لم تكن قد انتهت بعد مفاعيل "قمة الرياض"، حتى فتح فصل توتر جديد على خط الرياض - الدوحة، إثر انتشار الكلام المنسوب لأمير قطر.
بحسب الكلام المسرّب، نفى الأمير تميم بن حمد "تهمة دعم الإرهاب اللاحقة بقطر"، ودعا إلى مراجعة العلاقات مع إيران بما تمثله من ثقل إقليمي وإسلامي، كما إلى مراجعة الموقف من حماس وحزب الله.
لكن سرعان ما خرجت الجهات القطرية لنفي التصريح، مبررة إياه بـ"قرصنة" تعرضت لها وكالة الأنباء القطرية. إلا أن الزوبعة بدت وكأنها مقدّرة، لا ينفع حتى النفي الرسمي لـ"التصريحات الملفقة" للوقوف في وجهها.
انهالت الاتهامات على قطر التي "شقت الصف الخليجي"، واستنفرت وسائل الإعلام المقربة من السعودية تجاه تصريحات الأمير التي تحدثت كذلك عن توتر العلاقات مع الولايات المتحدة ومصر، وانتشرت أخبار عن سحب سفراء قطر من 5 دول خليجية.
مع أن النفي القطري أتى حاسماً، لكن هذه الوسائل استمرت بنشر التصريحات والتعليق عليها، بينما غاص البعض في "التفنيد العلمي" لاستحالة اختراق وكالة الأنباء القطرية.
وتمثل أول مفاعيل تلك الزوبعة بحجب القنوات والمواقع القطرية في الإمارات ومنها قناة الجزيرة ووكالة "قنا" وصحف "الوطن" و"الراية" و"العرب" وغيرها، إذ طالعت سكان الإمارات عبارة "تصفح بأمان" حين حاولوا الدخول إلى تلك المواقع. ثم حذت السعودية حذوها.
تستمر الأزمة في التفاعل وسط محاولات احتواء رسمية، ولكن الأكيد في ما أظهرته، أن إثبات القرصنة من عدمه لم يعد ذا أهمية كبيرة، فالتراشقات الإعلامية المنظمة والحجب الرسمي للمواقع القطرية يجعل إثبات مدى قدرة التحالفات الخليجية على تجاوز خلافاتها أكثر أهمية.
قمة الرياض والإحراج القطري
خرج بيان قمة الرياض، التي حلّ فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضيف شرف بامتياز، حازماً لجهة إدانة إيران وكل أشكال الإرهاب في المنطقة والإعلان عن التحضير لتأسيس تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي في مدينة الرياض. على هامش القمة، انتشر فيديو عن "موقف محرج تعرض له الأمير تميم في الرياض"، سلطت فيه الأضواء على تجاهل الأمير محمد بن زايد للأمير تميم خلال الصورة التذكارية إلى جانب القادة في القمة. قد يكون تحليل لغة الجسد في الفيديو و"السلامات الحارة" و"التجاهل" مبالغاً فيه. لكن قمة الرياض وما رافقها كشفت بعضاً من الإرباك في التعامل مع الجانب القطري. قبل أيام على وصول ترامب إلى السعودية، نشرت مجلة "فورين بوليسي"، تقريراً مطولاً حمل توقيع مدير مكتب نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جون هانا، يكشف فيه معلومات حساسة عن دعم قطر لـ"الإرهابيين"، ويقدم نصائح لترامب عن كيفية التعامل مع هذا الحليف الأمريكي الذي ينجح في "إمساك العصا من النصف". يقول هانا إن "أحد الأهداف المهمة لاجتماعات ترامب مع القادة العرب والمسلمين، هو تشجيعهم على تحمل المزيد من العبء في الدفاع عن المصالح المشتركة، وبالأخص في مكافحة التهديدات الإرهابية وإيران". فمن جهة، تعمل قطر كمضيف موثوق به لأهم المرافق العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى، تعتبر "الداعم الرئيسي لبعض أكثر القوى المتطرفة الخطيرة التي تعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة، من خلال دعمها سياسياً ومالياً وعسكرياً وأيديولوجياً، عبر قناة الجزيرة الفضائية التي تمولها الدولة ومقرها الدوحة". وذهب هانا إلى اعتبار أن قائمة جرائم قطر أطول من أن يحتويها مقاله، من تحويل الربيع العربي إلى شتاء إسلامي وتمويل حكومة الإخوان المسلمين في مصر، ثم محاولة زعزعة شرعية واستقرار نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. يضيف إليها الكاتب "أعمال قطر التي كانت أكثر فظاعة في ليبيا وسوريا، حيث لم تشمل الدعم المالي والتحريض فحسب، بل توفير الأسلحة للجماعات الإسلامية المتطرفة أيضاً". وينبش هانا كذلك أرشيف التسعينيات، ويستعيد إقدام كبار المسؤولين في حكومة قطر على مساعدة جهادي متورط في مؤامرة محبطة لتفجير طائرة مدنية في طريقها إلى الولايات المتحدة، عبر تحذيرات تلقاها من أعلى المستويات في الحكومة القطرية. ثم يستعيد "تحريض الجزيرة على القوات الأمريكية في العراق"، و"بث تسجيلات أسامة بن لادن". من هنا نصح كاتب المقال ترامب ببدء جهوده الرامية لجعل حلفاء الولايات المتحدة في الخليج أكثر فائدة لأمريكا، من قطر، لأنها المكان المناسب. على ضوء هذا الموقف من قطر، بدا التقارب السعودي - الأمريكي الذي شهدته القمة، بمثابة رسالة على أن الرياض التي اشترت رضى واشنطن بأكبر صفقة مالية - عسكرية في تاريخها، ليست راضية تماماً عن الأداء القطري، والعكس صحيح.للتوتر بين السعودية وقطر جذور ممتدة، عمرها من عمر العداء بين التيار السلفي والإخوان المسلمين
هل تعني الأزمة الأخيرة بين السعودية وقطر تصعيداً قد يودي بالإمارة الصغيرة للخروج من الحلف الخليجي؟
استضافة حماس و"الزعل" الأميركي (والإسرائيلي)
قبل مدة غير بعيدة، استضافت الدوحة إعلان حماس للوثيقة التنظيمية الجديدة للحركة. ولم يكن ذلك سوى نقطة في فيض الدعم القطري للحركة منذ سنوات في توفير العمق الإقليمي ولعب دور "العرابة" لها في المحافل الإقليمية والدولية، والدعم المادي المستمر بعد خروجها من العباءتين السورية والإيرانية. ويُفهم هنا الإرباك السعودي إزاء قطر، في ظلّ اتهام ترامب للحركة بأنها إرهابية، داعياً الدول العربية للوقوف يداً واحدة في وجهها. وهو ما قابلته قطر، على لسان أميرها، واصفة "حماس" بأنها "حركة تدافع عن أرضها". قبل ثلاث سنوات، كتب الباحث المتخصص في الشأن الخليجي سايمون هندرسون في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" يقول إن "المفتاح لفهم هذه العلاقات من وجهة النظر القطرية هو أن قطر تعتبر الولايات المتحدة أهم حلفائها وتعمل جاهدة على صون الروابط بينهما". وبحسب هندرسون، تنتج هذه الذهنية عن ارتياب قطر من مساحتها الصغيرة وعزلتها الجغرافية. علاوة على ذلك، إن علاقات قطر مع جيرانها لطالما كانت متوترة. فلها في الجنوب حدود مشتركة مع المملكة العربية السعودية التي دعمت في السابق انقلاباً ضد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ولا تزال تعتبر قطر راعياً مقلقاً لشبكة "الجزيرة" والقنوات الإعلامية الأخرى التي تنتقد المملكة أحياناً. في المقابل، وصف المتخصص في الشؤون الخليجية لوري بلوتكين بوغهاردت المفارقة في منطق قطر في التعاطف مع "أعداء إسرائيل الأبديين"، حيث تعتمد على الاستراتيجيات نفسها التي دفعتها للانفتاح على إسرائيل في التسعينيات. ويقول "نهج قطر الأساسي فيما يتعلق بأمنها هو أن تحافظ على علاقات ودية مع مجموعة كبيرة من اللاعبين السياسيين والبلدان"، فضلاً عن افتتاح أهم الجامعات ومراكز الأبحاث واستضافة النشاطات المختلفة.الملف اليمني وأخواته
قبل انعقاد قمة الرياض، عاد الحديث عن "الدور السلبي" الذي تلعبه قطر في الملف اليمني، كما كان حالها في سوريا وليبيا وغيرها. وهكذا استبق القمة الحديث عن الحرج الكبير الذي سيقع فيه وفد دولة قطر، التي لم يعد بإمكانها اللعب على عدة حبال، بوجود ترامب الذي يبحث عن شركاء موثوقين. وفُتح ملف الأموال التي تنفقها قطر على الإخوان المسلمين في اليمن، كما دورها في شق الصفوف اليمنية، والتصويب على عاصفة الحزم ودور التحالف العربي من خلال أدواتها الإعلامية، فضلاً عن رعايتها لحزب الإصلاح اليمني (الإخوان المسلمين). وكان العام 2014 شهد سحب كل من السعودية والإمارات والبحرين لسفرائهم من قطر، بحجة أن الأخيرة قد فشلت في تنفيذ اتفاق أمني ينص على عدم تدخل أي دولة في شؤون دول مجلس التعاون الأخرى، وعلى التعاون الأمني بين الدول الأعضاء. كان ذلك بعد أن انتقدت شبكة الجزيرة الإخبارية السعودية وبعض دول الخليج الأخرى، في ما يتعلق بالإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، والتعامل مع الملف السوري وكذلك الليبي.خلافات تاريخية
يعيد البعض التوتر القطري - السعودي، إلى سنوات قليلة ماضية، ويرون أنه بدأ مع الربيع العربي، وما تبعه ذلك من ضرورة وقوف الطرفين في خندق واحد، وتجاوز المصالح الخاصة لكل منهما، والاصطفافات المختلفة. لكن لهذا التوتر جذور ممتدة، عمرها من عمر العداء التاريخي بين التيار السلفي وجماعة "الإخوان المسلمين". ولا يمكن استقراء الانقسام الإيديولوجي والسياسي الحالي بين المؤسسة السياسية السعودية وحركة "الإخوان المسلمين" خارج الجذور الممتدة في تاريخ كل من الطرفين. لم تكن السعودية مستعدة يوماً لأن يحتل "الإخوان" المشهد السياسي وتهديد مكانتها كمركز جاذبية للحركات الدينية. قبل العام 2011، كانت المملكة قادرة على إدارة هذه المروحة من التحديات، إلا أن الأمور تعقدت عندما وصلت إلى سوريا. كانت الرياض ترى في الأخيرة فرصة ذهبية لاحتواء "المد الإيراني"، ولكن في المقابل وجدت نفسها مع "الإخوان" في خندق واحد، بعدما كانوا قد حققوا انتصارات عدة في مصر والمغرب وتونس. حتى قبل ذلك، لم تكن الأمور بأحسن أحوالها. في العام 2000، قاطعت السعودية القمة الإسلامية في قطر، وفي العام 2002 سحبت الرياض سفيرها من الدوحة. وفي العام 2009، رفضت السعودية المشاركة في قمة احتضنتها الدوحة بوجود حركة حماس والنظام السوري، الذي كانت قطر قد وطدت علاقاتها معه في موسم البرودة مع الرياض. في تلك المرحلة، كانت قطر تؤكد نجاحها في التحول من "إمارة مضجرة" إلى لاعب إقليمي فاعل، يمارس "دبلوماسية المصالحة" بين أطراف المنطقة بإتقان، وصولاً إلى النجاح في كسب حق استضافة كأس العالم في العام 2022. ووسط كل ذلك، يبحث عن تمايز خليجي، لا يجعله مجرد تابع للمزاج السعودي. تغيرت الأمور في السنوات القليلة الماضية، ومؤخراً مع وصول ترامب إلى الرئاسة و"العرض السعودي" يرى البعض أن قطر في موقف محرج، فهل تعني حادثة "التسريب" تصعيداً قد يودي بقطر للخروج من الحلف الخليجي؟ لا يحظى سيناريو خروج قطر من العباءة الخليجية إلى الحضن الإيراني بشعبية كبيرة، فالتأكيد الرسمي على وحدة الصف الخليجي لا يزال سيد الموقف. هو فصل جديد من التوتر إذاً، يكشف في ما يكشف عن هشاشة التحالفات، لكنه لا يحمل تغييرات دراماتيكية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...