شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"حرب الاستنزاف" اليومية في القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 26 فبراير 201710:33 ص
  كنا حديثي عهد بالحياة فأخبرونا أن الاستنزاف مصطلح عسكري يستخدم بعدما يُدرك أحد خصمي الحرب، أو كلاهما، أنه ليس أهلاً للمناورة المباشرة، فيتحايل على الحرب بمحاولة تشتيت قوة عدوه واستنزافه. ضربوا لنا مثلاً حرب الاستنزاف التي دارت في سيناء المصرية مع العدو الصهيوني بعد نكسة 67 إلى 1970، حيث قرار وقف إطلاق النار. وحين كبرنا علمتنا الحياة الدرس الذي لا ينسى، صفعنا عملاق الزمن على وجوهنا، وحدق في عيوننا الصغيرة وهو يصرخ أن الاستنزاف آلة طاحنة صنعها الساديون ليمارسوا فنون التعذيب، وهم يلقون بعظام المواطنين وقوداً لإدارة معركتهم مع الحياة. لا أدري إنْ كنتَ ممن "دللتهُمُ" الأقدار فوهبت لك حياة هادئة، ووُلدتَ وفي فمك ملعقة من ذهب كما يقول المثل المصري، أم أنك ممن "كدَّرتهم" وطعنتك فأساً في رأسك، لتفقدَكَ التوازن الذي ستظل تبحث عنه طول العمر! كبرنا فعلمتنا الحياة أن للاستنزاف معنى آخر، أكثر اتساعاً ورحابة من أن ينتهي عند هذا النموذج أو نماذج أخرى في حروب البلاد البعيدة، بل هو مستمر ومتواصل في حلقات غير معلومة المدى، وإن أخبرتنا عين الجلاد الحمراء أنها سلسلة من المعارك نخوضها في اليوم والليلة لنحيي العمر ونتأذى بنزيف الروح والعقل، الذي يبلغنا مهالك الجسد، ويتأكد لدينا أننا أموات على قيد الحياة، يتاجر السماسرة بأعضائهم، ويعدّون عملهم مهنة مقدسة، وكأنهم نسورٌ ينتظرون طفلاً بائساً في طريقه لأن يصير جيفة صالحة تتغذى عليها.

Intext-instinzaf-1Intext-instinzaf-1

الحزام الناريّ

ربما تظن أن ما تقرأه فخ بصري يصنعه الكاتب ويستدرجك إليه، ربما! لكن دعني أزيدك شيئاً من بلاغة الواقع، فإننا من الواقع وإليه نعود. أتذكّر ذات ليلة، وأنا ابن الثلاثين، أني أصبت بدون مقدمات، بمرض يدعى "الحزام الناريّ"، على نحو ما أخبرني الطبيب، وهو مندهش مما حل بجسدي بين ليلة وضحاها، وأنا في عنفوان شبابي، ويفترض أن تصاحبني مناعة جبارة تدهس هذا "الناريّ" اللعين الذي أحال النهار لليلٍ طال لـ20 يوماً، هي المدة التي كوى بها الحزام منطقة الوسط والفخذ اليمنى حتى ارتوى. "أصاب الضرّ بدنه، وتملكت الأوجاع من روحه، صار جسده عبئاً على قدميه، تأمل حياته وهو يقف في مفترق طرق تتفرع منه عدة مفترقات كل منها يؤدي إلي طريق سفر لا عودة منه، كان الاكتئاب أول من التقطه في مفترق الطرق، اختطفه كنسر جارح وجد فريسته، اختطفه بمخالبه من دون رحمة وهو يؤثر الوحدة كي لا يعكر صفو أحد وسط محرقة الحياة التي لم تعد تبالي بصراخ الموجوعين، ولم يعد لديها أجوبة على تساؤلات الحيارى التائهين، والتزمت الصمت في وقت يجدر بها الحديث، فحُق له أن يطلق عليها الرصاص، وينهي أمر أوهام تعشش كالعنكبوت على جدرانها". كنت أعرف ما الحزام، وما النار، لكن ارتباط الكلمتين ومدلولهما لدى الأطباء كان جديداً على مسامعي: "الحزام الناري"، اسم مهيب أتحسس أثره على جسدي، بعد أن خذلتني قدماي ولم تعودا تطيقان حمله. أخبرني الطبيب أن أعصابي تجاوزت مرحلة التعب، ودخلت في طور الالتهاب، أوصاني بالتخلى عن التفكير قدر استطاعتي، فلم تعد الأعصاب تحتمل المزيد، وأشار إلى أن هذا المرض يأتي لمن هم فى الخمسين من العمر أو يزيد، بسبب ضعف المناعة. الآلم الذي خلفه الحزام اللعين، أشعرني بأن لوحاً زجاجياً تحطم على جسدى وسكنت شظاياه الجروح التي فتحها بالجسد. "رمته يد الزمن في بئر سحيقة، زاد عواء الريح في كيانه الضعيف، فلم يعد يشعر بيديه ولا بقدميه، استشعر خواء العالم من حوله بعد أن خذله بدنه، ولم يقو على حمله، أصابه الهذيان، بدت له تصاريف الحياة صفقة خاسرة لا طائل فيها؛ بشر يتصارعون على ممالك من السراب، كذبة كبرى تحكم الأفكار تستخدم مسكنات لا جدوى لها، أطبقت الآلام عليه الخناق فتجسد إزاءه شبح الوهم ليخبره أن سلطته مستمدة من المجهول الذي ينتظر البشر، قاوم ليقف على قدميه لكن الزمن نال منها فوقع، ظل يزحف على بطنه ويصرخ بأعلى صوته إلى أن فقده، وسط ضحكات مارد الزمن التي أخذت سمعه وهو حبيس البئر السحيقة لا يسمع أحداً ولا يسمعه أحد". دع عنك الأثر النفسي وأنا أصطحب قدمي خلفي أثناء ذهابي إلى الحمام، بعبارة واحدة كنت عاجزاً مؤقتاً عن المشي وأنا في الثلاثين من عمري. الأصعب من الموت أن تشعر أنك دخلت في النفق المظلم، وترى الحياة تعاد في مشاهد؛ تراها من وراء كاميرا مخرج سينمائي، تستشعر الجميع مرة واحدة، من رحلوا ومن على قيد الحياة، تدرك أدق التفاصيل لأشياء لم تكن تراها، تشعر بانسحاب الروح من أوصالك، بتثاقل جفونك، وإغفاءة عينيك، تدرك ثقل الجسد، تلمس ظلك، ورغم كل هذا تخرج من هذه التجربة حياً، وقتها لن تعود إلى الحياة هذا الإنسان الذي كنته.

بوابة الزيف

لم يكن طبيبي يعلم بالطبع أن وراء "الحزام الناري" ضغط العمل المتواصل الذي لم أعد أتقاضى عليه أجراً منتظماً، في ظل مؤسسة وقعت في فخ الفشل والإفلاس، لظروف متعددة، ليس لها علاقة بقلة من الصحفيين المحترفين المتورطين في العمل بالصحيفة إلى جوار تنابلة السلطان، بقدر علاقتها بظروف التضييق على الساحة الإعلامية في وطن لا يقدَرُ له النهوض. لكن أصحاب الصحيفة كانوا متمسكين بها، فقرروا أن يستمتعوا بحفل شواء الكادحين، ليظل اسمهم يطرح في الأسواق بشكل يومي، يديرون من خلفه رأسمالهم الذي يقدر بالملايين، ويحققون من وراء "مجلة الحائط" المسماة زيفاً وادعاءً "صحيفة"، وجاهة اجتماعية تصدِّرهم للدخول من بوابة الزيف وليكونوا في صفوة المجتمع الذي لفظهم فعلياً وجعلهم في المؤخرة. فمن مساخر رأسماليي هذه المرحلة وأنصارهم أنهم كثيرو الحديث عن الخير والمثل والعدل والمعايير، وما يجوز وما لا يجوز، ولا نرى منهم غير الخبث والمراوغة، بعبارة واحدة يستلهمون صورة الملائكة ويتلذذون أفعال الشياطين.

بين المترو والنقل العام

ما إن ينتهي المصلون من أداء صلاة الفجر إلا وتجد كثيراً من سكان القاهرة الكبرى، (البالغ عددهم 22 مليوناً ونصف المليون في 2016، وفقاً للجهاز المركزي)، يتحركون نحو محطات مترو الأنفاق، إحدى أكثر وسائل المواصلات استخداماً في العاصمة، للحاق بأول مترو في تمام الساعة الخامسة، لتبدأ المتاهة في أكبر مدينة عربية مساحة وسكاناً في الدوران، وتطحن في طريقها الغافلين والحيارى. Intext-instinzaf-2Intext-instinzaf-2 تبدأ أولى رحلات مترو الأنفاق في الخامسة فجراً، (يقل يومياً نحو 3 ملايين ونصف المليون مواطن في 2016، بحسب وزارة النقل)، لتعلن بدء رحلة التيه للمواطنين، واستنهاض ما تبقى من قواهم للشروع في استنزافها، التي غالباً ما تكون بلا معنى أو هدف. كل منهم وراءه من الهم ما وراءه، ولو أنك من رواد المترو أو هيئة النقل العام ستلحظ، دون عناء أو ذكاء، حركة المواطنين بشكل آلي أثناء التوجه كالآلات نحو المترو أو أتوبيسات النقل العام، وهم أنصاف نيام من فرط الإرهاق، بعدما فقدوا لذة الحياة تحت وطأة استنزاف اليوم السابق، فأغلبنا نحن المصريين يعمل في مهنتين كى يستطيع تغطية مصاريف الحياة والأولاد تحت كرباج الأسعار الذي يكوي ظهورهم به الرأسماليون، وهم يستمتعون بحفلات الشواء الخاصة لضحاياهم، لتزيد كروشهم وتمتلئ خزائنهم سحتاً.

الصخب الكبير

اهبط من الباص أو الأتوبيس لتجد نفسك محاطاً بهالة من ضجيج السيارات الذي يرهق الجميع، ويصنع صخباً غير محتمل، لا يخلو من تحرشات الجنسين، شاب يعاكس فتاة، سيدة تتشاجر مع أخرى، رجل يناور في آخر، شباب يهرجون باستهتار وسط الجموع دون أدنى مسؤولية عما يجري من حولهم.

المطاردة

تذهب إلى عملك لتجد الموظفين وقد جاءوا بما لذ وطاب من عربات الفول، الوجبة الأم لدينا نحن المصريين، باستثناء أولئك الذين أحكم القولون قبضته عليهم. لاحقاً تبدأ رحلة الشاى، ليكون الجمهور أمام هذه الشبابيك أو المكاتب بعد دقائق، هذا إن كنت موظفاً، أما لو كنت صحفياً فهذا شأن آخر له دوي في صالات التحرير الصباحية لمطادرة الأخبار هنا وهناك. كما أن لفئة السائقين طقوساً لها خصوصيتها، الكل يناورون ويهادنون ويحاربون ويطحنون من أجل لقمة العيش لينتصف اليوم، ويذهبوا لأعمال أخرى ربما يتبادلون فيها الأدوار، وإن لم يخل الأمر من تعصب هذا على هذه، وهذه على هذه، فلا شيء يعلو على ضجيج العاصمة، صاحبة المركز الثاني أفريقياً والسابع عشر عالمياً على مستوى التعدد السكاني.

ينتهي اليوم كما بدأ

ينتهي اليوم في المساء بالناس نياماً بالمواصلات العامة كما بدأ بالناس نياماً أيضاً في الصباح الباكر؛ أقدام تحمل فوقها أجسادًا منهكة، تذهب إلى أَسرِتها مرهقة، ورغم ذلك يظل الأرق يراود الكثيرين منهم عن نفسه، مطاردات تتضمن تفاصيل اليوم، تترجم كل هذا الصخب والضجيج من العقل الباطن للعقل الواعي، ليظل العقل يحرث في بحر الحياة يقظة ومناماً. أخبره الطيب عن المآسي والويلات التي سيواجهها، حدثه عن الصراخ والعويل المكتوم بداخله، حذره من كونه يلقي بنفسه في الجحيم وهو يدرك صنيعه، ظن أن المريض غلبه أمره ولم يعد يصغي إليه أو يسمع سوى صدى صوته. كال له عدد من الأمراض النفسية والعصبية التي يمر بها، وفاته أن المريض لم يكن لديه اختيارات بديلة بل كان عهده مع الحياة مساراً إجبارياً. شخّص كل ما يمر به وغفل أنها حالة مغامرة متمردة لا بديل عنها قد تبدِلُ الأدوار بينهما. كيف تمر أيام الحياة في بلادنا يا ترى؟ وما عساها أن تكون غير ملحمة استنزاف كبيرة؟ من منا نجا أو ينجو على الدوام من هذا المهلكة، وكم مرة؟ وما نسبة تأثره بها بشكل مباشر أو غير مباشر. نحن نعيش على قضبان قطر الحياة، إن لم نكن نحن القضبان، نحيا على الهامش فمتى يقدر لنا أن نكون في قلب الحياة، هذا هو السؤال الذي نقضي الحياة بحثاً عن إجابة قد ترضي عبثية المشهد والفوضى التي تدب بين أركانه.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image