أليس من الممكن أن يحمل وجهاً وسيماً ضاحكاً دوماً تغلب على ملامحه جينات كبار العائلات، ويخبّئ خلف ضحكاته ألماً يكبر معه كلما تقدم في العمر عاماً جديداً. رشدي أباظة الذي نعرفه بوسامته، تخطّت حدود علاقاته النسائية الإيقاع بقلوب زميلاته في الوسط الفني ووصلت إلى قلب الملك فاروق حاكم مصر حينذاك، خاطفاً حبيباته. قدّم رشدي مئة وخمسين فيلماً من أهم الأعمال التي أُنتجت في السينما المصرية، ورغم ذلك شهدت مسيرته تجاهلاً إذ لم يتم تكريمه بأي مهرجان مصري أو عربي ولم يكتب عنه سوى كتاب صدر حديثاً يحمل اسم "الدنجوان" يحكي عن حكايات الفتى الأباظي ومذكّراته وتفاصيل حياته. يقول أحمد السماحي مؤلّف الكتاب لرصيف22 إن "حياة رشدي أباظة الممتلئة بالنساء صنعت منه دنجواناً، كان الشكل الظاهري لحياته يليق به لقب الدنجوان. ولكن الحقيقة أن رشدي لم يكن يعرف النساء من أجل أجسادهن أو المتعة معهن فقط بل كان يبحث عن امرأة معينة تحتويه وتحتضن معاناته ووحدته التي عاشها طيلة حياته، وكان حين لا يجدها يبحث عنها في امرأة أخرى، ولذلك تعددت علاقاته".
وأضاف أن "لقب الدنجوان وحبّه للخمر طارداه وأثّرا على رأي المنتجين به، فكانوا يفضلون كمال الشناوي وغيره من ممثلي جيله ويسندون إليهم الأدوار بدلاً منه".
ويرى السماحي أن تجاهل القائمين على المهرجانات السينمائية المصرية "تكريم رشدي أباظة" بعيداً عن نظرية المؤامرة قد يكون تجاهلاً غير متعمّد، وترتّب على ذلك تجاهل المهرجانات العربية تكريمه أيضاً، فمن لم يتم تلميع مسيرته وتكريمه في بلده لن يهتم به أحد في الدول الأخرى.
عنوان كتاب السماحي الكامل هو "الدنجوان... أسطورة الأبيض والأسود". لم يكن رشدي أباظة فقط أسطورة سينما الأبيض والأسود بل كان أسطورة الأبيض والأسود معاً في حياته الخاصة وخلف كاميرات السينما.
وعن ذلك قال السماحي: "حياة رشدي أباظة كانت مليئة بالمآسي وإن عاشها أحد غيره كان اعتزل. ما عايشه في طفولته من انفصال والديه والصراع بين تقاليد العائلة الريفية العريقة وبين حياة والدته التي اتخذت شكلاً أوروبياً هو الأسود. بينما مثل النجاح وإصراره على أن تكون له شخصية مستقلة عنهما الأبيض. فقد تحدّى نفسه وآلامه وكل مَن حوله خاصة والدته، ونجح في أن يُكمل مسيرته الفنية وأن يُصبح أسطورة في عالم السينما".
طفولة حزينة وشباب في حضن الليل
ولد رشدي سعيد أباظة في 3 أغسطس 1925 لأب مصري يعمل ضابطاً في البوليس (الشرطة حالياً) وينتمي إلى عائلة عريقة هي "الأباظية" ولأم إيطالية. انفصل والداه ورفضت والدته العودة إلى والده بعد ولادته. عاش رشدي سنوات عمره الخمس الأولى وسط الجالية الإيطالية في المنصورة ثم تزوّجت والدته من رجل أعمال وانتقلت ليعيشا معه في القاهرة، كما تزوج والده وكان يحرص على الذهاب إلى القاهرة في إجازاته ليصطحب طفله إلى "الشرقية" حيث منزل العائلة الكبيرة لقضاء الإجازة معه. هكذا، دخل رشدي في دوامة التناقض والتمزق بين حياته مع والدته الأوروبية وبين حياة عائلته الريفية المحافظة. قرر رشدي التخلص من هذا التناقض والهروب من تمزقه بين الطرفين. طلب من والديه إلحاقه بمدرسة داخلية، فوافقا وألحقاه بمدرسة "سان مارك" إحدى المدارس العريقة في مدينة الإسكندرية، وكان يتقاسم إجازاته بين والدته في القاهرة وبين والده في الشرقية.وتزايدت قسوة حيرته حول أين يقضي إجازاته بعد أن رزق والده طفلة، وأنجبت والدته، فانشغل كل منهما.
في التاسعة عشرة من عمره، ترك المدرسة وقرر ألا يعود إلى الدراسة مرة أخرى. أقنع والدته بأنه سيقيم مشروعاً خاصاً يعمل به.
اشترت له أربع سيارات، وبدأ في عمله، إلا أنه لم ينجح به، فقام بيبعها وأسس متجراً لقطع الغيار. حمل المحل لافتة عليها عبارة "متجر رشدي أباظة لقطع غيار السيارات الأصلية". وبالرغم من عمله وجهده به فإنه لم يجد نفسه راضياً فقرّر ترك المجال، ثم اتجه إلى السهرات والملاهي والعلاقات النسائية ليلاً وحمامات السباحة والنوادي الرياضية نهاراً، يصاحبه اثنان من أصدقائه الجدد، عادل أدهم وعلي رضا، اللذان كانا يبحثان عن فرصة عمل في المجال الفني.
بداية مشواره الفني
رغم أنه لم يكن يجذبه العمل الفني مثل صديقيه، جاءت إليه الفرصة الأولى حين كان موجوداً في أحد نوادي البلياردو الشهيرة بين أبناء الطبقة الراقية، وفي أثناء لعبه رآه المخرج السينمائي كمال بركات وعرض عليه أن يمثل في فيلمه "الميلونيرة الصغيرة" الذي أنتج عام 1948.
وبالرغم من فشل الفيلم ومقاطعة والده له بسبب رفضه أن يصبح ابنه سليل العائلة العريقة ممثلاً، ومواجهة والدته له بأنه لم يخلق لأن يكون ممثلاً، وأن الفيلم لم يعجبها، لعب القدر دوره مرة أخرى في حياة رشدي الفنية حين جاء المخرج الإيطالي "جوفريدو السندريني" إلى مصر. خلال مأدبة عشاء أقامتها الجالية الإيطالية له، رشحت الجالية رشدي أباظة ليمثّل في فيلمه الجديد، إذ كان رشدي يتحدث الإيطالية بطلاقة. وبالفعل تمت المقابلة بينهما ووقع عقد فيلم "أمينة" وتقاضى عن دوره 500 جنيه. كان هذا الفيلم فاتحة خير عليه، فبعده لعب دوراً في فيلم "ذو الوجهين"، ليصبح أسطورة السينما المصرية ويقدم 150 فيلماً من أهمها الأسطى حسن، جعلوني مجرماً، بحر الغرام، بورسعيد، رد قلبي، تمر حنة، وطريق الأمل.
غريم الملك فاروق في نسائه
"إن الملك أصلح مَن يقوم بدور أشهر ابن ذوات في مصر، ولكنه لا يصلح ملكاً لأن العرش سجن وهو يحب الحرية"، بهذه الكلمات قال رشدي أباظة رأيه بكل جرأة عن الملك فاروق في لقائه الثاني مع الراقصة الفرنسية "فلورانس" حينما روت له إعجاب الملك بها، وتردده على الصالة لمشاهدتها رغم رفضها دعوته لزيارة قصر عابدين وعدم انجذابها له. في مساء اليوم التالي، التقت فلورانس رشدي وأخبرته أنها نقلت للملك ما قاله عنه فردّ عليها الملك قائلا "سأعرف كيف أؤدب هذا الوغد الأباظي"، فضحك رشدي أباظة وحينما كانا يجلسان معاً شعر رشدي بيد ثقيلة هبطت على كتفه، فالتفت سريعاً ليجد الملك فاروق مصوباً مسدساً نحو رأسه ليسود الصمت والذهول على كلّ مِن رشدي وفلورانس. وضع الملك مسدساً على المائدة قائلاً "هذا المسدس هدية مني لك، حتى تستطيع الدفاع عن نفسك في المرة المقبلة"، وأضاف "هقتلك يعني هقتلك"، ثم ترك المكان وذهب. انتهت علاقة رشدي و"فلورانس" بسبب غيرتها ومعارضتها مشاركته في فيلم "امرأة من نار" أمام فاتنة الشاشة "كاميليا". شعر أنها تريده معها حتى على حساب مستقبله، وفي أثناء تصوير الفيلم بدأت قصة الحب بينه وبين كاميليا رغم ما تردد عن حبها الملك فاروق وحبه لها. ولكن قصتهما انتهت نهاية حزينة بوفاة "كاميليا" في حادث سقوط الطائرة الشهير عام 1950، فانهار الفتى الأباظي ودخل في غيبوبة وكان كلما أفاق يردّد اسمها ثم يدخل في غيبوبة مرة أخرى.
يقول رشدي أباظة في حواره لمجلة "الموعد" اللبنانية عام 1979 وكان تحت عنوان "أطول حديث": إن الملك فاروق أحبّ كاميليا بجنون خاصة بعد أن علم أنها حملت، وتصوّر أنها ستنجب له ولداً يكون ولياً للعهد لأنه كان سيتزوجها رسمياً لو أنجبت ولداً، ولكن أمله خاب لأن كاميليا أجهضت في الشهر السادس عندما وقعت من فوق ظهر حصان.
