يلعب الدين ومؤسساته في المنطقة العربية دوراً كبيراً في رسم الخطوط الاجتماعية، وفي سنّ الكثير من التشريعات والقوانين، وخاصةً تلك التي تحدد الأحوال الشخصية التي تتناول نواحي الحياة الأساسية من الزواج والطلاق والإرث وغيرها.
هذه الهيمنة الكبيرة للمؤسسة الدينية على التشريع العربي جعلت قضية الزواج المدني واحدة من أكثر القضايا الشائكة اليوم.
فهذا الزواج ينقل حق التزويج من المؤسسة الدينية إلى المؤسسة الحكومية التي تسمح بحالات لا توافق عليها الأديان، كزواج المسلمة من غير ملتها أو الطلاق دون أسباب تحددها الكنيسة مثلاً.
تحدي الزواج المدني للسلطة الدينية في العالم العربي جعله يتعرض لحملات متواصلة من قبل الكثير من المتدينين الذين وصفوه "بالشيطاني" تارة و"اللاأخلاقي" تارة أخرى.
وقد شدد المطالبون به في العالم العربي على أنه لا يتعارض مع الزواج الديني المعتاد تماماً ولا يمنعه أصلاً. فالزواج الديني سيبقى متاحاً دائماً للراغبين فيه دون إجبارهم على التخلي عنه، ليصبح الزواج المدني خياراً يفيد من يرغب به ولا يضر الآخرين. فما هو حاله في العالم العربي؟
دعونا نُعرف الزواج المدني
لا يوجد تعريف موحد للزواج المدني، لكن معظم تعريفاته تتفق على كونه زواجاً برضا الطرفين البالغين، دون الحاجة لموافقة ولي أمر أو كفيل، ودون قيود تتعلق بالدين أو الطائفة أو العرق أو لون البشرة أو أي أساليب تمييز أخرى. كانت بدايته عند قيام الثورة الفرنسية عام 1789 وتحديدها الكثير من معالم المجتمعات الحديثة، إذ أُسقطت الملكية الفرنسية حينذاك وأُسست الجمهورية الفرنسية الأولى، لتحمل معها لأول مرة في أوروبا الحديثة فكرة الزواج المستقل عن الكنيسة. كانت فكرة الزواج الذي تقره الحكومة بشكل حصري يومذاك جديدة في الأوساط الأوروبية، واستغرقت وقتاً طويلاً نسبياً ليصبح لاحقاً الزواج المهيمن على القارة، مُحرراً الناس من القيود الدينية والمجتمعية على الزواج المتعدد الطوائف، أو حتى الطلاق الذي كان ممنوعاً في الكنيسة الكاثوليكية. اليوم، في المجتمعات المتقدمة، لم تعد تسمية "زواج مدني" مطروحة، فهذا الارتباط هو الخيار الوحيد للزواج، دون حرمان الراغبين بالزواج الديني من تحقيق ذلك بشرط تسجيله لدى الحكومة للاعتراف به، لأجل التنظيم الاجتماعي. فنقل الزواج من يد المؤسسات الدينية إلى الحكومات يجعل توثيقه وإثبات الحقوق والواجبات المتعلقة به عملية أسهل وأكثر تنظيماً.عربياً: تونس هي الوحيدة
وسط تحريم البلدان العربية أي زواج لا يوافق الشرائع الدينية، تقف تونس وحيدة في تشريعها للزواج المدني ومنعها لتعدد الزوجات وإعطائها الحق للمرأة بالطلاق منذ إصلاحات القانون التي أقرها الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة عام 1956، دون أن يُمكنها من الارتباط برجل من طائفة مختلفة. لكن وضع تونس الجيد نسبياً، واعتبارها من قبل الكثيرين واحدة من أكثر الدول العربية تقدماً من ناحية العدالة الاجتماعية لم يمنع جدلاً من نوع آخر من أن يطفو على السطح. فبعد نجاح ثورة عام 2011 شهدت البلاد صعوداً كبيراً للتيارات الإسلامية التي حصلت على أغلبية برلمانية، سرعان ما طالبت بإلغاء الزواج المدني والسماح بتعدد الزوجات، وحاولت في العديد من الحالات إلغاء قوانين المساواة المكرسة في الدستور التونسي.الهيمنة الكبيرة للمؤسسة الدينية على التشريع العربي جعلت الزواج المدني واحد من أكثر القضايا الشائكة
حلم الزواج المدني في العالم العربي: بين مطرقة العادات وسندان الدينويرى السلفيون القانون التونسي الخاص بالزواج أنه "شذوذ في التفكير وتجنّ على أحكام المولى عز وجلّ"، وفق تعبير عادل العلمي الذي كان مرشحاً سابقاً للرئاسة التونسية. لم يستجب القانون التونسي لذلك، لكن الأصوات المنادية بتغييره لا تزال مستمرة مع إطلاق حملات المطالبة بتعدد الزوجات.
مصر: الكنيسة تعرقل الطلاق
يأتي سجال الزواج المدني في مصر مختلفاً عن البلدان الأخرى كسوريا ولبنان مثلاً، فالمطلب بالحصول على الحق بالزواج المدني محصور نسبياً بمجتمعات الاقباط المصريين بالدرجة الأولى. تضع الكنيسة القبطية قيوداً كبرى على الطلاق حاصرة إياه بسببين فقط: الزنا أو تغيير الدين، بدلاً من 8 أسباب سابقة كان قد تم إقرارها بلائحة سابقاً عام 1938، وقد ألغى العمل بها البابا شنودة الثالث مع توليه الكرسي البابوي عام 1971. ومع أن الزواج والطلاق بالنسبة للطوائف المصرية يحددان من قبل الكنائس بشكل حصري، فقد أثار مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد لمسحيي مصر عام 2014 الكثير من الجدل كونه يعيد العلل المعروفة للطلاق لجميع الطوائف المسيحية. وقد لاقى القرار استهجان الكنيسة التي اعتبرته مخالفاً لتعاليم المسيحية ولا يجوز تطبيقه، وهذا ما حدث في النهاية مع تعديل المشروع وإزالة البنود منه. بات الزواج المدني مطلباً كبيراً للمسيحيين في مصر، إذا يبقى الآلاف منهم معلقين بانتظار قبول طلبات طلاقهم والتصريح لهم بالزواج مجدداً من قبل الكنيسة، لكنهم ليسوا الوحيدين المطالبين به. إذ صدرت دعوات مشابهة متعددة من قبل شخصيات وجمعيات من التيار العلماني في مصر، ومن جمعيات حقوق المرأة ومن اللادينيين الذين يعانون أصلاً من قوانين كثيرة جائرة ضدهم.لبنان: قبرص هي المقصد
على عكس معظم البلدان العربية الأخرى، يشكل المسيحيون في لبنان حوالي 40% من السكان، وتنقسم قوانين الأحوال الشخصية إلى العديد من المحاكم المذهبية التي تختص في هذه الأمور، فلا قانون موحد يحكم أمور الزواج والطلاق في البلاد مما يخلق مشكلة كبيرة للكثيرين، خصوصاً للراغبين بالزواج من خارج دينهم. ومن بين أكثر الأساليب شيوعاً بين اللبنانيين لتجاوز هذه المشكلة، السفر إلى الخارج قاصدين أحد البلدان التي تتيح الزواج المدني للأفراد. وهنا تأتي قبرص كالحل الأسهل بسبب قربها الجغرافي وسهولة السفر إليها. لكن الزواج في قبرص ومن ثم محاولة تثبيته في لبنان ليس بالأمر السهل، كما أنه لا يتبع قوانين محددة بل يخضع للكثير من التأويل والأخذ والرد والحيرة في اختيار القانون الذي يطبق على زواج الطرفين في ظل غياب قانون شامل للزواج.البرلمان اللبناني يصوّت
عبر السنوات خضعت البلاد للعديد من المطالب الشعبية بإقرار الزواج المدني بداية من عام 1951 عندما طُرح للتصويت عليه في البرلمان ورُفض. ثم أُعيد طرحه عام 1975 ورُفض مجدداً. لكن المرة الأقرب للوصول إلى القانون كانت عام 1999، حينما طرحه الرئيس اللبناني السابق الياس الهراوي للنقاش في مجلس الوزراء. لكن القانون لم يبصر النور، إذ وقف في وجهه رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفض عرضه على البرلمان كون "ظروف لبنان لا تسمح بذلك" على حد تعبيره. وقد شهد عام 2013 أول زواج مدني ضمن الأراضي اللبنانية لمواطنين لبنانيين، بعدما تم استغلال إحدى الثغرات القانونية التي تتيح هذا الزواج عند شطب المتزوجين لطائفتهما ضمن العقد. لكن الثغرة القانونية التي تعود إلى أيام الانتداب الفرنسي على لبنان لم تشكل طريقة حقيقية لتجاوز عثرة غياب الزواج المدني، فقانون الأحوال الشخصية الطائفي أحبط لاحقاً محاولات عديدة من آخرين لم يكتب لها النجاح.سوريا: الاستثناء الصغير بسبب الحرب
بشكل مشابه لحال لبنان نسبياً، يسبب التنوع الطائفي والديني في سوريا مشاكل مجتمعية عديدة للزواج بين الطوائف المختلفة. لكن المشكلة القانونية تظهر في حالة أساسية هي زواج المسلمة من غير المسلم. فقانون الأحوال الشخصية السوري يتخذ الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع الأساسي، وكون هذا الزواج باطلاً شرعاً، فالقانون يمنعه، ولا سبيل للالتفاف على القانون سوى إعلان العريس إسلامه وتغيير دينه في السجلات الرسمية إلى الإسلام. المشكلة الأخرى تكمن في حاجة المرأة لموافقة الولي للزواج، ومع أن القانون لا ينص على هذا صراحةً، فهو يترك ثغرة تجيز الأمر "وفق العرف" إذ يُرفض غالباً أي زواج يتم من دون موافقة الأهل. وعلى عكس الحل المتمثل بالزواج خارج البلاد بالنسبة للبنان، فالقانون السوري يمنع تثبيت أي زواج مخالف لقوانين الأحوال الشخصية في سوريا ولو كان الراغبان في تثبيت زواجهما قد تزوجا في بلد آخر. وفي ما يتعلق بإنجاب الأطفال، ينص القانون السوري على تسجيلهم في هذه الحالة نسباً لأمهم فقط كأبناء غير شرعيين. وعلى الرغم من أن الحركات المنادية بالزواج المدني لم تحقق أي نتائج فعلية على مدى السنوات الماضية، فالموضوع لم يصل إلى البرلمان إلى اليوم، إلا أن الحرب السورية التي قسمت البلاد إلى مجموعات متنازعة فتحت، لأجل المفارقة، باب أمام أمل جديد للسوريين. فبعد إعلان حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي للحكم الذاتي الخاص به في عدة مناطق من الشمال السوري مثل القامشلي، شهدت البلاد أول حالة زواج مدني في مطلع عام 2013. وعلى الرغم من أن أياً من الفئات الأخرى المتصارعة لا تعترف بهذا الزواج، فالكثيرون يعدونه نصراً للعلمانية وأملاً في تحقيق حلم الزواج المدني.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين