لهم قطف أزهار المواسم، والعودة بها لتزيين الدار، إمّا من خلال تركها طازجة، أو تجفيفها حسب الأصول البلديّة التي أتقنتها.

من الواضح أن تأثير الرجل العجوز عميقٌ في نفس حفيدته، إذ تتحدّث عنه بحنين ملؤه الدفء، مستلهمةً منه الكثير، وتروي أن يده كانت خضراء، يزرع شتولاً غريبة عجيبة، تستحليها نساء الضيعة، فيعطيهم منها قصفة أو اثنتين من أجل أن يزرعنها بأحواضهن وتبرعم.


كالطير، هاجرت شنتال إلى بيروت، ونقلت معها جزءاً من زرّيعاتها وباقاتها. يحدث أنها كلما شعرت بالضيق، اشترت نبتةً تضيفها إلى مجموعتها، حتى صارت تعيش وسط "غابة" من ستين واحدة تؤنسها وتواسيها.

بدأت شنتال عملها بشكل عفوي، ولم تكن تنوي البيع أبداً، تعدّ كل أسبوع "بوكيه" من حديقتهم، بعد أن تكون قد ألّفته في مخيلتها وأطلقت عليه اسماً يشي بثيمته، ثم تقوم بتصويره جامعة بين عشقين، تنسق الأزهار والتصوير، أيضاً، عند حلول أي مناسبة سعيدة لشخصٍ عزيز، لا تجد هديةً لتقدّمها أصدق تعبيراً من آرينجمنت (arrangement) تحضّرها خصيصاً بيديها، أما مفهوم "الأنيق" (chic) لديها، فهو تماماً بالبعثرة والخروج عن التصفيف المفتعل بما يشي بالحرية والانعتاق، كلّ هذا يتجلّى بالزهر المنمنم والأشواك المجنونة الزرقاء والليلكيّة.

هكذا بدأت أشغالها تنتشر في محيطها الضيق وتنال الإعجاب، ثم شجّعها الأهل والأصحاب لتفتح مهنتها على حسابها، فباشرت بخجل، غير متوقعة النجاح المفاجئ القادم، إذ لا يمرّ أسبوع دون طلبية على الأقل، ولأن حديقة البيت ما عادت تلبّي الحاجة، صارت تطلب أنواع معينة من مشاتل الجوار أو من أفريقيا لغناها بأصناف من الوحشي – اللطيف، وعن رؤيتها المستقبليّة، فإنها تنوي تكبير "الجنينة" لتحقّق الاكتفاء الذاتي.

فارس الورود المتجوّلة

فرّ فارس الخضر من سوريا مع بداية الحرب، قست عليه الحياة قبل أن يشتدّ عوده، فوجد نفسه في قارعة شارع الثقافة البيروتي، الحمرا، يبيع الجوري للمتحابين من أجل خبزه اليومي وخبز عائلته. تمتّع الصبي بجاذبية مغناطيسيّة، كأنه، بوجهه البهي وجسده النامي، جمع جمال كل صبيان عمره وبلده، مع ما يضفيه عذاب اللجوء من حزن، ينعكس صفاءً في العيون، مرايا الروح.

نسج مع محيطه، دون دراية منه ولا قصد، علاقة تخطّت علاقة البائع بالزبائن المارّين مرور الكرام، أحبّه الروّاد من اليسار العتيق، العاملون في مؤسسات المجتمع المدني الذي تعلو موجته مؤخراً، كما أحبه الساهرون العاديون فحسب.

تمثّل داخل المشهديّة البانوراميّة كنجم اليوتوبيا الضائعة، رمز مكثف لحالة طفولة معذبة أفرزها القتال، أو ببساطة ملاك الغرام المبارك.

يُحكى في نُبل الفارس أنه كان يقدّم الزهور مجاناً لغير القادرين على دفع المبلغ الزهيد الذي يشكّل ثمنها. هكذا، صار جزءاً من المُعاش اليومي، فصولاً وأجزاء من فصول حكايا فضاء هو الكوزموبوليتي الوحيد في ظل التقسيم الطائفي للمناطق. عشقته عدسات الكاميرات، فالتقطت له صوراً، ما لبثت أن تحوّلت لأيقونات في التاريخ المديني الحديث.

ثم عاد إلى الحسكة، وسقط شهيداً هناك، بالرغم من أن عمره لم يتعد 12 عاماً وبالرغم من مرارة الحياة التي تذوّقها مبكراً.

صاحب البنية اليافعة، يتمثل اليوم عملاقاً من خلال جدارية جرافيتي تراجيديّة، وضعها الرسام العالمي يزن حلواني على واجهة مبنى في دورتموند الألمانيّة. ينظر إلى العالم من أعلى وربما يقول: "تباً، أنا أكبر وثيقة على إجرام الطاغية، فكيف ثمة من لا يعقلون؟"

جثث الأزهار الأنيقة

على تخوم شوارع بيروت، نجد بوتيكات فاخرة لبيع الأزهار، ملفوفة وتفيض بالصمت، لا حركة فيها ولا حولها خلال معظم أوقات النهار. تعرض التوليب، والأوركيديا،و دوّار الشمس وغيرها داخل علب بلاستيك شفافة، فتبدوا كجثث ملوك معروضة للفرجة من خلف الزجاج، قبيل مواراتها الثرى، من أجل إلقاء النظرة الأخيرة عليها.

يعزّز هذا الانطباع بالفخامة، إنما الجوفاء، ما نجده في هذه المحلات من دمغٌ مذهّب على بتلاتها باسمي الحبيبين مثلًا، أو عبارات مستهلكة.. ناطقة هي إذن. يزيد الأمر غرائبية، ما نلحظه من صبغة بعض الأنواع بألوان فاقعة، لا تتطابق مع ما اعتدنا أن توفّره مروحة درجات الطبيعة.

هذا ليس كل شيء، لأن أسعار الباقة في هذه المحلات يتراوح بين مئة ومئتين دولار، ما يُعتبر غالٍ في بلد يُخشى على طبقته الوسطى من التلاشي، ويُهمس، حول ملفات فساده، عن أكلٍ لأموال اللاجئين.

منذ حوالي الـ 80 عاماً، كتب، لحّن وغنّى فنان الشعب، الظاهرة "عمر الزعني":

بيروت

زهرة في غير أوانها

بيروت ما أحلاها وما أحلى جمالها

بيروت يا حينها يا ضيعناها

تذبل على أمها وتموت

بيروت

ثم أعادت ياسمين حمدان إحياءها في الـ 2013، فتذوقتها شريحة قليلة، من هواة النوع خصوصاً، ولم تجد رواجاً واسعاً على غرار النسخة الأصليّة، بكل حال، التجربة حمّالة لدلالة على أن بيروت لا تموت، بل إنها تتحوّل فحسب، تتقمّص أشكالاً مغايرة لذاتها.

صورة المقال من إنستغرام  c.fauve



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image