وعن تهديد الملك له قال رشدي: "كادت المواجهة بيننا تصل إلى منتهى العنف، ولكن لم تحصل، إنه كان فقط يهاجمني بالمكالمات التليفونية التي يخفي فيها شخصيته ويهددني بالموت إن لم أبتعد عن كاميليا، وفي أحد الأيام أرسل لي بعض رجال، ولكنني لم أتشاجر معهم لأنني كنت المخطئ لأنني أقمت علاقة مع "كاميليا" في الوقت الذي كانت هي فيه حبيبة الملك".
زوجات رشدي أباظة
رغم تعدّد علاقاته فإن زيجاته كانت محدودة وانتهت جميعها بالانفصال. تزوج رشدي المغنية الفرنسية آني برييه ثم تزوج تحية كاريوكا والأمريكية "بوبي" التي أنجب منها ابنته الوحيدة "قسمت"، ثم تزوج الراقصة سامية جمال، وأثناء زواجه بها تزوج لفترة وجيزة الفنانة اللبنانية "صباح". أثار زواجهما ضجة كبيرة في الأوساط الصحافية والفنية في بيروت والقاهرة، لأنه كان ما زال متزوجاً من سامية جمال التي فضّلت التزام الصمت أمام الصحافة وأمام رشدي بعد عودته إلى المنزل، واستمر زواجهما 17 عاماً ثم انتهى بالطلاق. وكانت آخر زيجاته زواجه بابنة عمه نبيلة أباظة.سر تفكيره في الانتحار
حاول رشدي أباظة الانتحار. حسب الحوار الذي أجرته معه مجلة "الشبكة" اللبنانية في عددها الصادر في 12 إبريل عام 1971 تحت عنوان "بعد ستين يوماً من الصمت" قال أباظة إنه أثناء جدال مع سامية جمال "وجدتها غير من عرفت في كل مرة كان الصفح على باب قلبها إلا هذه المرة لا تلين، وكان في جيبي مسدسي وابن عمي "طاهر أباظة" معنا، وكان يرى في عيني بريقاً لم يره من قبل مِن اليأس الذي يحيط بي ومددت يدي إلى جيبي ولكنه كان أسبق مني وانتزع مسدسي وهو يقول هل جننت".نادية لطفي، حب مختلف في حياته
عام 1966 التقى رشدي، "ليدي السينما المصرية" نادية لطفي في فيلم "جريمة في الحي الهادئ"، وكان الفيلم هو الرابع بينهما بعد "سلطان" و"الباحثة عن الحب" و"عندما نحب". وأثناء تصوير الفيلم نشأت علاقة صداقة حميمة بينهما. كان رشدي يطلق عليها لقب "الولد الشقي"، بينما أسمته هي "الطفل المتهوّر"، ونتيجة لهذه العلاقة تم اعتماد "نادية لطفي" الأخت الكبرى في عائلة "سعيد أباظة" الأب، بل بات لها الحق في التدخل في شؤون الأسرة.فارق السنّ منع زواجه بيسرا
بداية عام 1980 وأثناء تصوير فيلم "بياضة" الذي جمع بين رشدي أباظة ويسرا التي كانت وجهاً سينمائياً جديداً، بدأت قصة حب بينهما لكنه تراجع عن فكرة عرض الزواج عليها خوفاً عليها وعلى مشوارها الفني نظراً لأن فارق السن بينهما حوالي 30 عاماً، فتجاهل مشاعره تجاهها.صراع السرطان والرحيل
اشتدت آلام رشدي أباظة فذهب إلى الطبيب ليكتشف وجود ورم في المخ. سافر إلى لندن وخضع لجراحة على يد الدكتور "جون أندروز" استغرقت 6 ساعات كاملة ثم عاد إلى القاهرة دون أي نتيجة أو شفاء.
خضع لعلاج دقيق، وبعد أربعة أشهر تدهورت حالته الصحية ونقل إلى غرفة العناية المركزة وقضى بها 19 يوماً لم يرَ فيها سوى شقيقه "فكري أباظة" والفنانة "نادية لطفي" رغبة منه في أن لا يرى أحداً غيرهما. إلا أن فكري أباظة أدخل ابنة رشدي وطفلها إلى الغرفة رغم معارضة نادية لطفي ذلك، وظلت ابنته بجواره حتى فتح عينيه وأمسك بقدم حفيده وقبلها ثم راح في الغيبوبة مرة أخرى.
في تمام الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد 27 يوليو 1980 توفّي الأسطورة. وحسب ما ورد في مقال الكاتب الصحفي محمد حبوشة، فقد مشى في "جنازته" نحو 200 ألف مواطن، وهو ما اضطر رجال الأمن إلى التدخل لمنع التكدس، وتتمكّن السيارة التي يرقد في داخلها من الوصول بأمان إلى مثواه الأخير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت