شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قاهرة نابليون، وقبلة البهائيين وآخر معاقل الصليبيين: مدينة عكا

قاهرة نابليون، وقبلة البهائيين وآخر معاقل الصليبيين: مدينة عكا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 25 مارس 201901:24 م

على مساحة تقارب الأربعة عشر كيلومتراً مربعاً، تمتدّ مدينة عكا في الشمال الفلسطيني، شاهدةً على العديد من اللحظات التاريخيّة المهمّة في الذاكرة الإسلاميّة.

عكا واحدة من أقدم المدن التاريخيّة الفلسطينيّة على الإطلاق، وقد حظيت بمكانة مهمة ومعتبرة طوال تاريخها، نظراً لموقعها الاستراتيجي الممتاز وأسوارها ، ولارتباطها ببعض من اللحظات التاريخيّة الحرجة التي لا تُنسى.

بدر الجمالي: والي عكا القوي الذي انتشل الدولة الفاطميّة من الفوضى

ارتبط اسم مدينة عكا بالعديد من القادة العسكريين، الذين كانت لهم تأثيرات هامّة في تاريخ الدول الإسلاميّة في القرون الوسطى، ولعلّ بدر الجمالي كان أكثر هؤلاء القادة شهرة وتأثيراً على الإطلاق.

كان بدر واحداً من مماليك الدولة الفاطميّة، وأصله يعود إلى أرمينيا، وقد عُرف منذ صغره بالطموح والكفاءة، حتى وصفه ابن الصيرفي في كتابه "الإشارة إلى من نال الوزارة" بأنه كان "عزوف النفس، شديد البطش، عالي الهمة، عظيم الهيبة، مخوف السلطة، ومازال من شبيبته ينتقل في الخدم ويتدرج في الرتب ويأخذ نفسه بالجد فيما يباشره وقوة العزم فيما يرومه ويحاوله...".

بحسب المصادر التاريخيّة، شغل بدر مكانة مهمّة في الدولة الفاطميّة في النصف الأوّل من القرن الخامس الهجري، حتى تمّ تعيينه على ولاية دمشق، ولكنه دخل في عدد من الصراعات مع بعض أعيانها، فأُجبر على الخروج منها، ولم يجد وقتها من ملجأ إلا ثغر عكا.

الفترة التي قضاها بدر الجمالي في عكا، مُحاطة بالكثير من الغموض والضبابيّة، حيث لا تحدّثنا المصادر عن أي تفاصيل لأعمال بدر الجمالي الإداريّة والعسكريّة فيها، ولكن من المُرجّح أن عكا قد تمتّعت بالرفاهية والازدهار في عهده، ومما يؤكّد ذلك أن الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، قد سارع للاستنجاد ببدر الجمالي، عندما تعرّضت مصر للقحط والمجاعة والاضطرابات السياسيّة لمدة سبع سنوات كاملة، في الفترة من 457هـ إلى 464هـ.

والي عكا القوي، استجاب لرسالة الخليفة العاجز عن ضبط أمور دولته، فأبحر مع مجموعة منتقاة من رجاله الأرمن إلى مصر، ووصل دمياط في ربيع الآخر 466هـ، فتولّى الوزارة، وبدأ يعمل على إصلاح الأحوال "فأقام الهيبة ورفع منار الدولة ورتّب الدواوين والمستخدمين وقرّر أمر الرجال والأعمال ..."، بحسب ما يذكر ابن الصيرفي.

دبّر الجمالي مؤامرة ضخمة، قتل فيها جميع القادة العسكريين الذين كان يخشى من عصيانهم، وخاض عدداً من المعارك ضد قوّات الأتراك والمغاربة والسودان، التي كانت تَعيث في الأراضي المصريّة فساداً، كذلك اهتمّ بالإصلاحات الزراعيّة والصناعيّة والتجاريّة، وأعاد الهدوء والاتزان للمجتمع المصري مرّة أخرى.

ساهمت إصلاحات بدر الجمالي في مصر، وجهوده الحثيثة في سبيل ضبط أحوالها، بشكل فعّال في إعادة إحياء الدولة الفاطميّة، وانتشالها من حالة التردّي الاقتصادي والسياسي والعسكري التي كادت أن تعصف بها، ومن هنا فقد صارت قصّة والي عكا مع المستنصر، مضرباً للأمثال، ونموذجاً شاع الاحتكام إليه في الكتابات التاريخيّة، والتي تبين كيف أمكن لمدينة صغيرة بحجم عكا أن تقدّم خدمة جليلة لدولة عظيمة الشأن والمساحة مثل الدولة الفاطميّة.

عكا: مضرب الأمثال وكلمة النهاية للوجود الصليبي في بلاد الشام

في نهايات القرن الخامس الهجري/ القرن الحادي عشر الميلادي، بدأت الحملات العسكريّة الأوروبيّة على المشرق الإسلامي، وهي الحملات التي ذاع صيتها واشتهرت في المصادر التاريخيّة باسم "الحملات الصليبيّة".

استطاع الصليبيّون الذين تدفّقوا بالآلاف إلى المشرق، أن يؤسّسوا عدداً من المعاقل في بلاد الشام والأناضول، حيث أقاموا مملكة بيت المقدس، بالإضافة إلى إمارات أنطاكية والرها وطرابلس.

استطاع الصليبيّون الذين تدفّقوا بالآلاف إلى المشرق، أن يؤسّسوا عدداً من المعاقل المهمّة لهم في بلاد الشام والأناضول، حيث أقاموا مملكة بيت المقدس، بالإضافة إلى إمارات أنطاكية والرها وطرابلس.

الصراع مع التوسع الصليبي وصل لذروته في معركة حطين 583هـ/1187م، التي تمكّن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي فيها من تحقيق انتصار مهمّ على الجيوش الصليبيّة، ليستتبع ذلك تحريره لبيت المقدس وإعادته مرّة أخرى للمسلمين.

صلاح الدين، كان يدرك أن ملوك أوروبا لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ضياع المدينة المقدّسة، وكان يعرف بأن الجيوش الصليبيّة سوف تنثال باتجاه المشرق عمّا قريب للانتقام، ومن هنا فقد سارع لحصار الموانئ الشاميّة المهمّة التي تصلح كنقاط لهبوط القوّات المسيحيّة.

اختار الصليبيّون في حملتهم الثالثة للمشرق،والتي قادها كل من ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وفيليب الثاني أوغسطس ملك فرنسا، عكا كمحطة لاستقبال قوّاتهم، فحاصروها وتمكنوا من غزوها بعد أن عقدوا اتفاقاً مع حاميتها، ولكنهم بعدها نقضوا اتفاقهم، فقتلوا ما يقرب من ثلاثة آلاف أسير مسلم، بحسب ما يذكر ابن أيبك الداوداري في كتابه "كنز الدرر وجامع الغرر".

ورغم أن الحملة الصليبيّة الثالثة لم تنجح في انتزاع بيت المقدس من المسلمين، إلا أن مدينة عكا قد بقيت تحت سيطرة القوّات الصليبيّة، ولم يستطع صلاح الدين أو أي من خلفائه من سلاطين الدولة الأيوبيّة، أن يدخلوا تلك المدينة الحصينة، وذلك لقوّة حاميتها وضخامة أسوارها وأبراجها، وهو الأمر الذي تسبّب في ظهور ما يمكن أن نسميه بالعقدة العسكريّة، حيث ضُربت في حصانة عكا الأمثال، فاعتاد المسلمون أن يقولوا لمن فعل شيئاً عظيماً، تقليلاً من أهمية فعله "وكأنه فتح عكا".

تلك العقدة المرتبطة بعكا سرعان ما تضخّمت عندما اتخذ منها الصليبيّون عاصمة لدولتهم في بلاد الشام، حيث أضحت مركزاً بديلاً عن أورشليم، ومن تلك المدينة الساحليّة الحصينة أُديرت شؤون "مملكة بيت المقدس الإسميّة" لفترة تقارب المائة عام، وصارت نقطة الانطلاق الرئيسة للجيوش الصليبيّة التي تمنّي نفسها باستعادة بيت المقدس.

بعد نهاية الدولة الأيوبيّة، وقيام الدولة المملوكيّة في مصر وبلاد الشام، ظهر أن الوجود الصليبي  يتجه نحو نهايته، حيث تمكن سلاطين المماليك من استعادة معظم المدن الشاميّة الهامّة، وفي 690هـ/ 1291م، كتب السلطان المملوكي الأشرف صلاح الدين خليل، كلمة النهاية لذلك الصراع الدامي الطويل، عندما قاد جيوشه لمدينة عكا، واستطاع أن يدخلها بعد حصارها لأكثر من شهر، مُنهياً بذلك البقية الباقية من الوجود الصليبي في بلاد الشام.

حيث انتهت أحلام نابليون

في 1798م، توجّه الجنرال الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت على رأس حملة عسكريّة كبيرة باتجاه مصر، حيث استطاع الفرنسيون أن يهزموا قوّات المماليك في بعض المعارك، ومن ثم فرضوا سيطرتهم الكاملة على الوجه البحري وجزء كبير من الصعيد.

نابليون كان يخطط لعزل عدوّته إنجلترا عن مستعمراتها الكبرى في الهند، وكان في الوقت ذاته، يطمح لتأسيس إمبراطوريّة فرنسيّة ضخمة في الشرق، وكانت مصر هي الهدف الأول له، فلما انتهى من السيطرة عليها، وجّه نظره نحو فلسطين، وبالتحديد صوب مدينتي يافا وعكا.

القائد الفرنسي تمكن من إخضاع يافا بسهولة، ولكنه ارتكب واحدة من أعظم أخطائه على الإطلاق عندما حنث بوعده الذي قطعه لحاميتها، فقتل ما يقرب من أربعة آلاف أسير سقطوا في قبضته في يافا، وهو الأمر الذي تسبّب فيما بعد في ثبات موقف المدافعين عن عكا، بعدما تيقّنوا من عدم إيفاء نابليون بوعوده، وبعدم جدوى عقد الاتفاقات معه.

في مارس 1799م، حاصر نابليون عكا، وكان تعداد القوّات الفرنسيّة يقارب ثلاثة عشر ألف جندي، أما الوالي العثماني أحمد باشا الجزار فقد تحصّن داخل أسوار مدينته مع ما يقرب من أربعة آلاف جندي.

حاول نابليون أن يصل إلى حل ودّي مع الجزار، إلا أن العثمانيين رفضوا تسليم مدينتهم، وأعلنوا عن نيّتهم قتال الفرنسيس، وشدّت من أزرهم، المساعدات العسكريّة والإمدادات التموينيّة التي قدّمها لهم الأسطول الإنجليزي.

ورغم الجهود الحثيثة التي قام بها نابليون وجيشه على مدار ما يزيد عن الشهرين، إلا أن محاولات فتح المدينة قد باءت جميعها بالفشل الذريع، واضطر نابليون في 21 مايو 1799م، للتراجع وفكّ الحصار عن عكا، وقام بإلقاء مدافعه الثقيلة في البحر المتوسط حتى لا يستفيد العثمانيون منها.

أسوار عكا الشاهقة، كانت سبباً رئيساً في إفشال مشروع نابليون بونابرت التوسّعي في الشرق، بل وكانت أحد الأسباب التي دفعت القائد الفرنسي للعودة إلى فرنسا للسيطرة على السلطة بها، وتحويل دفّة الصراع باتجاه القارة الأوروبيّة نفسها.

من المهمّ هنا ملاحظة أن هزيمة نابليون أمام عكا، قد دخلت في نسج الكثير من الأقوال والأفعال التي نُسبت إلى القائد الفرنسي، وذلك رغم عدم ثبوت حقيقة أي منها، فقد قيل، على سبيل المثال، إن نابليون لما أدرك استحالة اقتحامه لعكا، فأنه خلع قبعته وأطارها في الهواء صوب أسوار المدينة وقال "إن لم أستطع دخولك فلتدخلك قبعتي"، وقال بعدها، موجّهاً كلامه للمدينة الحصينة: "وداعاً لا لقاء بعده"، أما جملته التي حظيت بالقدر الأكبر من الشهرة والذيوع، فكانت "لقد أنستني عكا عظمتي، لو سقطت عكا لغيرت وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة".

حدائق البهجة وضريح حضرة بهاء الله: قبلة البهائيين ومزارهم المقدّس


واحدة من بين أهم النقاط التي تؤكّد على مكانة مدينة عكا التاريخيّة والدينيّة، اتصالها وارتباطها بفصلٍ أساسي من فصول تطوّر الديانة البهائيّة، وهو ذلك الفصل الذي ابتدأ مع نفي حضرة بهاء الله إليها في عام 1868م.

كان الإيراني ميرزا حسين علي النوري المازندراني، قد اعتنق إحدى الدعوات الدينيّة التي انتشرت في إيران في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي الدعوة البابيّة التي روّج لها علي محمد بن محمد رضا الشيرازي، والذي أطلق على نفسه اسم الباب أو باب الله.

في عام 1866م أعلن حسين علي أنه هو نفسه "بهاء الله" الذي بشّر البابُ بقدومه، وتمّ بذلك التدشين الرسمي للديانة البهائيّة، بوصفها ديانة مستقلّة، وتعرّض بهاء الله على إثر ذلك للاضطهاد والنفي، حيث جرى إبعاده إلى العراق فمكث فيها بضعة أعوام، حتى أصدر السلطان العثماني عبد العزيز الأول فرماناً بحبسه في سجن عكا في 1868م.

بحسب المرويّات البهائيّة، فأن حضرة بهاء الله قد حُبس في زنزانة ضيقة شديدة الرطوبة في الطابق الثاني من السجن المزدحم في تلك الفترة بالمنفيين، وهم الذين ارتأت السلطات العثمانيّة إبعادهم عن أوطانهم للخطورة الشديدة التي يمثلونها على الاستقرار السياسي في دولة الخلافة.

في سجن عكا، دوّن بهاء الله مجموعة من أهمّ الكتب والمؤلفات، ومنها كتاب الأقدس، الذي سيصير فيما بعد أهم الكتب المقدّسة في الديانة البهائيّة، بالإضافة إلى أنه قد أرسل بعض الرسائل لمجموعة من حكام الدول الإسلاميّة والأوروبيّة ولبابا الكنيسة الكاثوليكيّة، وكانت معظم تلك الرسائل تركّز بالمقام الأول على التعريف بالديانة البهائيّة وتؤكّد على أهدافها السامية التي تتسق مع القيم الإنسانيّة.

إلى الآن، يوجد ما يقرب من سبعة مليون إنسان بهائي حول العالم، ينظرون إلى ضريح بهاء الله في عكا، بكل تبجيل وتقديس، ويعتبرون أن هذا الضريح هو أحد أهم المزارات الدينيّة التي يحرصون على زيارتها والحجّ إليها، وبالإضافة إلى ذلك فأنهم يتخذون من حدائق البهجة، قبلةً لهم بحيث يتوجّهون إليها بقلوبهم ووجوههم عند كل صلاة.

وبعد ما يزيد عن العامين في محبسه، سُمح لبهاء الله بالخروج منه، وبالسكن في منزل عادي في المدينة، وكان ذلك بسبب حاجة السلطات التركيّة للسجن لتحويله إلى ثُكنة عسكريّة للجنود، فقام ابن بهاء الله، والمسمى بعبّاس أفندي بتأجير مسكن متواضع في الحي الغربي بمدينة عكا، وانتقل إليه بهاء الله مع أسرته، كما أن العديد من البهائيين قد قدموا من مناطق شتى لزيارة بهاء الله والاستماع إلى توجيهاته وإرشاداته.

بعد فترة أشترى بهاء الله قطعة أرض في شمال عكا، وانتقل للإقامة فيها، وظلّ بها لمدّة اثني عشر عاماً حتى توفّى في 1892م، فدُفن فيها، ومع الوقت تعاظم الاهتمام البهائي بتلك المنطقة، فزُرعت فيها الحدائق الرائعة الجمال، والتي سُمّيت بحدائق البهجة، وهي حدائق تموّلها التبرعات الماليّة البهائيّة التي يرسلها أتباع هذا الدين، وتظهر فيها أثار الدمج بين الفنون الإيرانيّة والعربيّة.

في 2008م، أعلنت لجنة التراث العالمي المنبثقة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة UNESCO عن ضمّ حدائق البهجة في عكا، وحدائق البهائيين الأخرى الموجودة في حيفا، إلى قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، الأمر الذي تسبّب في شهرة تلك الحدائق وزيادة الإقبال على زيارتها من قبل السائحين، وتحويل مدينة عكا لتصبح إحدى أهمّ المدن السياحيّة في دولة الكيان الصهيوني.

وإلى الآن، يوجد ما يقرب من سبعة مليون إنسان بهائي حول العالم، ينظرون إلى ضريح بهاء الله في عكا، بكل تبجيل وتقديس، ويعتبرون أن هذا الضريح هو أحد أهم المزارات الدينيّة التي يحرصون على زيارتها والحجّ إليها، وبالإضافة إلى ذلك فأنهم يتخذون من حدائق البهجة، قبلةً لهم بحيث يتوجّهون إليها بقلوبهم ووجوههم عند كل صلاة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image